4
وإن الكاتب ليعود في الفقرة التالية إلى بذاءته، فيقول: إنا إذا لم نرع الآلهة تمام الرعاية فإنه يخشى أن يقطعنا زيوس إلى نصفين مرة أخرى (ونظريته في الحب إننا كنا من قبل منتصفين، وأن الأنصاف تسعى دائما إلى اتحادها)، ثم نسير بعد ذلك - كما يقول - أشبه ما نكون بالصور التي يرسمها الفنانون على الأعمدة، أنوفنا مشقوقة في وسطها، ولست بحاجة إلى القول بأن المرء حينئذ لا بد له من الوثب بساق واحدة. هذه عادة من عادات التمدن: وهي أن يتخلى المرء عن الوقار وهو في حالة الجد، وهي حالة تدعو إلى الحيرة الشديدة.
أما حديث أجاثون، فقد كان غنائيا جميلا فصيحا، وهو يبدأ بقوله هناك فارق بين أن تخاطب الجمهور في مسرح وأن تناشد مستمعين ناقدين حقا. إنه يقول: «بالتأكيد يا سقراط، إنك لا تحسب أن الزهو بانتصاري في المسرح قد بلغ مني حدا يجعلني أجهل أن قلة من الناقدين الأكفاء يخشى العاقل بأسهم أكثر مما يخشى مجموع الناس في الطريق». وهذا الرأي يبدو لي أنه يشير إلى إحساس بالقيم، ولكنه فتح لسقراط بابا للسفسطة والدعابة، التي أوقفها فيدرس بقوله: «إنك يا عزيزي أجاثون لو دخلت في نقاش مع سقراط، فلن تبلغ بهذا النقاش إلى نهاية؛ لأنه لا يفتأ يواصل الجدل في أي موضوع مع أي مخلوق - أو على الأقل مع أي مخلوق جميل الصورة، وأؤكد لك أنه من الممتع دائما أن تستمع إليه وهو يتحدث، ولكني في هذا المساء لا بد أن أضمن أن «الحب» (موضوعنا المختار) لن يكون محلا لغدر». وهكذا يواصل أجاثون حديثه ويقرر أن الحب كغيره من الموضوعات يمكن أن يجعل من أي إنسان شاعرا، ويروي تأييدا لذلك بيتا من الشعر من نظمه ينم عن تأثير يوريديز. «مهما يكن المرء ثائرا فيما مضى فإن لمسة الحب تجعل منه شاعرا».
فيهيئ بذلك الفرصة فيما بعد لسقراط ليسخر من أستاذ أجاثون الذي لم يكن يحبه، وبعدما انتهى أجاثون من الإفضاء بكل آرائه الجميلة، رد عليه سقراط قائلا: إنه يستحيل عليه أن يفي بما وعد. «إن مثل هذا الثناء لا أفهمه، ولجهلي قبلت أن أنظم المديح».
وصاح بصوت مرتفع على طريقة يوربديز قائلا:
بلساني قط وعدت، ولم أعد بعقلي.
وعندما أصغي إلى أسلوب أجاثون المنمق رفع أحد حاجبيه، وبدأ حديثه المشهور عن طبيعة الحب، والحديث رائع، وإن كان في ذوقي يتسم بشيء من السفسطة، وربما كان مما يستحق الذكر كعلامة من علامات المدنية أن المتكلم في أشد لحظات حديثه حرارة يسخر ضاحكا من حذلقة السفسطائيين المحترفين، أعدائه، وفي أعقاب حديثه يندفع إلى الداخل القبيادس، مخمورا إلى الغاية، تتبعه عازفات الناي، ويتقدم لتويج أجاثون، وبعدما ينتهي من ذلك يقول: إنه يبقى معهم إن أقبلوا على الشراب، وينصرف إن لم يشربوا؛ فيستبقونه بطبيعة الحال. إن الفلاسفة الحقيقيين يستغلون طرفي الحياة.
ويقبلون على الشراب، ويتبادلون المزاح في مهارة فائقة في شئون حبهم، ويبدون تفوقا رائعا يعلو على أقوى لون من ألوان العواطف البربرية جميعا - وأعني به الغيرة، ثم يقول أركسيماكوس: هل هذا عدل؟ وهل من الإنصاف أن يشاركنا القبيادس دون أن يسهم في لهونا؟ ليدل هو الآخر بحديث في مديح الحب. ويرد القبيادس قائلا: إنه يكلفني حياتي أن أثني على أي أمر من الأمور سوى سقراط في حضرة سقراط؛ فيجيبه : حسنا إذن، عليك بمدح سقراط، وهنا يأتي الحديث الذي بعث في دكتور جويت أشد القلق. إن القبيادس يروي - في شيء من الدقة - قصة ميله الشديد إلى سقراط الذي لم يعد عليه بنفع ، بينما ينتحي سقراط ناحية، ويبتسم ابتسامة دقيقة كما أتخيله، ولم يكن القبيادس بالتأكيد خجلا من مشاعره، وحيث إنه لم يغفل عن أن مشاعره ستبدو لأصدقائه مضحكة إلى حد ما، حيث إنه لم يخطئ فيأخذ نفسه مأخذا جديا أكثر مما ينبغي، فإن اعترافاته جميعا لم تقع من نفوس أصدقائه موقعا ثقيلا مؤلما. كان صريحا، مسليا، لا يشعر بالعار الشديد، وإن كان قد شعر باليسير منه، فهو يشعر به حينما يتهمه سقراط بتقليده العامة في تهليلهم أكثر من إخلاصه للحق والجمال، وهنا - في النهاية - نقف عند أمر يبدو مشينا للرجل المتمدن؛ ذلك أن القبيادس يختتم قصة ويلاته برجاء أجاثون ألا يقع في حب سقراط خشية أن يلاقي مصيرا كمصيره، وهنا نجد سقراط بانتظاره معلنا أنه توقع منذ البداية ألا يكون هذا المديح سوى حيلة ماكرة؛ لكي تسيء العلاقة بينه وبين أجاثون، ولكي يصلحوا ثلاثتهم
5
ما فسد يتقارعون - وكانوا يجلسون معا - مقارعة لطفيفة أيهم يمدح الآن الآخر، ومن يجلس إلى جوار الآخر، ولا يوقفهم عن المقارعة إلا تدفق حشد من المعربدين لم يدعوا إلى الحفل «ويسود المكان كله هرج ومرج، ويختل النظام، ويشعر كل حاضر بضرورة الإدمان في الشراب».
Bog aan la aqoon