مميزاتهم: تتويج العقل
يرى المؤرخون أن خطاب بركليز - الذي واسى فيه الثكلى من مواطنيه بذكر فضائلهم التي يتميزون بها - يتضمن لب المدنية الأثينية، غير أن المؤرخين يخطئون التفكير أحيانا. إن خطبة بركليز أداء جميل يوحي بجو جميل، ولم يكن ليستطيع إلقاءها إلا رجل عظيم يخاطب بها رجالا يعلون كثيرا فوق متوسط الفكر والشعور في العصر الحديث، وإنها لتنبو في مجلس العموم كما تنبو في مؤتمر اتحادات العمال، ولكني لن أتوجه إلى أي خطاب أو إلى أي رجل سياسي باحثا عن أمر دقيق كلب المدنية. إن الخطب السياسية قد تكون مظاهر للمدنية، وكذلك قد تكون القوانين، والقبعات، وفنون الطهو، ولكنها لن تكون معبرا عن روحها، وأدنى إلى صواب الرأي أن نكشف عن سر أثينا خلال ما كتبه أرستوفان، ويوربديز، وأفلاطون، وتقاليد السفسطائيين، لإخلال خطب بركليز، وإيسوقراط، وفوكيون، وإن كنا نأمل في العثور على ذلك الزعفران الذي يخلع على الثقافة الهلينية طعمها ولونها، فسنجده عند الشعراء والفلاسفة والمؤرخين، ولست أقول إنا لا نجده إلا عند هؤلاء، بل ولست أقول إنهم كانوا أهم الناشرين لهذا اللون، بل على العكس من ذلك أتعشم بعد قليل أن أبين أن ينبوع المدنية يتفجر عن مصادر ومستودعات غير معروفة - من نوع معين - ولو أنها تصب في مسالك معروفة، وأن أبين أن ناشري الثقافة جماعة من الرجال والنساء أكثرهم لا ينشئ عملا محسوسا ولا يترك أثرا ملموسا، وإن كانوا ينشرون الأثر الذي يتبدى في روح العصر. وعلى أية حال، فمن السخف أن نجعل من السياسي ممثلا للحركة الروحية أو العقلية. إننا لا نحكم على مبدأ النفعية، وهو من إنتاج تفكير آدم سمت وريكارد وبنتام وملز، من خطب هبهاوس ومستر روبك، ومن خطب مستر كوبدن ومستر برايت. كما أن ترجو ونكر - برغم عظمتهما - لا يعطياننا إلا فكرة ناقصة عاجزة عن الحركة «الفلسفية». إن إحياء العلوم وحرية الفكر في شمالي أوروبا كان شيئا يختلف كل الاختلاف عن دعاية لوثر الصاخبة وانتهازية فردريك السكوني وهنري الثامن. إن رجال السياسة - في أوقاتهم - يلمعون في الأفق كما يلمع الممثلون وراكبو الخيول، ثم يتوارون عن أعين الجمهور كما يفعل هؤلاء، ولا يعرفهم بعدئذ إلا الباحث المنقب المتطلع وحده. «سخرية في حياتهم، منسيون بعد مماتهم».
وإذا صدق الشق الثاني من هذا الاقتباس، فلا بد أن يصدق الشق الأول؛ إذ ليس أدعى إلى السخرية من رجل محكوم عليه بهذا النسيان السريع، يختال اختيال الوزراء؟ ثم خبرني، كم صديق لك يستطع أن ينبئك من كان رئيس وزراء إنجلترا في وقت واترلو، ومن كان وزير الحرب، ومن كان قائد الأسطول. وكم من أسماء الساسة الأحياء العاملين في عام 1815م معروف عند جمهور القراء؟ ربما عرفوا كاننج، وكاسلري (وبخاصة لأنه كان موضع سخرية بيرن وشلي) وربما كذلك عرفوا جراي، ولكن هل يعرف أكثر من اثنين من قادة ولنجتن غير طالب متخصص في التاريخ الحربي؟ ومن كان على رأس الأسطول البريطاني حينما اعتلى نابليون متن بلرفون، ولكن إذا كان المثقفون والمثقفات من الإنجليز لا يعرفون اسم رئيس الوزراء الذي انتصر في حروب نابليون فيما يظن، ولا يعرفون أسماء زملائه الوزراء، ولا أكثر من اثنين من قواده العسكريين، ولا يعرفون أحدا من قواده البحريين، فإن كل طالب جامعي متوسط يستطيع أن يقول لك إن شلي وبيرون وكيتس وورد زورث وكولردج وسذي ولام وهازلت وسكت ومور ورجر زوجين أوستن كانوا يكتبون في ذلك الحين. وتفسير ذلك يسير: إنهم يذكرون هؤلاء لأنه كان لهم - ولا يزال لهم - أثر حقيقي مباشر على عقول الناس، ولأنهم لا يزالون يخلقون الأفكار والمشاعر الجديدة ويستثيرونها، وما برحوا يوحون إلينا بوجهات نظر جديدة، أو يغيرون وجهات قديمة، بل ولأنهم ما فتئوا يضيفون الآن جديدا إلى مستودع الخير في هذه الدنيا. أما رجال السياسة فهم - في أحسن الظروف - لا يقومون إلا باستخدام وسائل الخير التي أنتجها غيرهم وتوزيعها بين البشر. ولكنهم لا يخلقون قط جديدا. وهم لا يذكرون قبل كل شيء إلا بسبب الحوادث الجليلة المسرحية التي ارتبطت بها أسماؤهم، ولكنهم لم يكونوا باعثيها، بل إن هذه الحوادث الجليلة - كما رأينا - لا تنجيهم دائما. إنهم ينتمون - بوجه عام - إلى تلك الطبقة الثالثة أو الرابعة التي لا يمكن أن تلعب دورا رئيسيا في تاريخ الجنس البشري، وإن تكن ربما لعبت دورا مرموقا. إن رجال السياسة يتركون في الأسطوانة خدوشا وندوبا، ولكنهم لا يبدعون النغم. إنهم لا يبتكرون ولا يستنبطون ولا يعدلون كثيرا من تلك الدوافع المحسوسة المنبعثة عن العقل البشري والتي يتشكل بها تاريخ الإنسان. ومن الخطأ إذن أن نتوقع منهم أن يكونوا من بين أولئك الذين يبدعون المدنية، وإن كنا كثيرا ما نجدهم مظاهر لها دلالتها لتلك المدنيات التي هم جزء منها.
ومن أجل هذا، فلن أتوجه إلى بركليز ألتمس عنده سر المدنية الأثينية، وإن كان يسرني أن أعده مثالا لما يمكن أن تنتجه المدنية الأثينية. وفي خطابه جزء واحد أود أن أركز عليه اهتمامي لأن الظاهر أنه يعبر على وجه الدقة عما كان يحسه الأثينيون إزاء أولى وأهم صفة من صفات المدنية التي تنبع من تتويج العقل - وأقصد بها «التسامح». يقول بركليز: «إن روح الحرية تسود شئوننا العامة كما تسود شئوننا الخاصة. إننا دون أدنى غيرة نتسامح في الاتجاهات الخاصة بجميع ضروبها في حياة كل منا: ولا يعارض أحدنا في أن يسير جاره وفق مزاجه: ولا ينظر أحدنا شزرا، نظرات تضايق وربما لا تؤذي».
1
إن هذا النوع من التسامح، وهو من أقوى الدلائل على رقي المدنية، لا يتأتى إلا من الثقة في العقل، فإن حسن الذوق لا يكفي. إن الإحساس بالقيم قد يؤدي بطرق ملتوية إلى الإحساس بضرورة الحرية الشخصية، إلا إن الأساس الثابت الوحيد للتسامح هو الإدراك الذهني الواضح؛ لأن العقل وحده هو الذي يحق له أن يحد من الحرية. العقل وحده هو الذي يستطيع أن يقنعنا بتلك الحقائق الأساسية الثلاث التي لن تكون هناك حرية فعالة دون إدراكها، وهي إن ما نعتقد فيه لا يتحتم صدقه، وإن ما نحب لا يتحتم أن يكون خيرا، وإن كل فرض محتمل. إن إحساسنا بالقيم يجب أن يبين لنا أننا لو حرمنا على أي فرد أن يعبر عن نفسه تعبيرا كاملا أفقرنا حياتنا، ولكن العقل وحده هو الذي يقوى على الحد من تلك الرغبة الجامحة - التي تكمن في صدر كل منا - في إرغام الآخرين على أن يكونوا على غرارنا. ينبغي أن يكون العقل هو الحكم الوحيد، والعقل يسمح لنا بألا نحد من التعبير الذاتي عند الآخرين إلا بمقدار ما يمكن التدليل - عقلا - أن مثل هذا التعبير الذاتي يهدم من أسباب الخير أكثر مما يبني.
إن إحساسنا بالقيم يحملنا على أن نشعر بالرغبة في توفير أكبر قسط ممكن من التعبير الذاتي لكل إنسان؛ ومن ثم وجب علينا أن نتسامح لا فيما يرى غيرنا فحسب، بل كذلك في طرائق سلوكهم في الحياة. •••
إن شعار المدنية عند الأثينيين، وهو من أروع ما يفخرون به يتمثل في هذه العبارة: «لسنا أحرار الفكر في السياسة وحدها. إننا دون أدنى غيرة نتسامح في الاتجاهات الخاصة بجميع ضروبها في حياة كل منا، ولا يعارض أحدنا في أن يسير جاره وفق مزاجه، ولا ينظر أحدنا شزرا، نظرات تضايق وربما لا تؤذي».
وإذا قلت لي: إن الأثينيين حكموا على سقراط بالموت ما حققت بهذا القول هدفا طيبا؛ فأنا أعلم ذلك من قبل، ولكن إذا كان عصفور واحد من عصافير الجنة لا يخلق جو الصيف، فإن ثلاثة أيام مظلمة لا تخلق الشتاء، إن الأثينيين - بما كان لديهم من حرية الفكر والنقد، واتساع آفاق العقل، والتطلع إلى المعرفة، واستساغة التجريب - قدموا مثالا حاولت خير العصور المقبلة عبثا أن تحاكيه، إن خير عقول الغرب تتجه دائما نحو أثينا تلتمس الوحي والتشجيع. أثينا وحدها تقدم لهم ما يقرب إمكان تحقيق آمالهم في المثل العليا؛ لأن الشهوة الجامحة للحق والجمال نالت شيئا من التحقيق العملي في أثينا وحدها. كان الأثينيون يهتمون بغريزتهم بالجمال ويؤمنون بالحق، وقد أعطاهم هذا الإيمان شيئا يفضل استساغة الحرية. أعطاهم الاعتقاد في ضرورتها المطلقة. كان عند الأثينيين دين للدولة لا تعوقه المذاهب كثيرا، بل ولم يعتنقه في حماسة أصحاب العقول النافذة بعد منتصف القرن الخامس. كان دينا يبدو أنه لم يقف إلا في وجه سقراط - وفي وجه أنكساجوراس لفترة ما - فحال دونهما وحرية التأمل. كانوا بحاجة إلى تقديس محرم أو محرمين قديمين تقديسا رسميا، إلا إن الناموس الأخلاقي الوحيد الذي وضعه القانون والرأي العام موضع الاعتبار العظيم هو ناموس الأخلاق العملي. كان يطلب إلى المواطن ألا يرتكب أفعالا تنافي المجتمع منافاة شديدة، غير أن الأثينيين لم يقصدوا بالأفعال التي تنافي المجتمع أي شيء تمقته الأغلبية أو تسيء فهمه. فلم يعارض أحدهم في أن يسير جاره وفق مزاجه. لقد حاولوا أن يكونوا متسامحين.
وحينما أقول: إن تتويج العقل صفة لازمة من صفات المجتمع الضالع في المدنية، فإني أرجو ألا تتصوروا أني أفترض أن كل أثيني ينظر إلى كل موضوع يمر بحياته نظرة عقلية بحت. لا تتصوروا أن يوليس قيصر حينما قال: إن البلجيكيين جنس شجاع كان يفترض أن كل فرد بلجيكي كان جسورا كالأسد، ومن المؤكد أن القرن الثامن عشر في فرنسا الذي شغف بالعقل أكثر مما شغف به القرن الخامس الهليني كان يعتقد أنا بحاجة إلى تعديلات يسيرة في النظم لكي نجعل كل امرئ سعيدا عاقلا، أما نحن أبناء القرن العشرين الذين نتمتع بكثير من نواحي الإصلاح والثورات المجيدة فلا مفر لنا من أن نكون أقل حماسة، أما الإيطاليون لعهد النهضة، فقد بذلوا قصارى جهدهم لكي يحطموا حواجز عدم التسامح التي كانت قائمة في العصور الوسطى؛ فكان مقياس نجاحهم هو مقدار ما في الرد على أفعالهم من همجية. ولنذكر أن من آراء بروكارت الحكيم رأي له اعتباره وهو أنه فيما بين منتصف القرن الخامس عشر والفزع الإسباني - الذي تولدت عنه حركة إصلاحية مضادة - كان جميع الإيطاليين المتعلمين يبيحون حرية النقاش في الموضوعات التي تشبه خلود الروح، وبطبيعة الحال لم تكن جميع العصور الضالعة في المدنية على درجة واحدة من التسامح غير أنها كانت جميعا تكافح في سبيل بلوغ الضياء، وهم يحسون أن محاولة فرض طرق التفكير والشعور والحياة بالقوة أمر قبيح. لقد أدركوا، على درجات متفاوتة من الوضوح، أن العقائد الجامدة والموت سواء، وكانوا يميلون فيما يتعلق بما تبقى لديهم من خرافة أن يحتفظوا به لأنفسهم. لم يحاولوا كثيرا أن يفرضوه بالقوة أو بالتهديد بفرض العقوبات الخلقية. كانت النهضة من غير شك - بما لديها من اعتقاد في التنجيم والأدوية الخرافية التي تولد العشق - تؤمن بالخرافة، ولكنها كانت في ذلك أقل من العصور الوسطى بدرجة كبيرة، ومن المواطنين الأثينيين عدد كبير لم يكن يؤمن بالخرافة، بغض النظر عما كانت عليه الحال مع الرعاع المولعين بالألغاز وأكثرهم من الرقيق، أما القرن الثامن عشر في فرنسا، فلم يكن متشككا فحسب، بل اعترف بالخرافة كما كانت قائمة - واعتبرها العدو اللدود لما يجعل للحياة قيمتها - «إنه عار يجب أن يسحق».
Bog aan la aqoon