Macquul iyo Ma Macquul
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
Noocyada
أريدك - أيها القارئ - ألا تنسى أن الحرب كانت بين فريقين؛ في أحدهما أم المؤمنين عائشة، وفي الآخر علي بن أبي طالب الذي كان موقعه من النبي عليه السلام ما كان! فهل تصدق أن يقوم الزبير وطلحة في الناس، يستحثونهم على استئناف القتال، فيقولا في علي: إنه لا يبقي حرمة إلا أنهكها، ولا حريما إلا هتكه، ولا ذرية إلا قتلها ولا ذوات خدر إلا سباهن!
وبعد الهزيمة أخذت عائشة كفا من حصى، فحصبت به أصحاب علي، وصاحت بأعلى صوتها: شاهت الوجوه! فقال لها قائل: وما رميت إذ رميت، ولكن الشيطان رمى!
فمن منا - نحن أبناء هذا العصر الحاضر، الذين ملئت نفوسهم رهبة من هؤلاء الأوائل كادت تبلغ بهم حد التقديس والعصمة من الخطأ - من منا يرى هذا التقاذف بكلمات هي من أغلظ اللفظ، بين ناس هم من هم في قلوبنا، ثم لا يأخذه العجب والذهول؟!
على أن موضوعنا هو أن نضع هذه الصورة أمامنا، فنفهم فهما جيدا كيف تستثار العقول يومئذ لسؤال يسأل: إذا كان أحد هذين الفريقين من صفوة المسلمين على خطأ - ولا بد أن يكون أحدهما على الأقل على خطأ - وإنه لخطأ أنتج سفك الدماء لعدد كبير من الناس، قد يكونون من الشهداء إذا كانوا مع جانب الحق، وقد يكونون من الضالين إذا كانوا مع جانب الباطل، فماذا يكون حكم العقل في ذلك كله؟ فأولا: أي الجانبين على حق؟ وثانيا: ما حكمنا فيمن يكون على باطل؟ وثالثا: أفي مستطاعنا أن نهتدي إلى قاعدة نظرية في أحقية الخلافة لمن تكون؟
14
لقد اخترت مدينة البصرة في أوائل القرن الثامن الميلادي (الثاني الهجري) لتكون هي موضع الوقفة الثانية التي أقفها مع الآباء الأولين؛ لأرى فيم كانوا يفكرون وعلى أي نحو يفكرون، وقد كانت وقفتي الأولى معهم في معركة صفين - كما بسطت القول في الفصل السابق - وها أنا ذا أنظر فأرى أول ما أرى حالة من التوتر العقلي تثير القلق في نفوس الناس، وتحول بينهم وبين أن يستقروا معا على رأي واحد؛ فقد أحسوا الحيرة - كما أحسستها أثناء قراءتي عن أحداث تلك الفترة التي أردت الكتابة عنها - أحسوا الحيرة: تحت أية راية ينضوون؟ فهذا هو علي بكل مكانته من حيث هو أولا، ومن حيث قرابته للنبي عليه السلام ثانيا، ومن حيث إمارته الشرعية على المؤمنين ثالثا، يقابله على أرض الخصومة أم المؤمنين عائشة زوج النبي، فإلى أي القطبين يذهبون؟ ثم إلى أي الهدفين يقصدون؛ أيقصدون إلى الحفاظ على وحدة المسلمين فيحايدون، أم يقصدون إلى ولاء معين فيأخذون جانبا من جانبي الصراع؟ وهل يعلون من شأن الإسلام باعتباره دينا للجميع يتخطون به حدود الحزازات والمنافسات، أم يعلون من شأن الانتماء القبلي أولا، وبعد ذلك يأتي الولاء للعقيدة الدينية؟
فلا عجب أن ننظر إلى أهل البصرة عندئذ، فإذا هم منشقون على أنفسهم أحزابا؛ ففريق يؤثر مساندة علي، وفريق آخر يفضل الولاء لعائشة فيطالبون بما كانت تطالب به وهو الثأر لدم عثمان، وفريق ثالث يبعد عن المشكلة ويتخذ لنفسه موقفا محايدا. فأما الفريق الأول - وهم المساندون لعلي - فمنهم نشأت «الشيعة»، وأما الفريق الثاني - وهم المؤيدون لعائشة - فمنهم تألف حزب العثمانية، وأما الفريق الثالث - وهم المحايدون - فمنهم تكون الزاهدون المتطرفون الذين أسموا أنفسهم ب«الخوارج» ولعلهم هم الذين أوجدوا حركة الاعتزال (راجع كتاب شارل بلا: الجاحظ، الترجمة العربية للدكتور إبراهيم الكيلاني، ص260). ويقول «بلا» في كتابه هذا (في الصفحة المذكورة نفسها): «إذا كان نيبرج على حق حين قال [في دائرة المعارف الإسلامية]: إن ظهور علي هو الخط الكبير الذي يفصل مجرى تاريخ الإسلام، فإنه بوسعنا أن نؤكد بأن معركة الجمل هي نقطة البدء لكل تطور سياسي وديني لاحق بالنسبة إلى عدد كبير من المسلمين.»
وذلك لأن واقعة الجمل، ومن بعدها واقعة صفين ، أثارتا المشكلة العقلية الأولى، كما أسلفنا القول، وهي: ماذا يكون الحكم السليم بالنسبة للفريق المخطئ من الفريقين المتحاربين؛ إذ لا بد أن يكون أحدهما على الأقل - إن لم يكن كلاهما - على خطأ؛ لأن الضدين لا يصدقان معا، وقد يكذبان معا، على حد تعبير المناطقة، فرأينا ثلاثة حلول مختلفة للمشكلة، كل حل منها أصبح يمثل مذهبا فكريا على طول التاريخ العقلي في تراثنا القديم: (1)
فهنالك المتطرفون إلى يسار، وهم الخوارج الذين زعموا أن كل من قاتل عليا - بمن في ذلك عائشة وطلحة والزبير - فهو كافر، وأن عليا نفسه كان على حق طوال واقعتي الجمل وصفين، إلى أن قبل مبدأ التحكيم فعندئذ كفر هو الآخر مع الكافرين، فها هنا لا وسط في الأحكام؛ فإما صواب وإما خطأ، وفريق الصواب مؤمن، وفريق الخطأ كافر. (2)
وهنالك المعتدلون، وهم جماعة المعتزلة كما بدأت بواصل بن عطاء، الذي فرق بين المبدأ النظري من جهة، وأعيان الأشخاص من جهة أخرى؛ فمن الناحية النظرية المنطقية الصرف، يمكن القول بأن الضدين (الكفر والإيمان) لا يجتمعان معا في شخص واحد، ولكننا من ناحية التطبيق لا نستطيع تعيين الأشخاص الذين يقعون تحت هذا الضد أو ذاك، هذا إلى أن المعتزلة لم يروا أن حقيقة الموقف هي: إما أصاب فهو مؤمن، وإما أخطأ فهو كافر؛ إذ هنالك منزلة وسطى بين الطرفين هي منزلة المؤمن العاصي، الذي لا يخرجه عصيانه من دائرة المؤمنين ليدخله في دائرة الكافرين. (3)
Bog aan la aqoon