Macluumaadka La Yaqaan iyo Kuwa Aan La Aqoon
المعلوم والمجهول
Noocyada
أما أبو الهدى؛ فقد قرع باب السعادة في أول أمره داعيا باسم الدين، وسار في طريق حياته سالكا مسلك المتصوفين، فكان يأتي عبد الحميد كل يوم بعجيبة من العجائب؛ فآونة يبلغه سلام النبي، وحينا يقص عليه رؤيا يزعم أنه رآها ويفسرها له على ما يلائم هواه ويرضيه، ثم يدعي لأبيه ولنفسه كرامات لا وجود لها، وكان عبد الحميد محبا لهذه الأشياء، ويظن أنها من أقرب الوسائل إلى استدامة حكمه. غير أن أبا الهدى تعدى ما كان رسم له، فأفهم سيده أن السالكين طريقة الرفاعي من دراويشه كثيرون في مشارق الأرض ومغاربها، وأنهم يجلونه ويتفانون في حبه، وأنه إذا نابه أمر قاموا عن بكرة أبيهم انتصارا له، فكان عبد الحميد يسمع ذلك فيصدقه أو يضطر عقله إلى تصديقه لأمر يعلمه هو، ولكن حيل أبي الهدى تعدت السلطان إلى غيره، فكان له رجال يبتدعون له الكرامات وينتحلون المعجزات لأبيه. ولقد روى لي الكاتب المصري الشهير المرحوم إبراهيم بك المويلحي نادرة منها قال: كنت ذات يوم عند أبي الهدى. وقد غص مجلسه بقوم من أصحابه وشيعته، وكلهم جلوس كأن على رءوسهم الطير، فأخذ أبو الهدى يحدثنا بأمر وقع لأبيه، قال: رحمة الله على سيدي الوالد، ما أظرف ما كانت تصدق به كراماته؛ خرج ذات يوم شديد الهاجرة في حلب يريد التنزه، فاشتد عليه القيظ وعلم أنه لم يصب في اختيار وقت النزهة، فانثنى راجعا إلى باب داره حتى إذا وافاه جلس على عتبته من فرط ما أصابه من التعب، وأخرج منديلا له وجعل يمسح به عرقه المتصبب على جبينه، وإنه لكذلك إذا برجل يقود حمارا له عليه زنبيلان مملوءان خيارا، فاشتهت نفس سيدي الوالد من ذلك الخيار، وسأل البائع أن يزن له منه رطلين، والرطل الحلبي يساوي أقتين ونصفا، ففعل الرجل، ولما انتهى من وزن الخيار وأخذ ثمنه وهم بالانصراف التفت، فما راعه إلا زنبيلاه وليس فيهما ولا خيارة واحدة، فأخذ الرجل ينوح وينتحب ويقول : أين ذهب هذا الخيار؟ لم يمر بنا أحد فنقول سرقه. فتبسم سيدي الوالد وقال: كم كان بزنبيليك من الخيار؟ قال الرجل: سبعون رطلا، فدفع إليه سيدي الوالد ثمنه وقال: أنا أكلته، فنظر الرجل في وجه الوالد مليا ثم صاح: والله إنك لقطب الزمان وغوثه. وانكب على قدميه يقبلهما، فطيب الوالد الرجل وقال: لا عليك بأس، ولكن عاهدني ألا تبوح بما رأيت لأحد، فعاهده الرجل على ذلك ومضى في شأنه. قال المويلحي: فما أتم أبو الهدى كلامه إلا نهض رجل في أخريات الجالسين وقال: يا مولاي عفوا، إنه لم يكن بالزنبيلين سبعون رطلا بل خمسة وتسعون كما أخبرني به البائع نفسه. قال أبو الهدى: لله أنت، ما أحفظ قلبك، والله لقد أنسانا الزمان ذلك. قلت للمويلحي: يا إبراهيم بك، هذه ليست بكرامة، وإذا صحت الرواية فأبو أبي الهدى جمل أو ثور وليس بغوث ولا شيطان.
وقد كتبت وأنا بالآستانة رسالة صغيرة طبعت بمصر سميتها «الخافي والبادي من فضائح الصيادي»، ذكرت فيها أشياء كثيرة من هذا القبيل لا أرى بي حاجة إلى استعادتها هنا.
وكما انتصر أبو الهدى على خصومه بالوشايات انتصر عليهم بالجرائد، فوجه إلى مصر في نحو سنة 1892 رجلا من دراويشه اسمه السيد كمال الدين الدمشقي، فأتى هذا الرجل إلى مصر محملا بالمال مصحوبا برعاية أبي الهدى وقوته، وكان خليعا ظريفا وسيم المحيا، يمشي وكأنه مروحة في يد الحسناء، فأصدر كمال الدين جريدة القاهرة التي أسسها سليم فارس، ثم نشرها من بعده محمد عارف الكاتب الشهير، فكأن خيبة الجد استكثرت على «القاهرة» سابق «مجدها» فأرادت أن تنزلها بعد الرفعة إلى أسفل الدركات، فأخذت تنشر جريدة القاهرة كل أسبوع بعد أن كانت تنشر كل يوم، وسودت صفحاتها بمقالات الدراويش وأهل المجون بعد أن كانت ترصعها باللآلئ أقلام مشاهير الكتاب في عهد سليم فارس ومحمد عارف، وأتتها قصائد الصوفية مطولة باردة مظلمة كليالي الشتاء.
وقد اشتغلت الدسائس بين مصر والآستانة، فأخذ كثير من الأغنياء يحبون كمال الدين المال ويتخذونه شفيعا إلى أبي الهدى في استجلاب رتبة أو وسام أو قضاء حاجة دخلت فيها المشكلات، وأخذت جماعة من رجال عزت العابد تنتصر بالمعية، وأخذت المعية تطارد كمال الدين. وبذا عرف المصريون من مكانة أبي الهدى ما لم يعرفوا من قبل، فأقبلوا على سفيره المعمم يمشون وراءه، ودخل أبو الهدى أبوابا لم تكن تنفتح له لولا جريدته ودرويشه، فقصد إليه المتنازعون مع المعية في أمر جزيرة طاشيوز، وتحملوا إليه الدراهم، ويممه أصحاب وقف العلماء في قضية الأزهر، ثم تاجر بالرتب والنياشين فربحت تجارته.
أشعر شعراء الترك وأكتب كتابهم الأديب الأعظم نامق كمال بك الشهير.
وكان المرحوم السيد جمال الدين الأفغاني صديقا لأبي الهدى، وكان كل يخاطب صاحبه بيا ابن العم، ولا يصبر أحدهما على فراق الثاني يوما واحدا، فسعى بينهما بالنميمة عبد الله النديم حتى تنافرا، وبلغت منهما العداوة والبغضاء أن بات كل يطلب موت بغيضه؛ ومن هنا بدأت الحروب الصيادية، وتنازل القرنان، ولولا أن المنية تداركت الأفغاني لظلت الحرب إلى يوم إعلان الدستور، وسيأتي الكلام على هذه الوقائع في فصل خاص بها.
ولقد نفع أبا الهدى كثرة حاسديه؛ فاتخذ فرط بغضهم له برهانا على إخلاصه لعبد الحميد، وجعل يوهمه أنه لو كان خائنا مثلهم لما أبغضوه. وما أراح ذلك عبد الحميد، ولكنه أظهر الارتياح، فصاحبه على ريبة من أمره، ثم خافه على نفسه، فبات يدبر له ما يرديه. غير أن أبا الهدى أحس بالشر وعلم أنه إن وقع مرة لن تقوم له بعدها قائمة، فأسر إلى قوم يعلم أنهم لن يحفظوا له سرا أن عنده صورة فتوى بخلع عبد الحميد من شيخ الإسلام المرحوم عرياني زاده مكتوبة بخطه مذيلة بخاتمه، وأنه لا ينشرها إلا إذا أوجس على نفسه خيفة. فنقل هذا الكلام إلى عبد الحميد، فهاج له وساوسه واستطال سهاده وحال بين أبي الهدى والهلاك، وكان أبو الهدى كثير الدالة على سيده، فكثيرا ما قاطعه أسابيع لا يطأ فيها بساطا له، وإذا كتب يسأله عن أمر لا يرد عليه جوابا حتى يسترضيه سيده بحاجة يقضيها له.
وكان أبو الهدى يركن في الشدائد إلى رأي ابنه حسن خالد بك؛ وهو شاب ظريف سهل الخلق ذكي الفؤاد حاضر البديهة، يشبه أباه وجها لولا لحية كثة كست عارضي أبيه، ولم تنبت بعارضيه. جرت عادة هذا الشاب أن يذهب إلى قصر يلديز ويطوف بدوائره ويتجسس على رجال القصر كلهم. وقد برع في استراق السمع واختلاس ما يكتب بنظرة ترتد إليه بعدما ترود خلال كتب الغيب، فيرجع إلى أبيه وعنده النبأ اليقين بما كان وبما يكون.
وكان لأبي الهدى جاسوس آخر اسمه جميل، حلبي الأصل، زوجوه جارية من جواري عبد الحميد، واستخدموه بإدارة الجمارك (أمانة الرسومات)، وجعلوا له راتبا للتجسس، فكان هذا الرجل لا يرفع وشاية إلى عبد الحميد إلا باستشارة الصيادي، فأمسى الصيادي وله جاسوسان: أحدهما ابنه يأتيه بأنباء سيده، وثانيهما جميل الحلبي ينقل عنه إلى عبد الحميد ما يتفقان على نقله.
على أن أبا الهدى مع ما ذكرته عنه من تعدد موارد رزقه وتيسر الكسب له لم يكن ذا وفر، بل كان كثير الديون، إذ اضطرته مواقفه مع خصومه إلى الاستمرار على التبذير، ثم كلفه بالتشبه بأهل السماحة وإظهار الأريحية والجري على سنن الكبراء من السلف في إجازة المادحين وفتح باب داره للقاصدين من الضيوف والدراويش كان يستنفد ما في خزانته، فيقترض من رجل صيرفي اسمه توفيق أفندي الداغستاني. هذا ولم ينل صلة من عبد الحميد إلا فرقها على الخاصة من شيعته القائمين بأمر دعوته.
Bog aan la aqoon