Macluumaadka La Yaqaan iyo Kuwa Aan La Aqoon
المعلوم والمجهول
Noocyada
وكان عبد الحميد وأعوانه يتسلون عن إدراك أمانيهم في جلب الأحرار والانتقام منهم بأن ينتقموا من إخوانهم الذين هم في قبضة أيديهم، فما اتهم أحد من أولئك المساكين بمراسلة الأحرار أو أخذ صحفهم أو الكلام عنهم تلميحا أو تصريحا إلا أخذوه إلى دار التعذيب، فأثقلوا قيوده وشدوا وثاقه وأروه من صنوف الأذى ما يقضي به نحبه بين أيديهم. وإنما كان يجرؤ عبد الحميد على تلامذة المدارس ممن لا يتوسم فيهم القدرة على الكتابة ولا على الهرب، وكذلك من لا شهرة لهم من صغار المأمورين. أما الذين يبلغه عنهم أنهم من رجال القلم ومشاهير الكتاب فيكفيه منهم أن يتوعدهم ويبث لهم من يراقبهم ويأتيه أخبارهم، وربما ضاقت الحال ببعض الأدباء ولم يجد سبيلا لاستزادة راتبه، فيكتب إلى عبد الحميد يقول له: إن اشتداد الأزمة عليه ومراقبة الجواسيس له وتكاثر الأعداء يضطره إلى ترك وطنه واختيار الغربة، وأن مثله لا يعاني كبير كد في الاسترزاق بعلمه وفضله إذا يمم أرضا يعيش في أكنافها أمثاله. فإذا اتصل هذا الوعيد المستظرف بالملك الأحمر بادر لوقته فاستدعى المتوعد إلى قصره وأجزل عطاءه ورفع درجته ووعده خيرا.
كان فخري بك المصري متهما عند السلطان بأنه من حزب تركيا الفتاة. ولقد سأل السلطان مرارا واستعطفه كثيرا ليأذن له بالسفر إلى مصر ليصلح شئونه ويتعهد أراضيه وأملاكه، فظن السلطان أن فخري بك يريد السفر ليتحد مع الأحرار في محاربته. وإذ كان فخري من أهل الثراء والفضل أيقن عبد الحميد بصحة ظنه، فلما زار الآستانة سمو الخديوي في سنة من السنين توسط في الاستئذان لفخري بك، فنال الإذن وأحضره معه على يخت المحروسة. فانتبه لذلك أحد الأدباء الفقراء، ورأى فرصة لا تسنح كثيرا، فاستكتب أحد المصريين الذين كانوا هربوا من مصر إلى الآستانة تقريرا يقول فيه للسلطان: إن الكاتب المعروف فلانا كتب كتابا إلى فخري بك المصري يعده فيه بالسفر ليلحق به، وأن قد جعل فخري راتب ذلك الكاتب عشرين جنيها شهريا، وأن الكاتب على أهبة السفر. وقال: إذا كان أمير المؤمنين يشك في صدق عبده هذا فما عليه إلا أن يصدر أمره إلى إدارة البريد العثماني في «غلطة» ولا يلبث أن يؤتى له بذاك الكتاب، فأخذ المصري المتجسس تقريره ورفعه إلى عبد الغني (آغا دار السعادة) إذ ذاك، فصدرت الإرادة إلى إدارة البريد، وجيء بالكتاب وظهر صدق الجاسوس، فجاءه شكر من السلطان على إخلاصه ولم يحسن عليه بعطية أبدا، وجيء أيضا بالأديب المتهم وسئل عن الأمر، فاعترف معتذرا بشدة الحاجة وما يعانيه من ضيق ذات يده، فأمر له السلطان بعطية سنية قدرها خمسون جنيها وأدخله في إدارة الأملاك السنية براتب لا يقل عن العشرين جنيها، فلما بلغ الجاسوس ما جرى أسرع إلى صاحبه فهنأه وطلب له المزيد، ثم قال له: كنت وعدتني بأن تعطيني نصف ما تأخذه من السلطان. وقد أخذت خمسين جنيها، فهات لي النصف.
الكاتب: لم يجر بيننا كلام مثل هذا، وإني لأنهاك أن تعود إلى مطالبتي بما ليس من حقك.
ففارقه الجاسوس ساخطا ناقما، وذهب من ساعته إلى قصر عبد الحميد وأخبر عبد الغني أن ما أتاه به أول مرة كان تواطؤا بينه وبين الكاتب، وأن لا مخابرة بينه وبين فخري بك، فلم يجده اعترافه هذا نفعا ولم يلحق بالكاتب ضررا، وخرج من القصر مطرودا، وما بقي له إلا إثم التجسس.
ولما استمر مراد الطاغستاني على إصدار «ميزان» بمصر ثم «جنيف»، ونشر في جريدته أحاديث جرت في «يلديز» بين خاصة عبد الحميد، وأخذ يسمو إلى أن نشر أحاديث جرت بين عبد الحميد نفسه وبين مقربيه، غير مضيع منها حرفا، كبر الأمر على المستبد وعلى رجاله، فداخله الريب حتى في أمنائه، وشك المقربون بعضهم في بعض، وزادت الوشايات عن ذي قبل؛ فلا الصديق يثق بصديقه ولا الوالد يأمن على سره ولده، وعظم الوجل واشتد الحرص في القلوب. فلما كثرت الظنون وتنوعت أخذ البعض يذهب إلى أن لمراد رجالا حتى في قصر السلطان يوافونه بأخباره، وزعم بعضهم أن بالآستانة بل بقصر الملك جمعية خفية تتآمر على اغتيال عبد الحميد؛ فمن قائل إن ولي العهد هو رئيس تلك الجمعية، لا بل رئيسها هو المشير فلان أو الوزير فلان، وكثرت تقارير الجواسيس على عبد الحميد إلى أن عجز عن استيفاء قراءتها كلها.
صاحب القانون الأساسي العثماني وشهيد الحرية مدحت باشا.
وقد طمحت نفس الاستبداد إلى أكثر مما تقدم؛ وذلك أن عبد الحميد كان اشترى بعض الصحف الأوروبية والعثمانية، وخصص لأصحابها رواتب لتدافع عنه وتحارب له الأحرار. وهذه الجرائد المشتراة بدماء العثمانيين لتكذب على العثمانيين وتمتهن العثمانيين موجودة إلى اليوم، لم تحتجب منها إلا قليلات كانت تبدو بمصر، وكان أصحاب هذه الجرائد يذهبون إلى الآستانة كل عام، فيقضون بها أياما وشهورا يحتالون على عبد الحميد، فيسرقون دراهمه، ويحتال هو عليهم فيسرق قلوبهم، وكل يظن أنه يغش صاحبه، وكل صادق وكل كاذب نفسه. إلا أن عبد الحميد انتصر على الأحرار بهذه الجرائد؛ فلقد احتقرها أكثر الناس استخفافا بأربابها ورموها تحت أقدامهم، ولكن الذين فعلوا ذلك هم العارفون بمن يصدرونها، الواقفون على أحوالهم وسيرهم. أما القاطنون في البلاد البعيدة ممن كانت ترسل إليهم ولم يعرفوا عن أصحابها إلا ما يرونه على رأس الجريدة كقولهم «صاحب الامتياز هو سعادة فلان» أو «يقوم بتحرير هذه الجريدة هيئة من مشاهير الكتاب ورجال السياسة ... إلخ إلخ.» فلا عجب إذا انخدعوا بهذه الألقاب والجمل الساحرة. والعثمانيون القاطنون صميم الأناضولي أقرب خلق الله إلى الانخداع.
اضطر عبد الحميد وأعوانه إلى ركوب هذا الشطط تخوفه من جرائد الأحرار، ثم تألمه مما كان يكتب فيها عنه.
وقد شاهد المنقطعون إلى تحقيق الأمور أن أكثر المأمورين العثمانيين كانوا يستحون مما يكتبه فيهم الأحرار، وما يصفونهم به من الخمول والجهل والتذلف إلى الرؤساء وعدم المعرفة بما عهد؛ فكان منهم عمال ألا إليهم من يجهد نفسه لكيلا يصدق فيه ما يقوله الأحرار، وكان منهم من يقول: هؤلاء أعداء الخليفة والمسلمين، هم أنصار الفرنجة يريدون أن نصبح كلنا مجردين من الدين، فيجب أن لا نلتفت إلى أقوالهم ولا إلى مفترياتهم.
ولما بدت على وجوه المأمورين وكبار رجال الدولة آثار الخوف والوجل مما يكتبه مراد في «ميزانه»، ويكتبه غيره من الأحرار في جرائدهم؛ انتبه لذلك بعض الشبان ممن زاد نصيبهم من التعلم وأوتوا الذكاء، ففر كثير منهم إلى الأقطار الأجنبية وإلى مصر التي كانت مهبط ملائكة الحرية، وشاركوا إخوانهم المجاهدين في جهادهم، وبقي غيرهم بالآستانة ليوافوهم بما يتجدد فيها من النبأ اليقين، فكان هؤلاء المجاهدون مقيمين في وسط النار تحرق ما حولهم، ولا يصيبهم منها سوى حرق تبقى أياما ثم تزول. وقد يذهب منهم وقودا لها من يذهب. وبهؤلاء ملئت السجون ومواطن النفي، ولقبهم العاتون المتعصبون ألقابا وسموهم أسماء ونعتوهم نعوتا، فقالوا: المتفرنجون والكافرون وأعداء الدولة والدين، وأضحى شقاؤهم في الولايات أشد، فكان الولاة وأكثرهم رجال الحكومة يضربونهم ويحبسونهم، وقد يهدرون دماءهم ويبيحون للناس نهبهم ويذلونهم إذلالا؛ وفي ظلم أنيس باشا أحد ولاة «قسطموني» سابقا واعتدائه على المنفيين عبرة للسائلين.
Bog aan la aqoon