Macluumaadka La Yaqaan iyo Kuwa Aan La Aqoon
المعلوم والمجهول
Noocyada
لكل ذي حياة يوم هو أشهر أيامه. وما في أيامي مثل اليوم السادس من شهر يناير، ولا في أعوامي عام مثل العام الثاني من التسعمائة والألف. طلعت علي طلائع الويل من يومه الثاني وما تلاه يوم إلا استجد لي فيه شر، خلتني مجدودا حتى إذا حياني سنحه تمنيت جذمه. فليذهب، وقد ذهب، لا أعاد الله مثل شؤمه.
أهاب بي سحرة داع من الوجد فاسمع. قلت: ما هذا الذي استفزني من كراي وأنهضني من رقدتي؟ وتقدمت إلى إحدى الكوى وجعلت أنظر منها إلى الحديقة، فإذا الوقت صحو والروض ندي والشجر موقف المتن لا تلويه نسائم، والغصون مجردة من غلائل الأوراق لا تتأود ولا تتعذر، وإذا عصافير تتطاير من أماليد إلى أماليد، برحت وكناتها وودعت فراخها فهي تتحاوم لتلتقط حبات سقطت من يد الإنسان في غفوة من حرصه، والماء كالماوية جلتها كف الصناع، تتجعد صفحته كلما عبت فيه العصافير بمناقيرها ثم يخف تجعدها ثم يعاودها استواؤها، وعلى متون الغصون قطرات من الظل هي ولا شك بقايا دموع الطبيعة حين بكت بنيها؛ فهاج المشهد بلابلي وأثار أشجاني وكدت أصيح طربا، وقلت: ندع مثل هذا ونأوي إلى الأجداث! ولكنني أشفقت على نفسي أن يطغيها حر خافيها، فالتفت ورائي وإذا بنيتي وأخوها نائمان يرتفع صدراهما وينحطان، فصبحت كلا بلثمة على جبينه وثب لها فؤادي، وبدرت من عيني بوادر شئونهما، فقلت: دموع بدموع أيتها الطبيعة والبادئ أظلم، ثم أقمت أترقب أن يتقادم العهد بالنهار علي أجد سبيلا كانت اشتبهت مسالكها أو أحدث رأيا أدرع به في لقاء الخطر المنتظر. غير أنني لم أبرح البيت يومي ذلك حتى المساء، فلما أصبت عشائي خرجت أنشد الطبيبة لتصف لامرأتي دواء وكانت اشتدت عليها أوجاعها.
فركبت التراموي متوجها إلى بيرا «بك أوغلي»، ولما هممت بالنزول تبعني رجل لم ألق له بالا. وفي بيرا مطعم يقال له مطعم طوقاتليان، يعرفه كل من زار فروق في عمره مرة، فما بلغت مكانه إلا اعترضني رجل من الشرطة قائلا: إلى أين تريد؟
قلت: وما يعنيك أنت من ذلك؟ - إني أسألك لأني من رجال الشرطة وعليك أن تجيبني. - أنا ذاهب لأدعو الطبيبة إلى عند امرأتي؛ إنها نفساء وقد أصابها نزيف من الدم لا يمكن لنا أن نتغلب عليه. - ما أظنك صادقا، ولا بد من مضيك معي إلى متصرف بيرا. - لماذا؟ - كذا أردت وكذا ينبغي أن يكون. - وإن أنا أبيت المضي معك وقلت لك: ما أنا بالقاتل ولا بالسارق ولا بالمعربد، وليس لي عند المتصرف شغل يدعوني إليه، فما أراك تفعل؟ - آخذ بطوقك وأجرك على وجهك حتى أنتهي بك إلى المتصرف. - أنت لا تعرف من تخاطب ولا تعقل ما تخاطب به الناس. خذ هذه البطاقة واطلبني في داري أو في مكان خدمتي. - لا حاجة بي إلى بطاقتك، وما اعترضتك جهلا بك، ولا بد من المضي معي. وما أتم الرجل كلامه إلا رمى بنفسه علي وحاول أن يأخذني من خناقي، فأهويت على يده بعصا كانت معي فشلت، وعاجلته بضربات كندف القطن، وأخذت منه سيفه فألقيته على الأرض ثم جعلت أدفع الرجل بقدمي واستطرده أمامي صائحا به: سر، الآن أنا أذهب بك إلى متصرفك، فلما انتهينا إلى باب المتصرفية أخذ جماعة من الأوروبيين يتصايحون: ما هذا؟ ما هذا؟ أكذا يتصيدون الناس في الطرقات ليذهبوا بهم إلى بحر مرمرة! - ماذا فعل هذا المسكين؟ - لعله سكران، لقد ضرب البوليس ضربا مبرحا.
وقد بلغت الشهامة من بعض الأوروبيين مبلغها، فدنا مني وأمسك بذراعي وهو يقول: لا تذهب، وليأخذوك قسرا إن كانوا رجالا.
فكثر اللغط بين الوقوف وعلت الجلبة وتكاثف الزحام، فأحاط بي جماعة من الجاندرمة وحيل بيني وبين الناس، فتقدمت إلى باب المتصرفية آخذا بطوق الشرطي الذي اعترضني، وإذا جماعة من إخوانه يتقدمهم قوميسير اسمه شاكر أفندي هو من أهل «بوسنة سراي»، فلما بصر بي دنا مني ومد يده إلى حزامي ليرى مسدسي فيأخذه ويخفيه، وكنت أعزل لا سلاح معي. وقد جفت يمناي ويسراي على أذني الشرطي، وإني لأجذبه إلي ثم أدفعه ضاربا برأسه الحائط، فأمسك شاكر أفندي بذراعي وجعل يعالجني حتى خلص مني الرجل. وأقبل علي بعد ذلك ملاطفا ليسكن ما هاج بي من غضب. وقد جاء أناس من الشرطة فكان منهم من يعنفني وكان منهم من يلاطفني. أما المعنف فآب مزودا بما قسم له، وأما الملاطف فكان جوابه الإعراض. وأقبل قوميسير المركز يقول لي: أرى أن تصعد إلى مكان المتصرف وتخاطبه فيما أغضبك؛ فهو أولى بجوابك وأدرى بمواقع الصواب والخطأ مما أتيت في ليلتك هذه. أما نحن فعبيد الأمر نفعل ما نؤمر به. قلت: وأين مكان المتصرف؟ قال: أنا أدلك عليه وأسعى بك إليه، ولكنه لم يرجع من القصر. قلت: سر، فسار وسرت على إثره، وما مضت على انتظاري ساعة إلا وقد أدخل بي على المتصرف.
أعوذ بالله! وجه كاللبنة وعينان كالبصقتين ولحية كالطحلب وأنف كالسواك، كل هذا يحمله عنق كخصر الهيفاء وجسد كزجاجة ملؤها صبغة اليود. لو صدق ما يقال عن العفريت وتنقب ذلك العفريت بحائط أحد الأطلال لكان دون الرجل قبحا.
تجاوزت باب الغرفة، فتلقاني المتصرف قائما باسم الثغر بادي الأنس كأنه صديق لي مقيم على ودي منذ الأعوام. وحين دانيته تبادلنا سلامين كمن يحثو التراب على رأسه، فأشار إلى كرسي أمام مكتبته وأمرني بالجلوس عليه، ثم ناولني سيكارة وطلب لي قهوة، حتى إذا فرغنا من استنفاد عبارات النفاق قال لي: ما يغضب سيدي؟ - ما ثم ما يغضبني، اعترضني رجل من الشرطة زاعما أنك أنفذته في طلبي، فحاولت مجادلته بالحسنى فلم أفلح، وكان ساعداي أفصح مني كلاما وأبلغ حجة. - أترى أنك أصبت فيما صنعت؟ - كلا، إني وقعت فيما نهيت عنه الناس ولمت على مثله أترابي. غير أني أكرهت على ما كان مني إكراها؛ استفزني ما يستفز غيري، وكما قيل في المثل: سبق السيف العذل. وقد كان في سابق خدمتي وإخلاصي لهذا الوطن شفيع لي إذا اشتدت بي الكرب. غير أن الأمة لا تعرف من يحبونها ولو عرفتهم لالتفت حولهم ووقفت في وجوه ظالميهم. - كلما أتونا بمعتد أخذ يجادلنا باسم الأمة، كأن هذه الأمة تختار لنفسها أنصارا لينادوا باسمها. - ما أنا ممن اختارتهم الأمة لنجدتها، ولكني متطوع في هذه السبيل، ولا أنا من أنصار الأمة، ولكني أحد أبنائها وجزء من أجزائها. - ألا ترهب بطش أمير المؤمنين؟
ما نطق المتصرف بهذا الكلام إلا وأثار كل ساكن في جوانحي، فقلت: أهذا مبلغ عرفانك؟ إنك لأحمق. خوف بأمير المؤمنين إحدى الدول أو ملكا من ملوكها، أما أنا فلا جند لي ولا أنا بصاحب تاج. إن أنا إلا واحد من رعيته. ومتى جاز للناس أن يخوفوا الناس بملوكهم؟! قد كنت أرجو أن تخاطبني بغير هذا الكلام، ولكنك قليل النصيب من الإدراك. تبا لك ولأمير المؤمنين الذي اختارك لتجلس على هذا الكرسي. لو أجلس عليه قرعة لكانت أحمد منك لقاء وأحسن منظرا.
فنزل هذا الجواب على قلب المتصرف كالمهل، فضرب بيده على مكتبته وصاح بي أن جاوزت في قلة الأدب حد المغفرة. فما أتم كلامه إلا وقد أكفأته على مكتبته وأهويت بين كتفيه بلكمات (ضرب الوليدة بالمسحاة في الثأد)، فبدت من الباب وجوه الشرطة ورأيت أني لا محالة واقع في أيديهم، فصحت بهم: إذا تقدم أحدكم نحوي خطوة واحدة تركت لكم هذا الرجل لا حراك به وألقيت بنفسي من الكوة على الطريق، ويبقى لكم مني جثة لا روح فيها. فجاء معاون المتصرف وهو أقرب الناس شبها «إلى أبي زعيزع» الذي يصنعه الصغار في مصر من الجزر ويصيحون به في لعبهم: «يابو زعيزع قوم صلي، انت صغير ومحني». فأخذ المعاون يلاطف المتصرف بكلام لا أعرفه، والتفت نحوي فقال: لا يليق بمثلك أن يغلبه الحنق. إن البك بمنزلة والدك. فقلت: حاشا؛ إن والدي عاش حرا ومات حرا. وهذا الذي أمامك لا يكون والد أحد، وأقسم لك إن أبناءه أو بناته ليبرءون منه إلى الله.
Bog aan la aqoon