Machiavelli: Hordhac Gaaban
مكيافيللي: مقدمة قصيرة جدا
Noocyada
ويرد مكيافيللي، كما فعل من قبل، برفض مثل هذه المشاعر الجادة بأشد أساليبه سخرية، فيصر في الفصل الثامن عشر على أن ممارسة النفاق ليست مجرد عنصر ضروري في حكم الأمراء، بل يمكنه أيضا المداومة عليها دون كثير عناء طالما دعته الحاجة لذلك. ويوجد سببان مختلفان لهذا الاستنتاج الذي يثير الاستفزاز عن عمد، أحد هذين السببين أن معظم البشر سذج في تفكيرهم، والأهم من هذا أنهم ميالون لخداع أنفسهم، لدرجة أنهم عادة ما يأخذون الأمور بظواهرها دون تمحيص على الإطلاق (62). وأما السبب الآخر فهو أنه عندما يتعلق الأمر بتقييم سلوك الأمراء ، ثمة احتمال كبير بأن يحكم على الأمور بظواهرها حتى أكثر المراقبين حنكة؛ وذلك لأن الأمير يكون بمعزل عن الجماهير، ومدعوما بجلال مكانته التي تجعل الجميع «لا يسعهم أن يروا إلا ما يبدو عليه في الظاهر»، عدا «قلة قليلة هم من يملكون دراية مباشرة بما أنت عليه حقا» (63)؛ لذلك ليس ثمة سبب لافتراض أن خطاياك ستكشف أمرك، بل على العكس من ذلك، «المخادع الماهر دائما ما يجد الكثير ممن يتركون أنفسهم فريسة للخداع» (62).
المسألة الأخرى التي يناقشها مكيافيللي تتمثل في ماهية الموقف الذي ينبغي اتخاذه من القواعد الجديدة التي ينبغي ترسيخها في الذهن. للوهلة الأولى، يبدو أنه يتبنى موقفا أخلاقيا تقليديا إلى حد ما؛ فهو يقر في الفصل الخامس عشر بأنه من «الجدير بالثناء» أن يظهر الأمير الجديد الصفات التي عادة ما تعد جيدة، كما يساوي مكيافيللي بين التخلي عن فضائل الأمراء وبين «التصرف على نحو غير أخلاقي» (55). ثم يتكرر نفس القدر من القيم حتى في الفصل السيئ السمعة الذي يتناول «كيف ينبغي للحكام أن يوفوا بوعودهم»؛ إذ يبدأ مكيافيللي بالتأكيد على أن الجميع يدرك إلى أي مدى يكون الحاكم جديرا بالثناء، حينما «يتحرى في حياته الاستقامة وليس الاحتيال» (61). ويمضي فيؤكد على أن الأمير لا يتعين عليه فقط أن يبدو فاضلا على النحو المتعارف عليه، بل ينبغي له أيضا «أن يكون كذلك حقا» بقدر ما تسمح به الظروف، وينبغي له «ألا يحيد عن السلوك الصحيح إذا كان ذلك ممكنا، على أن يكون قادرا في الوقت ذاته على خوض مسلك الإيذاء متى يصبح ذلك ضروريا» (62).
ومع ذلك، يقدم مكيافيللي في الفصل الخامس عشر حجتين مختلفتين جدا، تصبح كل منهما محل تفصيل فيما بعد؛ فهو بادئ ذي بدء، يتشكك إلى حد ما فيما إذا كان من الصواب أن نقول إن تلك الصفات التي تعتبر جيدة، لكنها رغم ذلك مدمرة، جديرة حقا بأن توصف بأنها فضائل. وبما أن من شأنها أن تسبب الدمار، فهو يفضل القول بأنها «تبدو فاضلة»، وبما أن أضدادها من الأرجح أن تعزز موقف المرء، فإنه يفضل القول بأنها تبدو فقط وكأنها رذائل (55).
يواصل مكيافيللي عرض هذه الفكرة في كلا الفصلين اللاحقين؛ ففي الفصل السادس عشر، الذي عنوانه «الكرم والشح»، يتناول فكرة تناولها جميع الفلاسفة الأخلاقيين الكلاسيكيين، ويقلبها رأسا على عقب. فشيشرون عندما يناقش فضيلة الكرم في كتابه «الواجبات» (2 : 17، 58 و2 : 22، 77) يعرفها بأنها الرغبة في «تجنب أي شبهة بالبخل»، ويوضح أن ما من نقيصة أشد كراهة في أي قائد سياسي من البخل والجشع. ويرد مكيافيللي بالقول بأنه، إذا كان هذا هو ما نعنيه بالكرم، فإننا لا نصف فضيلة وإنما رذيلة. ثم يوضح أن الحاكم الذي يرغب ألا يشتهر بالبخل سيجد أنه «بحاجة لأن ينفق في بذخ وتفاخر»، ونتيجة لذلك سيجد نفسه مضطرا «لفرض ضرائب باهظة على الناس» كي يسدد ثمن سخائه، وهذه سياسة سرعان ما ستجعله «مكروها من رعاياه». في المقابل، إذا بدأ الحاكم يقلع عن أي رغبة في التصرف بهذا القدر من السخاء، فقد يبدو للناس بخيلا في بادئ الأمر، لكنه «في نهاية المطاف سيتبين أنه أكثر سخاء»، وسوف يكون ممارسا بالفعل لفضيلة الكرم الحقيقية (59).
ثمة مفارقة مماثلة تظهر في الفصل التالي، الذي عنوانه «القسوة والرحمة». هذا أيضا كان موضوعا أثيرا لدى الفلاسفة الأخلاقيين من الرومان، ومقال سينيكا «عن العفو» هو أشهر تناول لهذا الموضوع. يقول سينيكا إن الأمير الرحيم دائما ما يبدو عليه «كم هو كاره لأن تمتد يده» بإنزال العقاب، وأنه لن يلجأ إليه إلا «عندما ينال تكرار الخطأ العظيم من صبره كل منال»، ولن ينزله إلا «بعد ممانعة كبيرة» و«كثير من التسويف»، ومع أكبر قدر ممكن من الرأفة (1 : 13، 4 و1 : 14، 1 و2 : 2، 3). في المقابل، يصر مكيافيللي ثانية على أن هذه العقيدة تمثل سوء فهم تاما للفضيلة محل النقاش. فإذا بدأت بمحاولة أن تكون رحيما بحيث «تفرط في السماح بظهور اضطرابات»، ولا تلجأ إلى العقاب إلا بمجرد أن يبدأ «القتل والنهب»، لن يكون سلوكك هذا تسامحا ورحمة بقدر ما هو سلوك حاكم لا يملك الشجاعة لأن يجعل ممن تزعموا الفتنة عبرة لمن يعتبر . ويضرب مكيافيللي مثالا على ذلك بني وطنه الفلورنسيين الذين أرادوا ألا يظهروا بمظهر القسوة في مواجهة انتفاضة ما، ونتيجة لذلك تصرفوا على نحو أسفر عن دمار مدينة بأكملها، وهذه نتيجة أشد بشاعة في قسوتها من أي نوع من القسوة كان ذهنهم ليتفتق عنه. هذا يختلف عن سلوك شيزاري بورجا الذي «كان يعتبر قاسيا»، والذي أدت إجراءاته الصارمة «إلى استعادة النظام في رومانيا، وتوحيدها وجعلها مسالمة وموالية للدولة» من خلال وحشيته المزعومة (58).
هذا يقود مكيافيللي إلى سؤال وثيق الصلة يثيره - بنفس روح المفارقة المتعمدة - لاحقا في نفس الفصل «عما إذا كان الأفضل للمرء أن يكون محبوبا لا مرهوب الجانب، أم العكس» (59). من جديد، كان الجواب الكلاسيكي واردا في كتاب «الواجبات» لشيشرون؛ «إن الرهبة ليست إلا ضمانة ضعيفة لاستمرار البقاء في السلطة»، بينما الحب «يمكن أن يكون محل ثقة في أنه سيجعل السلطة في مأمن إلى الأبد» (2 : 7، 23). ومن جديد، يعرب مكيافيللي عن تمام اختلافه مع هذا الرأي، ويرد بأن «الأكثر أمنا بكثير» لأي أمير «أن يكون مرهوب الجانب على أن يكون محبوبا»، وسبب ذلك أن كثيرا من الصفات التي تجعل الأمير محبوبا غالبا ما تجلب عليه الاستهانة به والتمرد عليه، فإذا لم تكن رعيتك «يرهبون العقاب»، فلن يفوتوا فرصة لخداعك من أجل مصلحتهم، لكن إذا جعلت نفسك مرهوب الجانب، فسوف يفكرون مليا قبل أن يلحقوا بك ضررا أو يهينوك، وبالتالي سيكون من الأسهل عليك بكثير أن تحتفظ بدولتك (59).
شكل 2-2: صفحة العنوان لترجمة إدوارد داكري لكتاب «الأمير»، أقدم نسخة إنجليزية تم طباعتها.
المسار الآخر للنقاش في هذين الفصلين يعكس رفضا أكثر ازدراء للأخلاق الإنسانية التقليدية؛ إذ يشير مكيافيللي إلى أنه حتى إذا كانت الصفات التي عادة ما تعتبر جيدة هي فضائل بالفعل - بحيث إن الحاكم الذي لا يلتزم بها سيسقط في الرذيلة لا شك - فينبغي للحاكم ألا يقلق بشأن هذه الرذائل، سواء كان يعتقد أنها مفيدة أو غير ذات صلة بتسيير شئون حكمه.
الشغل الشاغل لمكيافيللي فيما يتعلق بهذه النقطة هو تذكير الحكام الجدد بأكثر واجباتهم أهمية على الإطلاق، والمتمثل في أن الأمير الحكيم «ينبغي ألا يخشى اكتساب سمعة سيئة جراء اتصافه بهذه الرذائل التي من دونها سيصعب عليه الاحتفاظ بسلطته»، وسيرى أن هذه الانتقادات ما هي إلا ثمن محتوم عليه أن يدفعه في سبيل أداء التزامه الأساسي، الذي يتمثل بالطبع في الاحتفاظ بدولته (55). يوضح مكيافيللي انعكاسات هذا المبدأ أولا فيما يتعلق بما يفترض أنها رذيلة الشح؛ فبمجرد أن يدرك الأمير الحكيم أن الشح «أحد الرذائل التي تمكنه من الحكم»، لن يقلق بعد ذلك من أن يقال إنه رجل بخيل (57). الأمر نفسه ينطبق أيضا في حالة القسوة؛ فاستعداد الأمير للتصرف في بعض الأحيان بقسوة شديدة ضروري وحاسم في المحافظة على استقرار النظام في الشئون المدنية والعسكرية على حد سواء، وهذا يعني أن الأمير الحكيم «ينبغي ألا يقلق بشأن اكتسابه سمعة بأنه قاس»، وأن من الضروري ألا يقلق المرء من أن يوصف بأنه قاس إذا كان قائدا للجيش؛ لأن من دون هذه السمعة لن يتحقق أملك أبدا في إبقاء قواتك «متحدة ومهيأة للعمل العسكري» (60).
وأخيرا، يتعرض مكيافيللي للنقطة المتعلقة بما إذا كان من المهم للحاكم أن يتجنب رذائل الطبيعة البشرية وخطاياها الأهون شأنا، إذا كان يرغب في الاحتفاظ بدولته. في أغلب الأحيان كان مؤلفو كتب إسداء النصح للأمراء يتناولون هذه المسألة في سياق أخلاقي صارم، يعيد إلى الأذهان إصرار شيشرون في كتابه الأول من سلسلة «الواجبات»، على أن الاستقامة «ضرورية للحكم على نحو أخلاقي»، ومن ثم فإن كل من هم في مواقع السلطة يتعين عليهم أن يتجنبوا كل الزلات السلوكية في حياتهم الشخصية (1 : 28، 98). في المقابل، يرد مكيافيللي في استهانة بأن الأمير الحكيم «يسعى لاجتناب تلك الرذائل إن استطاع، لكن إذا رأى أنه لا يستطيع، فإنه لن يقلق نفسه دون شك» أكثر مما ينبغي بشأن هذه الحساسيات الأخلاقية العادية (55).
Bog aan la aqoon