بين أيديهم وتحت أعينهم عالجوا ما قبل هذا مما لم يقع بين أيديهم وتحت أعينهم على الوتيرة نفسها حتى لا يقال إنهم أفاضوا في ناحية وأوجزوا في ناحية، وجعلوا الإيجاز في سوق الأحداث التاريخية كلها طابعهم العام حتى لا يؤخذ عليهم شيء.
وهكذا كان ابن قتيبة في كتابه «المعارف» معبرا عن بيئته أصدق تعبير، عبر عنها في هذا المظهر الجامع حين فشت الكتب المترجمة تحمل مناهج جديدة، وعبّر عنها في ذلك التحرز حين كانت الخشية واجبة.
وما ندري هل نلوم ابن قتيبة على وقوفه خائفا حذرا لا يملك الشجاعة في أن يعبر عما تحت حسه، ولا أن يطلق لقلمه العنان يصف ما يحدث بين يديه، أم نلتمس له فيها عذرا؟ وما ننكر أن ابن قتيبة كان حريصا على شيئين:
حريصا على حياته، ثم حريصا على ألا يترك الناس من بعده يعيبون عليه خوفه وحذره. ولقد حقق لحرصه الأول ما أوحى به فأوجز هذا الإيجاز المخل، ثم حقق لحرصه الثاني ما يمليه عليه فجعل الإيجاز طابع الكتاب كله حتى لا يؤخذ عليه شيء.
ولقد ظن بهذا الّذي فعل أنه نجا من اللوم، ولكنه قد فاته أن المؤرخ الّذي يسلك مثل هذا المسلك قل أن يفلت من تبعة ما فرط فيه، وإنا إن غفرنا له إيجازه فيما لم يشاهد، بحجة أن غيره سبقه إلى الكتابة فيه وأفاض، وأنه ليس عنده ما يزيد عليه، فبعيد أن نغفر له إيجازه فيما شاهد ووقع بين يديه، وكان هو أحد رواته الذين يعتمد عليهم في ذلك، مهما تكن الأحوال، ومهما تكن العواقب، وما بالعسير على الكاتب أن يحتال شيئا في سرد ما يحب فيبلغ الأمان الّذي يريد، دون أن يفرط في الواجب أو يحيد.
ولكنا لا ندري على أية صورة كان ذلك الإرهاب، ولا على أية صورة كان موقف الناس منه، غير أنا نكاد ننتهي إلى أنه كان ملجما للألسنة كما قلنا، وأن كتاب المعارف كان صورة حقة لذلك في شقه التاريخي لا في شقه الأدبي، فهو إلى جانب ما فيه من إفاضة في المعرفة، جاء يمثل تلك الظاهرة الأخرى خير تمثيل، فأوجز الإيجاز كله، لذا كانت التفاتتى إليه، ولذا فكرت في نشره.
المقدمة / 3