84

المبارزة المؤجلة

«حيث لا قانون يكون قانون الغابة.»

كان عمر بك يعرف أنه من أسهل الأمور أن تدبر له مكيدة في أي وقت من الأوقات وفي أي ساعة من ساعات الليل والنهار. كانت القاهرة عند ذلك مدينة تنطوي على حياة خفية أشد اضطرابا من حياتها الظاهرة؛ فقصورها المغلقة النوافذ وحاراتها الضيقة ومنعرجات طرقها التي تشبه التيه توحي بأسرار غامضة لا يستطيع أحد أن يكشف حقائقها. قد يكون الإنسان سائرا في طريقه، أو راكبا، كما قد يكون نائما مطمئنا في فراشه، ثم يتنبه فجأة على صوت غدارة تنطلق عليه أو على لمعة خنجر يهوي نحو صدره. فإذا نجحت المكيدة وانتهت بصيد الفريسة، ظهر المتآمرون أمام أعين الناس وأعلنوا أنهم أصحاب الحق في الاستيلاء على الغنائم، فيذهب دم الضحية هدرا ويصبح الجناة سادة.

كان عمر بك يعرف هذه الحقيقة ولا ينكرها، ولا يجد فيها شيئا يستحق اللوم؛ لأنها كانت هي سنة الحياة في زمانه. هكذا استطاع هو أن يصبح أميرا من كبار السادة في البلاد، وهكذا فاز سيده الذي اشتراه مملوكا صغيرا، وهكذا كان السيد الأكبر الذي اشترى سيده مملوكا صغيرا من قبل. وما أكثر الحوادث التي كانت تذكر عمر بك بأنه يعيش في القاهرة كما يعيش الأسود والنمور والذئاب والضباع في الغابة، فالأسود لا تلوم النمور إذا هاجمتها ولكنها تدافع عن نفسها إلى الموت، ولا تحمل لعدوها حقدا بعد أن تتغلب عليه، ولكنها تقضي عليه.

وما أكثر الأعداء الذين كانوا يحيطون به ويتربصون له، ويدبرون له المكائد في كل ليلة!

فقد كانوا في وقت من الأوقات مماليك صغارا مثله عندما أتوا من بلادهم وراء البحار ونزلوا معا إلى وكالة «اليسيرجي» الذي جلبهم من الخارج، وكثيرا ما تصارعوا وتسابقوا وتباروا في الرماية بالقوس وتبارزوا بالسيف عندما كانوا شبانا يريدون أن يظهروا مواهبهم في فنون القتال. ولم ينس عمر بك مع تطاول السنين منذ تلك الأيام الأولى أنه كان دائما أبرع زملائه في كل هذه الفنون، إذ كان أسبقهم في الجري وأقواهم في المصارعة وأمهرهم في المبارزة بالسيف. وإذا كان أحيانا ينتصر وأحيانا ينهزم في حلبات سباق الخيل فقد كان ذلك تبعا لمقدرة الجواد على السبق، لا تبعا لمقدرته هو على الركوب؛ لأن الجميع يعلمون أنه كان أبرع المماليك في فنون الفروسية.

ولم يكن عجيبا أن يبلغ عمر بك مرتبة الإمارة قبل زملائه؛ لأن كبار الأمراء كانوا حريصين على تقريبه إليهم وكانوا يتنافسون على انضمامه إلى أحزابهم لينتصروا به في مؤامراتهم المستمرة. وقد استفاد هو بهذه المنافسة في كل مرة؛ لأنه كان يجني من كل مؤامرة ثمرة طيبة. استطاع عمر بك أن يكون أغنى الأمراء؛ لأنه كان يحصل على نصيب الأسد من الغنيمة بعد كل مؤامرة. واستطاع أن يكون أقوى الأمراء؛ لأنه حرص على أن يشتري لنفسه أكبر عدد من المماليك حتى صار له عدد عظيم من الأتباع المخلصين. كما استطاع أن يكون أعظم الأمراء مجدا وجاها؛ لأنه فتح بيته للقاصدين، وكان ينفق ما يبقى عنده من الأموال في الهدايا والعطايا والإحسان على أهل العلم والفقراء.

ولم ينس عمر بك نصيبه من السعادة المنزلية؛ لأنه كان يجمع في قصوره الكثيرة مجموعة من الجواري الحسان. كان تجار الجواري يعرفون شغفه بهن، فإذا ما عثر أحدهم بحسناء من بنات الجركس أو الصقالبة أو الروم أو الترك أسرعوا إليه ليبادر بشرائها حتى لا يسبق إليها أحد من منافسيه، وكان عمر بك يجازيهم على هذا الولاء بأن يجزل لهم العطاء ويبذل لهم ما يطلبون من الأثمان إذا وقعت الجارية عنده موقع القبول.

ولم ينس عمر بك فوق كل هذا أن يكرم الأولياء الذين كان الأمراء الآخرون يحتقرونهم ويسمونهم بلهاء أو مجذوبين، فهؤلاء كانوا يذهبون إلى بيت عمر بك كل يوم ليجدوا عنده أطايب الطعام، كما كانوا يقضون عنده السهرات في ليالي رمضان، ويفوزون بالملابس الثمينة من الجوخ والأطلس إذا جاءت أيام العيد. وامتاز عمر بك في القاهرة كلها بأنه من المريدين المخلصين للشيخ علي المجذوب الذي يعرف الجميع كراماته. لهذا كله كان عمر بك لا يحس شيئا من الجزع كلما بلغه أن زملاءه القدامى يحسدونه ويدبرون له المؤامرات، وكان دائما مطمئنا إلى أن أخبار مؤامراتهم تصل إليه عن طريق أعوانه وأتباعه ومحبيه قبل أن يستطيع منافسوه أن يحكموها وينفذوها.

وكان يحس نوعا من السرور عندما تبلغه أنباء مؤامرة جديدة؛ لأنه يجدها فرصة لمغامرة ظريفة يجد فيها متعة تشبه متعة السباق في حلبة الرهان ومتعة المصارعات والمباريات والمبارزات. وقد دلت الحوادث الكثيرة في مدى سنوات طويلة على أن عمر بك بطل لا يمكن أن يتغلب عليه أحد في المنازلات ولا يفوقه أحد في فنون المكر والخداع. ثم حدثت حادثة واحدة كادت تقضي عليه، لولا أنه نجا منها بأعجوبة، ثم كادت تقضي على شهرته بأنه بطل لا يقاوم، لولا أنه تذرع بالصبر والأناة حتى تمكن من استرداد شرفه وشهرته.

Bog aan la aqoon