44

فقال في دهشة: وكيف يخرج الأمر من أيدينا؟

فقالت مترددة: ألست تراهم في هذه الأيام متحفزين في كل لحظة؟ ألست ترى الآباء يسجنون أبناءهم ويعذبونهم إذا داخلهم الشك في أنهم يميلون إلى أبي؟ فكيف آمن أن يجتمعوا عليك وأنت تواجه قومك جميعا حتى لم يبق لك فيهم أحد يأخذ بناصرك؟

فقال هادئا: أتحسبين أنهم يقدرون على تعذيبي أو سجني؟ هيهات يا زينب، فإنهم يعرفون كيف أقدر على الوقوف في وجوههم جميعا. ولست في مكة وحيدا، فإن إخوتي وأبناء عمومتي من بني عبد شمس لا يتخلون عني أبدا.

فقالت: أما نذهب إلى يثرب لنكون في مأمن هناك مع أبي؟ ماذا نريد من البقاء هنا بين هؤلاء الذين يصبحونك ويماسونك بما لا تحب ولا يدعون لك سلاما. بحق أطفالنا يا أبا العاصي، لا تبق هنا وانج بنفسك وأهلك وأبنائك إلى يثرب. ألست تحب أبي وتواجه قومك قائلا لهم إنه أكرم من رأيت؟ ما لك لا تذهب إليه وتكون من أصحابه وتترك هؤلاء الذين لا يشبهونك ولا تشبههم. دعني أناديك باسمك الذي كنت أناديك به ونحن أطفال فأقول لك: هلم بنا يا ياسر فلنخرج إلى المدينة، إلى يثرب، كما خرج الذين رفضوا ظلم قريش وكبرياء قريش وجهالة قريش.

وكان أبو العاصي مطرقا يستمع إليها وعلى وجهه ما يشبه الحزن والتردد، ثم رفع رأسه بطيئا وقال لها: صدقت يا زينب فيما تقولين، وما أحب إلي أن أسمع صوتك وأنت تقولين لي يا ياسر كما كنت تنادينني ونحن صبية. إنني أذكر خالتي الحبيبة أمك التي كانت تحبني مثل ولدها، ولا أستطيع أن أنسى عطفها ونبلها، وما زال صوتها العذب يرن في أذني كأنني أسمعه في نبرات صوتك.

ومد يديه إلى يدها فأخذها بين كفيه وقال وهو ينظر في عينيها: وما أزال أذكر يوم ذهبت إلى أبيك أسأله أن يقبلني زوجا لك، وكان أسعد يوم في حياتي. ولو طاوعت نفسي لما فارقته لحظة، بل لكنت أول من يخرج معه.

فقالت زينب: وماذا يحول بينك وبين ذلك يا ياسر؟ أيسرك أن تبقى هاهنا لتسمع هؤلاء كل يوم يقولون لك: «طلقها!»

وأطرقت حزينة. فضغط على يدها بكفيه قائلا: لن يفرق شيء بيننا يا زينب ما دمت حيا، وهذا أول عهد قطعته لخالتي. ألا تذكرين يوم جاءت بهذا العقد الذي أراه حول عنقك؟ كانت ساعة لا أنساها وأنت واقفة بيني وبين أبيك مطرقة من الخجل، فجاءت السيدة النبيلة أمك ووضعت هذا العقد حول عنقك قائلة: «هذا تذكار مني.» ثم نظرت إلي قائلة: «هذا تذكار مني يربط بينكما.» ألا تذكرين ما قلته لها عند ذلك؟

فقالت زينب بصوت متهدج: أماه!

فقال أبو العاصي: «لن يفرق شيء بيننا يا زينب ما دمت حيا.» هذا ما قطعته على نفسي أمام خالتي.

Bog aan la aqoon