107

وأما الأستاذ عطية فقد خسر صداقة جابر بك إلى الأبد، وكان فيما بعد لا يسمح لأحد أن يعيد ذكر تلك الحادثة على مسمع منه.

دعاء شعبان

«الكوارث قد تخفي في طيها النعم.»

هو شاب ساذج ضحى بكل شيء في الحياة ولم يطلب من أحد جزاء على تضحيته، وقليل هم الذين يعرفون قصته. كان حسين من رفاقي القدماء عندما كنا في مكتب القرية، وطالما اجتمعنا على اللعب في الليالي المقمرة في جرن القمح، لنلعب وننشد الأغاني القروية أو يقص أحدنا على الآخر ما سمعه من حكايات غريبة عن الجن أو مغامرات اللصوص. وطالما قضينا معا صدور الليالي فيما بعد عندما كبرنا، نستمع إلى قراءة القرآن في شهر رمضان في بيت العمدة أو من الراديو في المركز الاجتماعي. وكان حسين يحرص في كل عام على أن يأخذني معه إلى المسجد في ليلة نصف شعبان لنتلو الدعاء المعروف معا؛ لأنه كان يتيمن بقراءته، ويعتقد أنه يحمي من كل عثرات المقادير ويوسع الرزق. وكان شابا مرحا حلو الفكاهة كما كان قوي الجسم وضيء الوجه ممتلئ القلب بالشهامة.

ومرت سنوات طويلة شغلتني عنه المشاغل بعد أن تخرجت في الجامعة وفتحت عيادتي في القاهرة، غير أنه كان يزورني بين حين وآخر في عيادتي، كما كنت أزوره في بيته كلما ذهبت إلى القرية في بعض أواخر الأسابيع. وكان قد اشتغل بتجارة الألبان، واستطاع أن يشتري عددا كبيرا من الأبقار ليطمئن إلى جودة الألبان التي يوزعها على زبائنه. ومع أنه جمع ثروة كبيرة، لم يتكبر على أهل القرية ولم يغير طريقته الأولى في الحياة. فكان يطوف بدراجته مرة في الصباح وأخرى في المساء ليوزع الألبان الطازجة أو ليحمل الجبن والزبد إلى زبائنه من البقالين في المدينة المجاورة. وكان أهل القرية يكلفونه قضاء بعض حاجاتهم من المدينة فيقوم بتلك الخدمات راضيا ولا ينتظر من أحد شكرا. وكان نساء القرية أكثر جرأة عليه من الرجال، حتى إنهن إذا طلبن منه خدمة خاطبنه بلهجة الأمر أو وجهن إليه بعض الشتائم، وكن أحيانا يدفعنه في ظهره بقبضات أيديهن فوق تلك الشتائم، ولكنه لم يظهر لإحداهن يوما شيئا من التأفف، كما أنه لم يوجه إلى إحداهن نظرة أو لفظة تخدش المروءة. وكانت له في القرية خطيبة أخلص في حبها كل الإخلاص، وهي ابنة خالته واسمها «مبروكة»، عقد عليها وكان يجهد نفسه في العمل ليستطيع أن يبني لها دارا واسعة فيها زريبة كافية لكل أبقاره حتى يجمعها تحت رعايتها بدلا من تفريقها بين نساء القرية بالمشاركة.

وكانت مبروكة حقا أجمل فتيات القرية وأبرعهن يدا. كانت مشهورة بين لداتها بمهارتها في تطريز المناديل وعصابات الرأس وبتفننها في صنع أصناف الفطير والكعك وطواجن الأرز واللحم. وكان حب حسين لها أمرا معروفا يتحدث به نساء القرية وفتياتها فيما بينهن، ويتساءلن كلما مر قريبا من دارها هل عرج عليها وماذا حمل لها من الهدايا، وكن يتغامزن بها كلما مرت بهن بعد الغروب لتحمل الطعام لأبيها وأخيها في الغيط ويتهامسن قائلات: «إنه هناك في هذه الساعة يعزف على «سلاميته» عند منحنى الترعة.» ولم يكن ذلك افتراء منهن لأن حسينا كان يذهب حقا كل يوم إلى منحنى الترعة بعد فراغه من أعماله ويجلس في جوار الساقية التي تروي غيط أسرة مبروكة ينشد بعض الألحان القروية على سلاميته. وكان النسيم يحمل ألحانه العذبة إلى القرية الصامتة معلنا أنه هناك ينتظر مرور عروسه. وكانت مبروكة تعرف ما لها في قلب ابن خالتها وتعرف أن تلك الألحان العذبة موجهة إليها وحدها، ولكنها لم تشعر في وقت من الأوقات بشيء من التكلف. كانت إذا اقتربت منه ألقت عليه تحية المساء ووقفت حتى يجيء إليها ليذهبا معا إلى الغيط ويقطعا معا مسافة الطريق في حديث ساذج يفضي فيه كل منهما إلى الآخر بما عنده من أخبار اليوم. ومع أنها كانت تراه في كثير من الأحيان يتحدث مع نساء القرية وفتياتها ويقوم بأداء الخدمات التي يطلبنها منه، فإنها لم تقل له يوما كلمة تنم عن لوم أو غيرة، بل لعلها كانت تزداد تعلقا به وثقة بنفسها كلما سمعت عن الهمسات الغيرى التي كانت الفتيات يتهامسن بها من وراء ظهرها.

ومرت سنتان تمكن حسين في خلالهما من جمع المال الذي يكفي لبناء الدار الواسعة، وعزم على أن يحقق أمنيته العزيزة بالزواج من مبروكة، واختار قطعة أرض في جوار الساقية التي تعود أن يجلس عندها لينشد ألحانه، ولم يبخل بالثمن الغالي الذي طلبه منه زوج خالته صاحب تلك الأرض.

وفي يوم من أيام آخر الأسبوع ذهبت إلى القرية كعادتي، وأتى إلي كثير من أهل القرية بين أهل وأصدقاء وجلسنا نتسامر، وكان النسيم يرف بين أغصان الحديقة المزدهرة في فصل الربيع ويحمل إلى مجلسنا عطر زهر البرتقال ممتزجا برائحة دخان الخشب الذي يوقد به الخدم لإعداد الشاي المستمر لطائفة بعد أخرى من الضيوف. وجاء حسين محجوب بعد مضي ساعة طويلة من الليل، وكان وجهه ينطق فصيحا بأنه سعيد. وتحول حديث المجلس إليه سريعا وأخذ كل من هناك يوجه إليه كلمة مفاكهة فيها شيء من الخبث وشيء من الدعابة الخشنة. وكان حسين يجيب على تلك الكلمات بمرحه الطبيعي وبفكاهات طريفة تثير الضحكات العالية. وكانت أكثر المفاكهات دائرة حول زواجه القريب وليلة عرسه المنتظرة.

ولما انقضت السهرة قلت له معتذرا: أنا آسف لأني لن أستطيع أن أحضر ليلة زفافك لأني سأسافر بعيدا.

فقال حسين مبتسما: ولماذا لا ننتظر؟ لست مستعجلا لهذه الدرجة.

Bog aan la aqoon