ولكن لعل أعظم علماء الآثار الموسيقية على الإطلاق هو العالم الألماني «هانز هيكمان» الذي تلقى تعليمه في ألمانيا، وعاش في مصر قرابة ثلاثة وعشرين عاما، وشغل لعدة سنوات منصب رئيس القسم الموسيقي في المتحف المصري بالقاهرة. وقد تخصص «هيكمان» في الآثار الموسيقية المصرية القديمة، وشارك في القيام بمجموعة كبيرة من الحفريات والرحلات التنقيبيه. والواقع أنه كان يجمع بين صفات متعددة تجعل منه نموذجا مثاليا لعالم الآثار؛ فقد كان مؤرخا، وعالما في اللغويات، وباحثا أثريا، وخبيرا في الموسيقى، ودارسا لعلم الاجتماع، وحجة في العلوم المصرية القديمة. وكانت أعظم كشوفه هي الاهتداء إلى طريقة تقريبية لفك رموز التدوين في الموسيقى المصرية القديمة، وجمع عدد لا حصر له من الآلات القديمة التي ترجع إلى عهود أسرات متعددة، وكان بعض هذه الآلات في حالة جيدة، وبعضها الآخر مهشما. وقد استطاع صنع نماذج مطابقة للآلات المهشمة، حتى أصبحت توجد اليوم - بفضل كشوفه وأبحاثه - مجموعة كبيرة من الآلات القديمة، المحفوظة والمصنوعة، منها القيثارات ذات الأحجام المختلفة، والأبواق وأنواع المزامير والآلات الوترية والإيقاعية. وقد استمعنا منذ سنوات طويلة، إلى إذاعة لأصوات بعض هذه الآلات، قدمها الأستاذ هيكمان من محطة الإذاعة المصرية، وأعاد فيها إحياء أصوات منبعثة من ماض سحيق للبشرية. غير أن طموح هذا العالم الجليل يستهدف اليوم غايات أعظم من هذه بكثير، هي العمل على تقديم تسجيل حي لموسيقى فرعونية كانت تعزف بالفعل في ذلك العهد الغابر.
ومن أهم كشوف هيكمان، الاهتداء إلى طريقة عزف الكنيسة القبطية القديمة، وهي أول موسيقى كنسية مسيحية عرفها العالم، فيها تمتزج عناصر مصرية قديمة، وأخرى شرقية وعبرية. وقد يلقي هذا الكشف ضوءا على الأشكال الأولى للأنشودة الجريجورية كما عرفتها أوروبا في العصور الوسطى.
ومن الأهداف التي ينتظر تحقيقها أيضا بفضل بحوث هيكمان، التوصل إلى إحياء الموسيقى والأغاني والآلات القديمة. وقد توصل إلى ذلك عن طريق دراسة مئات من الرسوم والنقوش الحائطية القديمة التي تصور موسيقيين وراقصين. كما قام بتفسير عدد هائل من الوثائق، وفضلا عن ذلك فقد أجرى دراسات مقارنة بين الآلات، كانت تساعد على تصحيح تفسيراته واستنتاجاته؛ إذ إن المقارنة بين ثقوب المزامير وأشكال القيثارات ومواضع «العفق» في العود قدمت إليه شواهد قيمة عن طبيعة السلالم الموسيقية وطريقة العزف على الآلات.
ومن المؤكد أن الأخطاء في هذا الميدان الشاق ممكنة على الدوام، وكثيرا ما وصل علماء الآثار الموسيقية المحدثون إلى استنتاجات أثبتت الكشوف التالية خطأها. ومن هنا كان الصبر وتحمل الخطأ من أهم الصفات اللازمة للعالم في هذا الميدان؛ إذ إن من ينفد صبره عند ارتكاب خطأ جسيم لا يصلح لهذا النوع من البحث أصلا، فليس هذا هو الميدان الذي يتوقع فيه العالم أن يكون معصوما من الخطأ، مهما كان مقدار جلده وإخلاصه في البحث؛ إذ إن الخيال والحدس يلعبان دورا غير قليل في ميدان علم الآثار الموسيقية.
ومع ذلك فإن التقدم في هذا العلم يزداد عاما بعد عام، ومناهجه تزداد دقة بالتدريج. ومن المؤكد أن إحراز نجاح في هذا الميدان كفيل بأن يلقي مزيدا من الضوء على ميادين أخرى للمعرفة البشرية؛ إذ إن الدور الذي كانت الموسيقى تلعبه في كل المجتمعات القديمة كان دورا عظيم الأهمية. إننا اليوم ننظر إلى هذا الفن على أنه شيء عارض في حياتنا ، يقدم إلينا وسيلة سارة لقضاء الوقت وللترفيه عن النفس - أو هكذا ينظر إليه على الأقل معظم الناس - أما في الحضارات القديمة فقد كانت الموسيقى شيئا أهم بكثير، شيئا مرتبطا بمعان فلسفية ودينية وصوفية عميقة. ولا بد أن يؤدي الكشف الدقيق لموسيقى أية حضارة قديمة إلى إلقاء ضوء ساطع على عقائدها الدينية ونظمها السياسية ومذاهبها الفلسفية والكونية ومعارفها العلمية. لقد كان لدى القدماء من الوقت والفراغ ما يتيح لهم إعمال فكرهم في عالم الصوت، واستخلاص نتائج عظيمة الأهمية منه، تفيدهم في شتى نواحي حياتهم. ومن هنا فإن علم الآثار الموسيقية يؤدي للدراسة الحضارية خدمة لا تقدر، حين يلقي ضوءا على الحياة الموسيقية للشعوب الغابرة، فيعيد بذلك إحياء عنصر أساسي في حضارات هذه الشعوب.
خواطر حول الموسيقى الشعبية
كان من الشائع، وقتا ما، أن تقسم الموسيقى فئتين: فئة للعامة وفئة للخاصة. وموسيقى العامة هي تلك الألحان الخفيفة، الراقصة في الغالب، التي تستطيع الجماهير الغفيرة من الناس تذوقها وترديدها دون عناء، وتجد في ذلك لذة تخفف عنها عناء العمل اليومي الشاق. إنها موسيقى جسم مكدود وذهن متعب، لا تقتضي من السامع جهدا، بل هي على العكس من ذلك قد تكون له معينا على بذل المزيد من الجهد. أما موسيقى الخاصة فإن النفس لا تدرك ما فيها من انسجام وتوافق إلا بعد أن تكون قد تدربت على بذل نوع من الجهد الذهني يتيح لها أن تتتبع الخيوط المختلفة للحن، والمسارات غير المتوقعة للإيقاع، وتجمع ذلك كله في وحدة متآلفة؛ فهي إذن موسيقى تعتمد أول ما تعتمد على قدر من التركيز الذهني لا يتوفر إلا لقلة من البشر، تسمح لهم ظروف حياتهم بأن ينعموا بهذا الترف، تماما كما كان التفكير الفلسفي وقتا ما ترفا لا يملك الاستمتاع به إلا القليلون.
كان ذلك تقسيما شائعا في وقت من الأوقات، وكان من الطبيعي أن يرتبط هذا التقسيم بنوع من التمييز الطبقي، قد يكون أحيانا قائما على أساس اجتماعي واقتصادي، ولكنه في الأغلب قائم على أساس ثقافي؛ فالعامة والخاصة يناظرون الطبقات الفقيرة والطبقات الغنية أو الأرستقراطية في بعض المجتمعات، ولكنهم في معظم الأحيان يناظرون - في مجال الموسيقى - الجهلاء والمثقفين، أو السطحيين والمتعمقين، وبعبارة أخرى فإن اهتمامات محدودي الثقافة من الناس لا تتعدى المستويات السطحية الظاهرة للفن الموسيقي، على حين أن المثقفين الحقيقيين يغوصون في أعماق هذا الفن ليستخلصوا منه دررا لا تتكشف إلا للواصلين.
على أن عصرنا الحديث، في ميله الشديد إلى تعقيد كل ما هو بسيط، قد أدخل تغيرات شاملة على هذا التقسيم المبسط، كان من شأنها أن أصبحت الصورة معقدة غاية التعقيد؛ فقد دارت الأيام، وإذا بنا نجد أولئك الذين اعتدنا أن نسميهم بالخاصة أو المثقفين أو أرستقراطي الفكر، يهتمون كل الاهتمام بألوان الموسيقى التي يرددها العامة، ويجعلونها موضوعا للدراسة والتحليل، بل إن منهم من أصبح يرى فيها خلاصا من الأزمة الفنية التي انتهت إليها موسيقى الخاصة ذاتها، ووسيلة بعث حياة جديدة ودماء حارة فتية في جسدها الذي دب فيه الاعتلال والوهن. وبعد دورة الأيام هذه أصبحنا نجد كبار المشتغلين بالموسيقى - نظريا وعمليا - يبدون اهتماما زائدا بإيقاع دقات الطبول عند قبيلة مجهولة في قلب غابات أفريقيا، أو بلحن بدائي متوارث من مئات السنين، يردده سكان جزيرة نائية في المحيط الهادي، ويحسون بفرحة من عثر على كنز ثمين حين يسمعون أغنية ساذجة يرددها الفلاحون الفقراء في مجاهل الهند. وأصبح المثقف الذي كان يحتقر الموسيقى الراقصة بكل أنواعها، يستمع بشغف شديد إلى أنغام «الجاز»، ويكون النوادي التي تضم عشاق هذا اللون، بل ويعد الاستماع إليه - ويا للعجب! - علامة من علامات اتساع الأفق ورحابة الذهن والترفع عن روح الحذلقة والكبر والغرور.
إنها إذن دورة كاملة قام بها تفكير الإنسان منذ اللحظة التي كان يقسم فيها الموسيقى، ببساطة، إلى فئة للخاصة وفئة للعامة، حتى اللحظة التي أصبح فيها الخاصة يحرصون على إثبات خصوصيتهم بإبداء أكبر قدر من الاهتمام والعناية بموسيقى العامة. ولا جدال في أن من أوضح مظاهر هذا التغيير الجذري في نظرة المثقف الحديث إلى الفن الموسيقي، تلك النهضة الشاملة التي أصابت الموسيقى الشعبية، والتي حولت هذا اللون من فن سوقي لا يعبأ به إلا عامة الناس، إلى فن رفيع يشغل أكبر قدر من اهتمام المثقفين والمتذوقين والدارسين، ويرى فيه الكثيرون أساسا لكل تطور مثمر في مستقبل الموسيقى. •••
Bog aan la aqoon