»، وهي أعمال تمتزج فيها الموسيقى والأدب ويتكاملان على نحو يستحيل معه تصورهما منفصلين.
على أن من الضروري أن نتذكر أن التوحيد بين الموسيقى والكلمات ليس في معظم الأحيان اندماجا كاملا كهذا، بل يبدو أن الموسيقى، حتى حين ترتبط بالكلمات تسير في اتجاهها المستقل، ولا تتأثر كثيرا بالكلمات أو تنبثق عنها انبثاقا ضروريا. وحتى لو كان ذلك يحدث، فلن تكون النتيجة عملا متكاملا رفيعا، بل إن الاندماج التام بين الموسيقى والشعر لا بد أن يتم على حساب الموسيقى نفسها، التي قد تنطفئ حرارتها نتيجة للاهتمام الزائد بالكلمات. وهكذا يمكن القول إن الشعر يسعى من جانبه إلى الاتحاد بالموسيقى، وأن هذا الاتحاد يضفي عليه قوة، ويزيد قدرته التعبيرية والتأثرية، على حين أن الموسيقى تسعى إلى الاستقلال عن الشعر وتهرب منه، وربما كان تاريخها كله محاولة للتخلص من التأثير المفرط للأدب.
الموسيقى والعمارة
إذا كنا قد قلنا من قبل إن الإيقاع يظهر أوضح ما يكون في الفنون الزمانية، كالموسيقى والشعر، فليس معنى ذلك أن الإيقاع لا وجود له في الفنون المكانية. صحيح أن الموسيقى والشعر، أو الأدب بوجه عام، هما الفنان الوحيدان اللذان يتميزان في جوهرهما بالتعاقب، وهما في ذلك على عكس التصوير والنحت والعمارة؛ لأن العمل الفني في هذه الفنون الأخيرة يؤثر فينا دفعة واحدة، بحيث يكون الجهد المطلوب من المشاهد فيها تحليليا، من الكل إلى الأجزاء. على حين أنه في الموسيقى جهد تركيبي، ينتقل من الأجزاء إلى الكل. كل هذا صحيح، ومع ذلك فإن تلك الفنون التي لا تدرك في زمان متعاقب، لها بدورها إيقاعها الخاص؛ ففي فن كالعمارة مثلا، وهي نموذج الفن المكاني بمعناه الصحيح، نجد أنواعا من التكرار أو التماثل أو توزيع المساحات والكتل بتوافق وانسجام، على نحو يؤلف نوعا خاصا من الإيقاع، حتى لقد وصف البعض الفن المعماري بعبارة أصبحت منذ أن أطلقت عليه مشهورة، هي أنه «موسيقى متجمدة».
ولو شئنا مثلا لموسيقى معمارية، أو متأثرة في تركيبها بقواعد أشبه بقواعد المعمار، لما وجدنا أفضل من موسيقى «يوهان سباستيان باخ». صحيح أن الانتقال بين البناء الموسيقي والبناء المعماري انتقال مجازي قبل كل شيء، ولكن لا مفر للمرء من أن يذكر فن المعمار وهو يستمع إلى تلك الموسيقى ذات البنيان المتماسك المشيد بدقة وإحكام طابقا فوق طابق. ومن الجدير بالملاحظة أن كثيرين ممن كتبوا تاريخ حياة باخ قد لاحظوا أنه لا بد أن يكون قد ألم بمعلومات عميقة عن فن العمارة، وأنه كان يتحدث حديث العارف عن الخصائص الصوتية للكنائس والكاتدرائيات التي تعزف موسيقاه فيها.
والواقع أن وظيفة العمارة، بالنسبة إلى الموسيقى، لا تقتصر على أن تضمن لها رنينا صوتيا جيدا، أو زخرفا يخلق جوا ملائما لسماعها - كما هي الحال في الكاتدرائيات بالنسبة إلى القداس أو الأوراتوريو، والمسرح أو القاعة الموسيقية بالنسبة إلى الأوبرا أو السيمفونية - بل إن قوانين البناء الموسيقي تؤثر، على نحو غير مباشر ، في العمارة، مثلما يؤثر التركيب المعماري في بناء القطعة الموسيقية ذاتها. وقد لاحظ هيجل عن حق أن العمارة، على خلاف التصوير أو النحت، لا تستمد نماذجها مباشرة من الواقع الخارجي، بل تستمد أشكالها من الخيال، وتشكلها وفقا لقوانين الثقل الخاصة بها، وكذلك وفقا لقواعد التماثل والتوافق الإيقاعي التي تشبه ما نجده في الموسيقى. ومن جهة أخرى فعندما تنفصل الموسيقى عن الشعر، تتخذ لنفسها بناء معماريا واضحا. وبعبارة أخرى فإن الموسيقى كلما تحررت من الأدب ازدادت اقترابا من العمارة، وربما كانت طوال تاريخها تتأرجح بين هذين القطبين.
الموسيقى والتصوير
يعد التصوير بدوره فنا مكانيا، ومع ذلك فإن للإيقاع دوره في فن التصوير بدوره، وهو أمر لا يمكن أن تخطئه عين من تعمق فهم هذا الفن؛ ذلك لأن الفنان يجعل من اللوحة قطعة من حياته، وينقل إليها نبض أحاسيسه ومشاعره. وصحيح أن الحركة تتخذ في التصوير طابعا ساكنا متجمدا، ثابتا في الزمان، ولكن هذه الحركة تكون لها صفة الحيوية الكامنة؛ أعني تلك الحيوية التي تنبثق ينابيعها أمام العين الفاحصة التي تندمج في العمل الفني، ولا تكتفي بالتطلع والمشاهدة السلبية فحسب.
بل إن المرء ليستطيع القول بوجود عنصر زماني معين في التصوير؛ إذ إن النسب المكانية تكتسب قيمة زمانية حين تعمل بعض المساحات على اجتذاب العين مدة أطول من بعضها الآخر، وبذلك يكون في اللوحة نوع من الحركة الصامتة التي يتمثل فيها بدورها الإيقاع.
على أن هذا ليس وجه الاتصال الوحيد بين الموسيقى والتصوير؛ فعلى الرغم من أن التصوير يبدو أبعد الفنون عن الموسيقى، فإن العلاقات الأكثر خفاء هي التي تكون في كثير من الأحيان أوثق العلاقات، وفي استطاعة العلم أن يقدم إلينا أدلة هامة على نوع الصلة التي تجمع بين الموسيقى والتصوير.
Bog aan la aqoon