rheein ، بمعنى ينساب أو يتدفق. وفي اللغة العربية يرجح أن لفظ الإيقاع مشتق من «التوقيع»، وهو نوع من المشية السريعة؛ إذ يقال «وقع الرجل»؛ أي مشى سراعا مع رفع يديه. ومن المعروف أن مشية الإنسان من أهم الأصول الحيوية التي يرجع إليها الإيقاع، ولكن الأهم من ذلك هو فكرة الحركة بوجه عام؛ إذ إنها تظهر في الأصلين اللغويين العربي واليوناني معا؛ فالانسياب حركة، والمشي بدوره حركة، وفي ذلك دليل قاطع على الارتباط الوثيق بين الإيقاع والحركة كما تشهد به اللغة ذاتها.
هذا الإيقاع الذي يتمثل خارج الإنسان وداخله، والذي يعبر عن حاجة روحية وعن ضرورة مادية في الآن نفسه، هو عنصر نشعر به جميعا ونتحدث عنه، وندرك أنه أول مظهر للحياة في الموسيقى، كما هو أول مظهر للحياة في الكائنات الحية عامة. ولكن القول إن الإيقاع هو الذي يضفي على الموسيقى حياة واندفاعا، لا يكفي لكي يقدم إلينا تعريفا وافيا. والحق أن الإيقاع واحد من تلك الظواهر التي يصعب تعريفها لا لشيء إلا لكونها مألوفة، ولأن تأثيرها فينا ملموس بلا انقطاع. وعلى أية حال فلن نحاول الآن تقديم تعريف للإيقاع عامة، بل إننا نود أن نستعرض بعض التعريفات التي اقترحت للإيقاع الموسيقي على وجه التخصيص لكي نستشف منها أهم العناصر التي يتألف منها، والتي تضفي عليه كل هذه الأهمية في كل فن موسيقي عرفته البشرية منذ أقدم العصور.
كانت أقدم التعريفات التي قدمها إلينا فلاسفة اليونان للإيقاع تدور حول فكرة «الحركة» تمشيا مع الأصل الاشتقاقي للفظ، كما أوضحناه من قبل؛ فالإيقاعات قادرة على أن تعبر عن أحوال النفس البشرية لأنها في أصلها حركات، شأنها شأن مختلف الأفعال التي يقوم بها الإنسان. وقد تحدث أفلاطون عن الإيقاع على نحو يوحي بأنه يعتمد أساسا على الحركة، فقال: «إنك تستطيع أن تميز الإيقاع في تحليق الطيور، وفي نبض العروق، وخطوات الرقص، ومقاطع الكلام.» وظل لهذا الرأي في الإيقاع تأثيره طويلا، حتى تحدث القديس أوغسطين في أوائل العصور الوسطى عن الإيقاع فوصفه بأنه «فن الحركات الجيدة». كذلك فإن كثيرا من علماء النفس في العصر الحديث أرجعوا الإيقاع إلى مصدر حركي؛ فعالم النفس الألماني «فونت
Wundt » يرد الإيقاع إلى المشي، وريمان
H. Riemenn
يرده إلى نبض القلب، وبوشر
يرجعه إلى الحركات الجسمية، وكثيرون غيرهم يجمعون على أن الإيقاع هو قانون الحركة الطبيعية.
ولقد كان من الطبيعي أن يربط المفكرون في مختلف العصور بين الإيقاع والحركة؛ ذلك لأن الحياة التي تسري فينا، والتي تستمر خلال الزمان، إنما تتجلى في مجموعة متعاقبة من الحركات المنظمة تنظيما بديعا، كنبضات القلب وتناوب الشهيق والزفير في التنفس، والمشية الثنائية الخطوات في الإنسان، والرباعية الخطوات في الحيوان؛ ففي كل هذه الظواهر الفسيولوجية يرتبط الإيقاع التلقائي الحي بالحركة ارتباطا لا ينفصم، بل إن الحركة هي الظاهرة الأساسية في الكون بأسره، كما أدرك الفلاسفة منذ أقدم العصور؛ فالحركة والتغير في المكان والزمان هي عند الفيلسوف اليوناني هيرقليطس أساس فهم الكون والحياة معا، ولا شيء في نظره يثبت أو يستقر عند حال. ومن ثم فتناوب الإيقاع يسري في كل شيء. وكل من ألم بقدر من العلم عن سائر فلاسفة اليونان يعلم أن أفلاطون جعل الحركة مظهرا أساسيا لعالم المحسوسات (على حين أن السكون هو المميز لعالم المعقولات)، وأن أرسطو قد اتخذ من الحركة نقطة بداية لتفسيره للعالم، ومدخلا أساسيا إلى تعليل كل ظواهره. وحين ظهرت الأفكار الآلية الحديثة في الفلسفة، كان من الطبيعي أن تتخذ الحركة أساسا لتفسير الحوادث الكونية، سواء منها المادية والروحية.
وهكذا فإن قوام الإيقاع الموسيقي هو تلك الظاهرة التي رآها المفكرون، منذ أقدم العصور، كامنة في أساس كل تغير يطرأ على الكون، وكل تجدد وتنوع في الحياة، فبفضل الإيقاع تصبح الموسيقى فنا للحركة. •••
ولكن، هل تكفي فكرة الحركة لتعريف الإيقاع تعريفا جامعا يوضح طبيعته إيضاحا كاملا؟ الحق أن الحركة وحدها، وإن كانت هي القوة الدافعة لكل إيقاع، لا تكفي وحدها للكشف عن معناه؛ إذ إن الإيقاع ليس حركة فحسب، بل هو نوع معين من الحركة، ولا يمكن أن يكون الانسياب المتدفق للحركة، دون ضبط أو تنظيم، هو الذي يمثل الطبيعة الكامنة للإيقاع؛ وعلى ذلك فلا بد من إضافة فكرة التنظيم لكي يزداد معنى الإيقاع وضوحا في الأذهان.
Bog aan la aqoon