مقدمة
مع الموسيقى ... في رحلة الحياة
الإيقاع بين الحياة والفن
علم الآثار الموسيقية1
خواطر حول الموسيقى الشعبية
مستقبل الموسيقى في مصر1
الأساس العقلي للموسيقى الحديثة1
محنة الموسيقى الغربية المعاصرة1
موسيقى وآلات وضجيج1
مقدمة
مع الموسيقى ... في رحلة الحياة
الإيقاع بين الحياة والفن
علم الآثار الموسيقية1
خواطر حول الموسيقى الشعبية
مستقبل الموسيقى في مصر1
الأساس العقلي للموسيقى الحديثة1
محنة الموسيقى الغربية المعاصرة1
موسيقى وآلات وضجيج1
مع الموسيقى
مع الموسيقى
ذكريات ودراسات
تأليف
فؤاد زكريا
مقدمة
لا أستطيع أن أزعم أن معرفتي بالموسيقى ترقى إلى مستوى معرفة الخبراء بأصول هذا الفن؛ فلم أكن في أي وقت من محترفيها أو ممن يؤدونها علنا، كما أنني لم أتلق فيها درسا نظريا أو عمليا واحدا، ومع ذلك فإن في تجربتي الموسيقية ما يستحق في نظري أن يروى؛ لأنها أولا تجربة معتمدة على ذاتها اعتمادا يكاد يكون تاما، ولأنها ثانيا تجربة نفس يغلب عليها حب العقل والمنطق، وتميل إلى الجانب الفكري في الأمور، ولأنها ثالثا تجربة طال أمدها حتى ليمكن القول إنها عاصرت حياتي الواعية منذ بدايتها. ومن هنا فقد اعتقدت أن القارئ قد يجد طرافة في صفحات تحكي له كيف انتقل إنسان يعيش في بيئة شرقية خالصة إلى حب الموسيقى العالمية وفهمها فهما واعيا بجهوده الذاتية وحدها، وكيف احتل فن كالموسيقى مكانه في نفس تبدو وكأنها لا تعترف إلا بما يوزن بميزان العقل الدقيق، وكيف تطورت هذه التجربة من بداياتها البسيطة، ونمت على مر السنين حتى بلغت مستوى رفيعا من النضج والاكتمال.
ولقد كرست أطول مقالات هذا الكتاب لعرض هذه التجربة عرضا توخيت فيه الأمانة قدر ما استطعت. أما بقية الكتاب فيتألف من مقالات ودراسات كتبت اثنتان منها - إلى جانب المقال الأول - للمرة الأولى، ونشرت الأخريات في فترات تمتد من عام 1952م حتى الوقت الحاضر. ولما كانت ظروف نشر هذه المقالات والدراسات لم تسمح بأن يطلع على أية واحدة منها سوى عدد محدود من القراء، فقد رأيت أن من المفيد أن أعيد نشرها مجتمعة في هذا الكتاب.
وسوف يدرك القارئ أن هذه المقالات لم تنشر بترتيب ظهورها، بل لقد حاولت أن أرتبها بحسب تاريخ الموضوعات التي تتناولها. وهكذا يمكن أن يقال إنها تقدم عرضا لجوانب من تاريخ الموسيقى في مراحله المختلفة من العالم القديم إلى العالم الحديث إلى العالم المعاصر. ولست أدعي أنني أقدم بذلك دراسة تاريخية متعمقة للموسيقى، بل إنني لم أهدف إلا إلى إلقاء أضواء على مشكلات أثيرت في مراحل متباينة من تاريخ هذا الفن؛ فإذا استطاعت هذه الخواطر والمقالات والدراسات أن تثير في ذهن القارئ مزيدا من الأفكار، وتزيد من إحساسه بالأبعاد العميقة لهذا الفن الرفيع، فإني أكون قد حققت بها كل ما استهدفته بكتابتها من الغايات.
فؤاد زكريا
القاهرة 1968م
مع الموسيقى ... في رحلة الحياة
لم تتميز البيئة التي نشأت فيها بأي عامل يساعد على تنمية المواهب الموسيقية، أو حتى على كشف هذه المواهب إن كانت موجودة بالفعل؛ ففي المدارس الابتدائية كنا نتلقى نوعا من التعليم الموسيقي الاختياري الذي يقوم به معلمون يفتقرون هم أنفسهم إلى الحساسية والذوق المرهف. وفي المدرسة الثانوية كانت هناك دروس منتظمة (ربما لأن المدرسة التي التحقت بها كانت نموذجية في ذلك الحين)، ولكن المعلم كان يفترض مقدما أن تلاميذه لن يفهموا من دروسه شيئا، أو لن يعبئوا بها إن فهموها، فكان جهده كله مركزا على الفرقة العازفة للمدرسة، أما تلاميذ الفصول فكان تعليمه لهم مجرد واجب رسمي فحسب. وعلى أية حال فإن هذا التعليم لم يكن يبدأ أبدا بتجربة موسيقية تعرض مباشرة على التلاميذ، وتنمي تذوقهم الموسيقي، ولو في أبسط صورة بطريقة متدرجة، بل كان يبدأ بالدروس الجافة التي تقتضي مذاكرة وحفظا، خطوط النوتة الموسيقية «مي» و«صول» ... إلخ، ومسافاتها «فا» و«لا»، علامة «الروند» = 4 نوار ... وهكذا لم يكن درس الموسيقى يفترق عن دروس العلوم إلا في أن لغته أشد غرابة، وألفاظه أبعد عن الفهم. ومع ذلك، فما أحسب أننا في تعليمنا المدرسي قد تقدمنا كثيرا في هذا الميدان منذ ذلك الحين، وحسب المرء أن يستمع إلى الموسيقى التي تقدم في برامج الأطفال في الإذاعة والتلفزيون، وإلى أصوات المشتركين فيها، وعدم قدرة المشرفين على هذه البرامج حتى على التفرقة بين الصوت «النشاز» والصوت الصالح، ليدرك مدى تخلف التربية الموسيقية عندنا، والتأثير الهدام لوسائط الإعلام والتعليم الحيوية في كل موهبة تحتاج إلى رعاية وصقل وتدريب.
ولم تكن الألحان التي أسمعها في بيئتي المنزلية تزيد عما كان يسمعه أي طفل مصري من أسرة متوسطة في أواسط الثلاثينيات وأواخرها؛ ففي تلك الفترة كانت أغاني الإذاعة تشكل كل عناصر تجربتي الموسيقية، وكنت أتابع هذه الأغنيات باهتمام بالغ. ولعل أول ما جعلني على وعي بأن لدي نوعا من الحس الموسيقي هو أنني كنت أحفظ ألحان الأغنيات الشائعة بدقة تسمح لي بكشف أي خطأ في أدائها، حتى لو كان هذا أداء يقوم به محترفون.
وكان أول لقاء لي بالموسيقى العالمية لقاء حزينا يحيط به إطار من الرهبة والاكتئاب؛ فقد كانت الجنازات العسكرية تمر كلها أمام البيت الذي قضيت فيه طفولتي قرب ميدان العباسية، وكان العرف المتبع في ذلك الحين هو تشييع هذه الجنازات على أنغام الموسيقى النحاسية الحزينة (ولست أدري لم أبطلنا هذا التقليد الجميل ... أهناك ما هو أروع من تشييع بطل في يومه الأخير على ألحان الحركة الثانية لسيمفونية «البطولة» لبيتهوفن، أو اللحن الجنائزي في باليه روميو وجولييت للموسيقي «بروكوفييف» مثلا؟) وكان المارش الجنائزي لشوبان هو الذي يعزف في معظم هذه الجنازات العسكرية، بعد توزيعه بحيث يلائم الفرقة النحاسية،
1
وعلى الرغم من أنني كنت، وما زلت، أشعر دائما بأن آلات فرقنا النحاسية ليست منضبطة في أصواتها انضباطا كاملا، وأنها أشبه بالعود أو الفيولينة التي لم يحسن العازف ضبط أوتارها تماما فتركها منخفضة قليلا، أو مرتفعة قليلا، عما يجب أن تكون عليه (وربما كان ذلك راجعا، في حالة الآلات النحاسية، إلى تأثير الجو)؛ فقد كان لهذا المارش الجنائزي تأثير هائل في نفسي. وما زلت أذكر أنني حين كنت أصادف أحيانا جنازة عسكرية خلال عودتي من مدرستي، كنت أسير وراءها عن بعد مسافة طويلة، لا لشيء إلا لكي أستمتع بجمال اللحن، وربما كان لفظ «أستمتع » غير معبر بدقة عما كنت أحس به؛ إذ إن جو الرهبة والحزن المحيط بالجنازة العسكرية كان كفيلا بأن يحول دون حدوث أي «استمتاع» بالمعنى الصحيح. والأدق أن أقول إن ملاءمة الموسيقى للإطار الذي كانت تعزف فيه، والقدرة الهائلة للحن الشجي الحزين، وللطبول الضخمة الوقور، على أن تضفي على الموكب الجنائزي جوا من الأسى، من غير ضعف أو تخاذل، بل مع صمود وشموخ؛ كل ذلك كان بالنسبة إلي تجربة فنية فريدة، ربما لم أكن في ذلك الحين واعيا بكل عناصرها، ولكني كنت على أية حال مندمجا في تيارها العام كل الاندماج. ولا أكون مبالغا إن قلت إنني كنت أشعر بنوع من الفرحة المنقبضة - إن جاز هذا التعبير - كلما سمعت من بعيد أصوات الطبول التي تؤذن بمقدم جنازة يعزف فيها المارش المحبب إلى نفسي.
على أن التجربة التي أذكرها إلى اليوم بمزيج من الزهو والأسف على ما ضاع من الفرص والإمكانات، هي تجربة صنعي لآلتي الموسيقية الخاصة؛ ففي طفولتي المتوسطة، حين كنت في حوالي العاشرة، لم تكن لدي آلة موسيقية، ولم تكن أسرتي من الثراء بحيث تملك البيانو في البيت، كما أنها لم تكن مقتنعة بميولي الموسيقية إلى الحد الذي يجعلها «تضحي» بشراء آلة موسيقية بسيطة لي، بل إن نفس فكرة الميول الفنية وضرورة تنميتها كانت - وما تزال - فكرة غريبة عن أذهان الآباء والأمهات في معظم الأسر المصرية المتوسطة. ولم يكن هناك مفر من أن تجد ميولي الموسيقية مخرجا آخر؛ فقد صنعت آلة موسيقية بدائية من صندوق مستطيل من الصفيح، شددت فيه خيوطا من الجلد أو المطاط الرقيق المستخدم في طرود الأدوية وما شاكلها، وراعيت في الشد أن يكون متدرجا بحيث يكون كل خيط مناظرا لنغمة في السلم الموسيقي، وما زلت أذكر أن أجمل هدية كان يمكن أن تقدم إلي في هذه الفترة، هي خيوط المطاط التي تتيح لي أن أستبدل ب «الأوتار» البالية أوتارا أخرى سليمة متينة. ولم يكن في هذه الآلة البدائية أكثر من عشرة أوتار أو اثني عشر وترا ، ولكنها كانت تكفي لكي أعزف عليها - بطريقة أشبه بطريقة عازفي القانون - ألحانا شائعة معروفة للناس. ولكم كانت الدهشة تتملك أفراد أسرتي، وأصدقاءهم، حين كنت ألصق بأذنهم هذا الصندوق الصغير (الذي يستحيل أن يسمع صوته عن بعد)، فيجدون ألحانا حقيقية معروفة تصدر عنه! ولكي أكمل صورة «مغامراتي» الموسيقية في هذه الفترة المبكرة من حياتي، فإني أستميح القارئ عذرا أن أصف له وجها آخر من أوجه هذا الخيال الطفولي الطريف؛ فقد اكتشفت بعد فترة أن ماسورة صرف المياه (المظراب) الموصلة من «سطوح» بيتنا إلى أرض الشارع، لها قدرة على مضاعفة الصوت وتضخيمه ما بين فتحتها العليا وفتحتها السفلى. وسرعان ما استفدت من هذا «الكشف» في ممارستي لنشاطي الموسيقي؛ إذ كنت أضع الصندوق الصفيح في طرفها العلوي، فوق السطوح، بينما يتناوب أصحابي على الاقتراب من طرفها السفلي في الشارع فيسمعون منها ألحانا «شجية» لمحمد عبد الوهاب ومحمد صادق وغيرهم من مطربي ذلك الزمان. ولعل هذه الماسورة أعجب «ميكروفون» عرفه تاريخ الموسيقى، بحيث إنه لو كان لي أي حق في أن أدخل هذا التاريخ يوما ما، فلن يكون ذلك إلا من خلال فتحتي ماسورة بيتنا القديم!
ولكي يكون القارئ فكرة عن مدى بدائية هذه التجربة الموسيقية الأولى، فحسبي أن أذكر أنني، حتى ذلك الحين، لم أكن أعرف شيئا عن «نصف التون» في السلالم الموسيقية؛ إذ لم يكن تعليمنا الموسيقي في المدارس قد وصل إلى هذه المرحلة «المتقدمة»! ولكنني «استنتجت» وجود هذه الأنصاف حين كنت أجد أجزاء معينة من اللحن لا تصدر بدقة كاملة عن صندوق الموسيقى برغم حرصي على انضباط أوتاره. وكان واضحا أن موقع هذه الأجزاء في مكان ما بين الوترين المتتاليين، فلا بد إذن أن يكون هناك نصف صوت، وحين عدت بذاكرتي إلى منظر البيانو الذي رأيته في بيوت بعض أصحابي، تذكرت أن بعض «أصابعه» سوداء، و«استنتجت» أيضا أن هذه الأصابع السوداء لا بد أن تكون أنصاف الأصوات التي أقصدها. وكنت سعيدا غاية السعادة حين تحققت من صحة استنتاجي هذا في بيت أحد أصدقائي ممن يملكون البيانو، ولكنهم يقفون أمامه صما بكما لا يفيدون منه بشيء.
ومضت سنوات قبل أن أستطيع إقناع أسرتي بشراء آلة موسيقية حقيقية لي. وكنت قد شاهدت «الماندولين» في المدرسة، وأعجبني فيه صغر حجمه وصوته الرنان، فألححت في المطالبة حتى أفلحت أخيرا، وأنا في الخامسة عشرة من عمري، في الحصول على «ماندولين» لا أظن أنه كان جديدا. ولم تمض أيام قليلة حتى كنت أعزف عليه ألحانا بسيطة، ثم تعقدت هذه الألحان بالتدريج، وأصبحت في فترة وجيزة أجيد العزف عليه. غير أن هذا العزف، الذي لم يكن يخضع لإرشاد أو توجيه، كانت تشوبه أخطاء أساسية في «التكنيك» ذاته؛ أي في الأسلوب الذي لا بد من تعلمه عن الغير، ومع ذلك فقد وصلت في العزف إلى مرحلة أعدها، وسط هذه الظروف، مرحلة متقدمة إلى حد بعيد.
ولم يكن من الصعب أن أنتقل من هذه المرحلة العملية إلى مرحلة معرفة بعض الأسس النظرية للعلم الموسيقي؛ ففي هذا العام نفسه أصبحت أجيد قراءة المدونة (النوتة) الموسيقية، بعد أن تلقيت إرشادات من زميل لي في المدرسة، ما زلت أذكر فضله علي حتى اليوم. كان هذا الزميل - وهو من إندونيسيا - يمدني ببعض المدونات، ويوضح لي الأسس العامة لقراءتها. وكنت أشعر بإعجاب شديد، مقرون بدهشة بالغة، وأنا أراه يحول هذه البقع السوداء المتناثرة على سطور المدونة الخمسة إلى أنغام جميلة. ولم يمض وقت طويل حتى وجدت نفسي قادرا على ممارسة هذا السحر العجيب، بعد أن عكفت ببيتي أياما ركزت فيها كل جهدي على مدونات معينة، حتى استطعت أن أستخلص ألحانها بدقة وإتقان. وكان شغفي بالنتيجة التي وصلت إليها هائلا؛ إذ كنت كمن يكتشف كنزا جديدا نفيسا من بين سطور كل مدونة تقع بين يدي.
ومنذ ذلك الحين، كان «مصروفي» كله يضيع على شراء هذه المدونات، وكنت أنتظر أول الشهر بصبر نافد، لأسرع إلى محل «بابازيان» وأشتري منه مدونة أو اثنتين، وما زلت أحتفظ بمجموعة المدونات التي اشتريتها في فترة «الأزمة» هذه. ولكني كنت في البداية أشعر بخيبة الأمل لأن التدوين كان في معظم الأحيان صالحا لآلة البيانو، فعلمت نفسي كيف أحول ما هو مكتوب للبيانو بحيث يصلح للعزف على الماندولين (أو للفيولينة أيضا؛ لأن ترتيب الأوتار واحد)، بل كنت أحول المقام أحيانا، حين كنت أجده من النوع الذي تكثر فيه علامات «البيمول»، وهو مصدر مضايقة وصعوبة بالنسبة إلى عازفي الماندولين والفيولينة يعرفها كل خبير فيهما. وحين اختفت من السوق، في وقت ما، كراسات الموسيقى ذات الأسطر الخمسة (أو ربما ارتفع سعرها ارتفاعا باهظا)، قمت بتسطير كراسة كبيرة كاملة، دونت فيها مجموعة من الألحان بعد تحويل مقامها بطريقة تتناسب مع الآلة التي أعزف عليها، وما زلت أحتفظ بهذه الكراسة التي تمثل بدورها جانبا طريفا من تجاربي الموسيقية خلال الفترة الوسطى من سني مراهقتي. •••
على أن هذه التجارب لم تكن، حتى ذلك الحين، تمثل انتقالا حاسما من النظام النغمي الذي عودتني عليه الأغنيات المصرية الشائعة منذ طفولتي؛ إذ كانت كلها تتم من خلال بعد واحد فقط، هو البعد اللحني، ولم أكن قد تفتحت بعد على عالم البوليفونية، أو تعدد الأصوات في الوقت الواحد. وكانت التجربة التي اهتديت فيها إلى هذا العالم بسيطة غاية البساطة، عميقة غاية العمق؛ ففي أحد الأيام، بعد انتهاء اليوم الدراسي، كان أحد زملائي من أصحاب الهوايات الموسيقية يعزف فالس «الدانوب الأزرق»، وكان عزفه ضعيفا، ولكنه كان يحاول أداء كل ما في المدونة الموسيقية من أنغام هارمونية. وبرغم تعثره وتردده في العزف، فقد كان أداؤه للأعمدة الصوتية (الكوردات) سليما، وكان هذا كافيا لكي أشعر لأول مرة، عن قرب، بإحساسات موسيقية جديدة كل الجدة، أثارها التآلف النغمي الذي لم أكن حتى ذلك الحين قد جربته تجربة مباشرة. وبرغم بساطة هذه التجربة وقصر مدتها، فما زلت أذكر التأثير العجيب الذي تركته في نفسي؛ ففي طريق عودتي الطويل من المدرسة إلى البيت، كنت أشعر طوال الوقت كما لو كنت أمشي فوق السحاب، وكانت تنتابني رجفة ورعدة كلما تذكرت تلك التجمعات الصوتية الرائعة التي يحدثها التآلف النغمي ، وكانت تلك بالنسبة إلي تجربة فريدة من ناحيتين؛ فهي بداية الدخول إلى عالم جديد من الأصوات الموسيقية، مختلف عن ذلك العالم المألوف في البيئة الموسيقية الشرقية ذات الخطوط اللحنية البسيطة الواحدة - أي إنها بداية شعور بالانفصال عن البيئة المحيطة، وبالرغبة في تجاوز ما تقدمه هذه البيئة في ميدان الفن الموسيقي. وهي من جهة أخرى تمثل أول إحساس بتلك الإثارة العجيبة التي تبعثها الموسيقى، لا في الروح وحدها، بل في الجسم بدوره؛ فالرجفة والرعدة رد فعل عضوي أو فسيولوجي تستطيع الموسيقى، بقدرتها الفريدة، أن تثيره في الجسم إذا كان فيه من الحساسية ما يسمح له بالتناغم معها، فليست النشوة الموسيقية شعورا نفسيا أو روحيا فحسب، بل قد تكون لها مظاهر جسمية أيضا، كأن تسري في الجسم - خلال أوقات الحر القائظ - قشعريرة أشبه بتلك التي يبعثها البرد الشديد في الأوصال. ولست أعلم لهذه الظاهرة تعليلا، ولا أظن أن العلم بدوره يمكنه في الوقت الراهن أن يأتي لها بتفسير، ولكنها - بالنسبة إلي على الأقل - ظاهرة مجربة ليست قليلة الحدوث.
كانت تلك إذن هي البداية البسيطة، والعميقة، لدخولي عالم التوافق الصوتي، وسعيي إلى تجارب في عالم الموسيقى لم يكن في وسع البيئة المحيطة بي أن تقدمها إلي. وبالتالي كانت تلك بداية شعور ب «الاغتراب» عن الجو الموسيقي السائد في بلادنا، إن جاز لي أن أستعير هذا التعبير من مجال الفلسفة وعلم الاجتماع. ولم يكن هذا الانفصال مفاجئا، بل حدث بتدرج وبطء في البداية ثم ازداد سرعة فيما بعد، حتى جاء الوقت الذي أصبح فيه تاما. وبعبارة أخرى فقد كانت أذني في البداية تتقبل نوعي الموسيقى، المحلي والعالمي، بنوع من التعايش غير المستقر، ثم أخذ هذا التعايش يتحول بالتدريج إلى طغيان للموسيقى العالمية على الموسيقى المحلية. ولم يمض وقت طويل حتى حلت الأولى محل الثانية حلولا تاما لا رجعة فيه.
وقد يجد الكثيرون أن فكرة استبعاد الموسيقى العالمية للموسيقى المحلية استبعادا كاملا هي فكرة لا تبعث على الارتياح، وقد يفسرها البعض بأنها نوع من التعالي أو التظاهر بالثقافة. ولست أنكر أن الكثيرين ممن يزعمون هذا الزعم هم بالفعل متظاهرون ومدعون، ولكنني الآن بصدد وصف تجربتي الشخصية، ولست أملك إلا أن أقرر بصدق تام أنني حالما تمكنت من استيعاب الموسيقى العالمية وتذوقها، لم يعد في تجربتي مجال لتلك الموسيقى التي نسمعها في إذاعاتنا المحلية، فضلا عن أن عملية الاستبعاد هذه لم تستغرق وقتا طويلا، بل إنني، لكي أكون أمينا بحق، أذهب إلى أن هذه الموسيقى أصبح لها، بعد اعتيادي الموسيقى العالمية، تأثير عضوي من نوع مضاد لذلك الذي تحدثت عنه منذ قليل؛ فكثير من الألحان المحلية، بما فيها من رتابة وسير على وتيرة واحدة، ومن دوران في دائرة ضيقة من الأصوات المتقاربة المتدرجة، تبعث في رأسي دوارا حقيقيا، لا مجرد ملل نفسي. ولعل هذا يفسر كراهيتي الشديدة للراديو الترانزستور، الذي أعده أفظع اختراع ابتليت به البشرية؛ إذ إن في وسع جهاز واحد «قد الكف» بين يدي جار منسجم، أن ينغص علي ساعات كاملة من حياتي، دون أن يكون في استطاعتي أن أشرح متاعبي أو أشكوها لأحد. وأيا كان حكم القارئ على هذا الكلام، فليأخذه على الأقل من باب الاعترافات الشخصية، وليست كل الاعترافات الصادقة - كما نعلم جميعا - مرضية للجميع.
المهم في الأمر أننا إذا سمعنا من يقول إنه كف عن الاستمتاع بموسيقانا المحلية، وأنه أصبح يجد متعته الوحيدة في الموسيقى العالمية، فلا ينبغي أن نسارع بالحكم عليه بالتحذلق، قد يكون متحذلقا بالفعل، ولكن هناك من يقولون ذلك بصدق وإخلاص. وكل ما أستطيع أن أؤكده هو أن انتقالي من تلك البداية التي كنت فيها أحفظ ألحان الأغنيات الشائعة بدقة وأستطيع التقاط أبسط خطأ تفصيلي في أدائها، إلى المرحلة التي أصبحت فيها أتجنب هذه الألحان بأي ثمن، كان انتقالا طبيعيا ليس فيه أدنى أثر للافتعال. أما أولئك الذين لا يتصورون ذلك، ويتهمون كل اعتراف بالتصنع أو الادعاء، ويظنون أن الإعجاب بالموسيقى العالمية لا يعدو أن يكون تظاهرا ب «الفرنجة» يقوم به أناس معقدو النفوس - وهو حكم شائع يصدره أشخاص منهم من يحتلون مناصب رفيعة في ميادين الآداب والفنون - فلا أملك إلا أن أقول عنهم إنهم لم يمروا بالتجربة الموسيقية على حقيقتها، وأن من المستحيل وجود جسور للتفاهم حين يكون الأمر متعلقا بتجارب يمر بها شخص ولا يمر بها شخص آخر. •••
وكان أول مظاهر انفصالي عن موسيقى البيئة المحلية هي أنني كنت أنفرد بالراديو الذي تملكه الأسرة في حجرة خالية، خلال ساعات معينة من الليل، وأبحث في الظلام عن محطات إذاعية أجنبية تذيع برامج موسيقية كلاسيكية. أما سبب الانفراد والإظلام فهو أن الأسرة لم تكن تقر بالطبع هذا الاستعمال «غير المشروع» لجهاز الراديو، وكان لا بد من «تهريب» الجهاز وخفض صوته بحيث لا يسمعه أحد، وبرغم أن ظروف الاستماع هذه كانت سيئة إلى أبعد حد، وكانت بعيدة كل البعد عن «صدق الأداء
High Fidelity » الذي تتسم به أجهزة الاستماع الراهنة؛ فإن العالم الذي كان يتكشف لي خلال سير مؤشر الراديو جيئة وذهابا على صفحة القرص المضيء بأسماء بلاد الدنيا، كان عالما غريبا ساحرا. وما زلت أذكر تلك النشوة التي كان يبعثها في صوت مجموعات الفيولينة الكبيرة في الأوركسترات السيمفونية، حتى حين كان عزفها يقتصر على اللحن الميلودي البسيط. كان الفارق في نظري هائلا بين تأثير هذا الصوت الصافي العميق، وبين تأثير الكمان الهزيل في مجموعات «التخت الشرقي» التي كانت تقتصر عليها تجربتي الموسيقية حتى ذلك الحين. وكنت أشعر كما لو كنت أقوم برحلة مسحورة بين بلاد العالم، التي أسمع عنها في الصحف وفي دروس الجغرافيا دون أن أرى منها شيئا، حين تنقلني الإذاعة من بلد إلى آخر في تلك «السياحة الموسيقية» الفريدة. وكانت أوضح المحطات الإذاعية في تلك الفترة محطتي صوفيا وبوخارست، وقد بلغ من مواظبتي على متابعة برامجها الموسيقية أنني أصبحت أعرف، بالتكرار وحده، مواعيد هذه البرامج، بل استنجت معاني كلمات باللغتين البلغارية والرومانية، متعلقة بإذاعة الموسيقى، أصبحت تساعدني على فهم طبيعة البرنامج الذي أستمع إليه.
على أن أفضل مصادر الاستماع في الفترة التي سبقت دخولي الجامعة، كانت محطة الإذاعة الخاصة بالجيوش المتحالفة المرابطة في مصر في أواخر الحرب العالمية الثانية، وأظن أنها كانت في معسكر «كبريت»؛ فقد كانت هذه المحطة تقدم برامج من الموسيقى الكلاسيكية، وفي أحيان غير قليلة كان يسبق الإذاعة شرح موجز بالإنجليزية لظروف تأليف القطعة المذاعة وتحليل لبنائها الفني. وقد أفادتني هذه الشروح فائدة كبرى في تعميق فهمي لما أسمع، وفي تكوين أساس ثقافي لتجربتي الموسيقية. وما زالت هذه هي الحسنة الوحيدة التي أذكرها لتلك الفترة التي كانت فيها جيوش الحلفاء ترتع في شوارع القاهرة وتنشر فيها قيم الانحلال التي لا ينبغي أن يتوقع المرء شيئا سواها من جنود جاءوا من شتى آفاق الأرض، ينتظر كل منهم الموت في أي ساعة. •••
ومنذ دخولي الجامعة أخذ نصيب الممارسة، في تجربتي الموسيقية، يقل تدريجا، بينما ازداد نصيب الاستماع الواعي، وكان السبب الرئيسي في ذلك بطبيعة الحال انهماكي في الدراسة والقراءة العلمية خلال فترة الدراسة الجامعية وبعدها. ولم تكن هذه الدراسة تحول بيني وبين سماع الموسيقى، بل كان من المألوف أن أستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية الجادة خلال مطالعتي لكتاب، وأعتقد أنني كنت أستطيع أن أجمع، دون تعارض، بين هذين النشاطين في آن واحد، مع إعطاء كل منهما حقه. ومع ذلك فإن مصادر الاستماع كانت في ذلك الحين محدودة؛ إذ كانت الموسيقى الكلاسيكية محرمة في إذاعاتنا المحلية، وكانت إذاعة الجيوش المتحالفة قد أغلقت أبوابها بانتهاء الحرب، ولم تكن قد افتتحت بعد مكتبات الفنون التي تسمع فيها الآن جميع ألوان الموسيقى العالمية (كانت سني دراستي الجامعية بين عامي 1945م و1949م)، وكان من أهم مصادر ثقافتي الموسيقية عندئذ، جمعية الموسيقى الكلاسيكية بكلية الآداب، التي كان يشرف عليها الدكتور لويس عوض، والتي كنت من أصغر أعضائها المواظبين في ذلك الحين. وأذكر أنني حين كنت أسمع من صديق لي عن شخص لديه مجموعة جيدة من الأسطوانات، كنت أسعى إلى التعرف عليه وزيارته لكي أستمع إلى ما عنده، ولكن لم يكن ذلك بالحل الموفق نظرا إلى طبيعتي التي تنفر من تكرار التردد على بيوت الغير.
ولم يكن تذوقي لأعمال الموسيقيين العالميين متساويا في البداية. وأذكر أنني بدأت - كالغالبية العظمى من الشبان المصريين الذين يتذوقون الموسيقى الكلاسيكية - بالإعجاب الشديد بأعمال ريمسكي كورساكوف، مثل شهرزاد، والديك الذهبي، وبغيره من الموسيقيين الروس المشهورين، مثل بورودين، وتشايكوفسكي (الكابريشيو الإيطالية)، وافتتاحات روسيني (حلاق أشبيلية). وحين انتقلت إلى سماع السيمفونيات، كانت سيمفونيات تشايكوفسكي هي الأقرب إلى فهمي في البداية، وربما كان ذلك راجعا إلى الطابع القريب إلى الشرق، الذي تتسم به كل موسيقى روسية، حتى لو كان مؤلفها ممن اعتادوا أن يولوا وجوههم شطر الغرب، مثل تشايكوفسكي، كما أنه قد يكون راجعا إلى أن الطابع العصبي الانفعالي الحسي الذي تتميز به ألحان تشايكوفسكي وإيقاعاته، ملائم إلى حد بعيد لنفسية المراهقين. أما بيتهوفن فكنت أتذوق بعض سيمفونياته (الخامسة والسابعة) منذ البداية، ومنها انتقلت في مرحلة المراهقة المتأخرة إلى بقية السيمفونيات. وكانت السيمفونية التاسعة، وما زالت، عالما كاملا من المتعة الخالصة في نظري، وكان أول استماع لها تجربة فريدة، تميزت عن كل ما عداها بأن سحرها لم يكن يقل بتكرار السماع، بل كانت تتكشف لي في ذلك العمل العظيم أبعاد جديدة كلما ازددت تعمقا فيه. ومع بيتهوفن، جاء موتسارت، ومندلسون، وشوبان، وبرامز، وكل الفترة الرومانتيكية.
وأستطيع أن أقول إن المسار الطبيعي للقدرة على التذوق يبدأ بموسيقى النصف الأول من القرن التاسع عشر، ثم يمتد تدريجا في الاتجاهين: اتجاه الجزء الأخيرة من القرن التاسع عشر، ثم القرن العشرين، من جهة، واتجاه الموسيقى الكلاسيكية في عهد باخ والسابقين عليه في القرن الثامن عشر، وربما السابع عشر، من جهة أخرى. وأشد متذوقي الموسيقى رهافة هم الذين يجمعون على نحو فريد بين تذوق الأعمال المعاصرة، والإعجاب الشديد بموسيقى عصر الباروك والروكوكو في أوروبا. وأذكر أنني كنت أستمع بانتظام، خلال فترة إقامتي بنيويورك (التي سأتحدث عنها بالتفصيل فيما بعد)، إلى برنامج يقدمه ناقد موسيقي متعمق اسمه «ديكوفين
DeKoven »، كان يسميه برنامج موسيقى «البارو كوكو» وهو اسم مركب من الباروك والروكوكو، وكان هذا الناقد يؤمن إيمانا عميقا بأن تلك الفترة هي التي شهدت العصر الذهبي للموسيقى، كما كان يقدم نماذج نادرة من موسيقى ذلك العصر، يشرحها بطريقته المتحمسة ويطري مزاياها، ولا ينسى أن يبدي أسفه - في كل مناسبة - على أن موسيقى القرن التاسع عشر قد طغت على القرنين الثامن عشر والسابع عشر الهادئين الرزينين اللذين لم يعرفا عصبية الإنسان الرومانتيكي أو تشنجاته. وكان في تحمسه البالغ للأعمال التي يشرحها، بل في صوته ذاته ما يذكرني إلى حد بعيد بأستاذنا الدكتور حسين فوزي في تعليقاته البديعة على الأعمال الموسيقية بإذاعة البرنامج الثاني. غير أن شيئا ما كان يشوه برامج «ديكوفين»، هو أنه كان في نهاية كل برنامج يستجدي المحسنين من المستمعين استجداء حقيقيا أن يبعثوا بما تجود به أريحيتهم من تبرعات إلى عنوانه بمحطة إذاعة مدينة نيويورك (N. Y. C)
لكي يستطيع استكمال رسالته في تقديم هذه البرامج. ولقد كان الرجل بالفعل يبذل في برامجه مجهودا غير عادي، ويتكلف الكثير من أجل الحصول على التسجيلات النادرة لتلك الفترة التي لا تلقى ما تستحقه من عناية شركات الأسطوانات. ولكن نغمة الاستجداء التي كان يختم بها برامجه كانت تبدو نشازا لا يطاق في ختام برامجه الرائعة، لا سيما وهو في بلاد أصحاب الملايين، التي تستطيع نفقات تشغيل طائرة عسكرية واحدة من طائراتها، خلال رحلة واحدة من رحلاتها التدميرية، أن تكفي «ديكوفين» مئونة الاستجداء، وتقدم إليه ذخيرة من الأعمال الموسيقية تكفيه مدى حياته!
أما من حيث الأنواع الموسيقية فكانت موسيقى الأوركسترا الكبيرة هي الأقرب إلى ذوقي في البداية، وكان لا بد من مضي وقت غير قصير قبل أن أستطيع استيعاب موسيقى الغرفة
Chamber Music ، وموسيقى آلة البيانو بوجه خاص، وكذلك أصوات الغناء البشرية في الأوبرا والأغنيات المنفردة.
أما صعوبة تذوق البيانو في البداية، فترجع أولا إلى أن تعقد أصوات العزف على هذه الآلة يقتضي من المستمع قدرة على التجريد تتيح له تتبع اللحن (إذا كانت القطعة من النوع اللحني
Mélodie ) وسط التعقيد الهائل من الأصوات المتشابكة والمتداخلة، أو تتيح له الاستمتاع بالتآلف النغمي خالصا إذا لم تكن القطعة لحنية. ومن جهة أخرى فإن الطريقة الغربية في العزف على البيانو تثير صعوبات خاصة أمام المستمع الشرقي؛ إذ إن ضربات الأصابع على البيانو متقطعة، تعتمد على نوع الرنين في الوصل أو الفصل بين أجزاء اللحن، وهو عمل يشكل صعوبة كبيرة للأذن الشرقية، التي اعتادت أن تكون أجزاء الألحان موصولة، سواء أكان ذلك في الآلات ذات النغم المتصل، كالكمان، أم ذات النغم المنفصل، كالعود والقانون، اللذين يحاولان ب «الترعيش» أن يحققا الاتصال بين أصوات اللحن. وبتأثير هذه العادة الشرقية في الاستماع نشأ ذلك المسخ المشوه، الذي يسمى بالعزف الشرقي على البيانو، وهي ظاهرة كانت أكثر شيوعا في جيلنا مما هي عليه في الجيل الحالي؛ ففي «أيام الزيارة أو المقابلة»، كان من الشائع أن تقول الأم لابنتها أمام الجمع المحتشد في حجرة الاستقبال: «قومي يا سميحة سمعينا حاجة»، وتقوم سميحة بعد تمنع، وتسير كالبطة السمينة نحو البيانو الموضوع في أبرز مكان من حجرة الاستقبال (!)، ثم تستدير نحو أمها وتسألها في دلال وخجل: «أسمعكوا إيه؟» فترد الأم: «عاوزين نسمع كادني الهوى»، وهي تعلم أن سميحة لا تعرف غيرها، وأنها تعلمتها بعد عذاب في شهور طويلة كان «مدرس الموسيقى» يعلمها خلالها موضع إصبع تلو الآخر بطريقة ميكانيكية، بحيث لم يكن لسميحة في عزفها فضل يزيد عما لعازف «البيانولا» في إدارته الآلية لذراع صندوق الموسيقي، وترتفع من البيانو «طرقعة» الأنغام من تحت أصابع سميحة «السميكة»، وتسمع البيانو وكأن اليد اليسرى فيه طبلة تمسك «الواحدة»، واليد اليمنى تنتقل بخفة (من فرط التكرار) فوق البيانو وقد انفتح الكف فتحة كاملة حتى يستطيع الإبهام أن يعزف نغمة القرار، والبنصر (الإصبع الصغير) أن يعزف نغمة الجواب، ويتأرجح الكف مفتوحا في حركة سريعة بين الإبهام والبنصر، مع الانتقال هبوطا وصعودا فوق أصابع البيانو تبعا لأنغام اللحن، وسميحة تتمايل يمنة ويسرة وكأنها تعزف لحنا سماويا لأول مرة، بينما الأم السعيدة تنظر بزهو وفخر إلى عيون الجالسات، واثقة من أن واحدة منهن على الأقل ستعجب ب «مؤهلات» ابنتها العزيزة، وستمتدح أمام ابنها (الذي يبحث عن عروس ) جمال ومواهب البنت الحلوة التي «تضرب بيانو ... وتتكلم فرنساوي!» وهي أعظم مؤهلات الزواج في فترة الثلاثينيات والأربعينيات عند أفراد الطبقة المتوسطة من ذوي التطلعات السخيفة.
لعلني قد أسهبت قليلا في وصف هذا المشهد الذي كان مألوفا في وقت نشأتي، ولكن عذري في ذلك هو الرغبة في إيضاح الهوة السحيقة بين العزف الشرقي على البيانو (وهو في نظري من أفظع التجارب الموسيقية وأسخفها)، وبين العزف الغربي الكلاسيكي على هذه الآلة ذات التاريخ المجيد، وتلك الهوة هي في رأيي أهم أسباب الصعوبة التي يجدها كثير من متذوقي الموسيقى العالمية، ولا سيما في المراحل الأولى من تجربتهم الموسيقية، في فهم الأعمال المؤلفة للبيانو فهما عميقا كاملا. •••
وأما صعوبة تذوق الأصوات البشرية في الغناء العربي فترجع بدورها إلى عادات معينة للاستماع تكونت لدى الأذن الشرقية نتيجة لطرق الغناء الشائعة بيننا؛ ففي طريقة الغناء الشرقية نجد لكلمات الأغنية أهمية لا تقل عن أهمية اللحن، وقد تفوقها في كثير من الأحيان. وأول ما يحرص عليه الملحن والمغني هو أن يكون كل حرف وكل مقطع واضحا سليما، حتى ينقل المعنى إلى ذهن المستمع، وفي معظم الأحيان يتم ذلك على حساب الصوت البشري ذاته؛ أعني أن المغني يحرص على نقل كلام الأغنية أكثر مما يحرص على إظهار الإمكانات الكامنة في صوته (إن كان لها وجود). ومن الطبيعي في هذه الحالة أن تبدو طريقة الغناء الغربية «صراخا» في نظر المستمع الشرقي؛ إذ إن جهد المغني في حالة الغناء الغربي ينصب على تحقيق كل ما في الصوت البشري من إمكانات، لا على توصيل الكلمات إلى المستمعين. وكثير من الغربيين لا يفهمون كلمات الغناء الذي يسمعونه، بل لا يستطيعون تمييزه حتى إن كان بلغتهم الأصلية. كذلك فإن الملحن يستخدم الصوت البشري أداة أشبه ما تكون بالآلة الموسيقية من حيث استخلاص كل ما ينطوي عليه هذا الصوت من قدرات لحنية وتعبيرية. أما الكلمات فليس لها في الغناء شأن كبير، ويكفي أن نقول إن موضوعات معظم الأوبرات من السذاجة والسطحية بحيث لا يمكن أن يقنع أحد بالقيمة الدرامية لكلماتها، وحتى في الحالات التي تكون فيها الكلمات ذات قيمة شعرية رفيعة، كبعض أغنيات شوبرت وهوجو فولف، تجد الناس لا يعجبون بالأغنية لكلماتها، بل من أجل ألحانها، وإذا تعين عليهم الاختيار بين أغنيتين إحداهما تتميز بأشعار رفيعة ولحن متوسط القيمة، والأخرى ذات كلمات تافهة ولحن جميل، فإنهم لا يترددون في تفضيل الثانية، بل إن المحاولة التي بذلها ريشارد فاجنر من أجل ابتداع «فن متكامل» يجمع بين جمال الكلمة وجمال النغم، لم تنجح إلا بفضل روعة موسيقاه، بينما لا يعبأ مستمعوه كثيرا بأشعاره أو بموضوعاته الدرامية.
فالفارق إذن كبير بين وظيفة الصوت البشري في الغناء الشرقي وفي الغناء الغربي، والطابع الطليق المتحرر الذي يتسم به الغناء الغربي، والذي يجعله قادرا في تحقيق كل ما ينطوي عليه صوت الإنسان من إمكانات، هو الذي يجعله يبدو «صراخا» في نظر المستمع الشرقي. ومن هنا كان تذوق الغناء في الموسيقى العالمية من المراحل المتأخرة في التجارب الموسيقية لمعظم المستمعين الشرقيين، بل إني أعرف الكثيرين ممن اكتسبوا خبرة غير قليلة في الاستماع الموسيقي، لا يطيقون الاستماع إلى الغناء الغربي. وتلك على أية حال مسألة تذوق وتعود، ولكني أستطيع أن أقول، من واقع أحاسيسي الخاصة، إن التجربة الموسيقية تكتسب قدرا كبيرا من الثراء إذا أضيف إلى عناصرها صوت بوريس كريستوف وهو يغني ألحان «موسورسكي»، وصوت «يوسي بيورلنج» وهو يغني لفيردي، وصوت «إليزابيث شفارتسكويف» وهي تغني لشوبرت أو سيبيليوس. والمهم في الأمر أن يعتاد المرء سماع صوت المغني دون أن يعبأ كثيرا بعدم فهمه لكلمات الأغنية. وأود في هذا الصدد أن أدلي باعتراف قد يبدو في نظر البعض غريبا: وهو أنني لا أحاول مطلقا عندما أستمع إلى تسجيل لإحدى الأوبرات، أو لمجموعة من الأغاني، أن أتتبع الكلمات مع اللحن، بالرغم من أن هذه الكلمات مكتوبة أمامي وفي متناول يدي مع كل أسطوانة. صحيح أنني أعرف موضوع الأوبرا في مجموعه ، ولكني لا أحاول أبدا أن أتابع تفاصيل هذا الموضوع خلال استماعي للأوبرا؛ اعتقادا مني بأن عملية التتبع هذه تشوه التجربة الموسيقية، ورغبة في الاستمتاع بهذه التجربة خالصة من كل عنصر ذهني غريب عنها. وقد أكون مخطئا في موقفي هذا، ولكن هذا هو المسلك الذي أتبعه حيال الغناء الغربي، ولا أظن أن استمتاعي بهذا الغناء قد نقص لطريقتي هذه في تذوقه.
وإذا كنت قد تحدثت بالتفصيل عن هذه المراحل المختلفة في تذوق الموسيقى العالمية، فإن من بين الأهداف التي أرمي إليها من هذا الحديث المفصل، ضرورة مراعاة هذه المراحل في أي برنامج للتذوق الموسيقي يوضع في بلادنا ذات التقاليد الشرقية؛ فلا معنى على الإطلاق للبدء في هذا البرنامج بسماع «موسيقى الغرفة» أو سوناتات البيانو، أو أغاني الأوبرا، بل إن البدء بالسيمفونيات والكونشرتات المشهورة قد يكون هو ذاته بداية غير صحيحة. والأفضل أن نراعي ذوق المستمع الشرقي، فنقدم إليه في البداية قطعا روسية بسيطة، لكورساكوف وخاتشاتوريان وتشايكوفسكي. وهذا ما يحدث بالفعل عند الكثيرين، غير أنهم يتوقفون للأسف عن هذا الحد، ويرفضون كل ما يتجاوز هذه المرحلة، ولكن من واجب كل من يقوم بتعليم التذوق الموسيقي أن يستغل في مستمعيه حب هذه الألحان ذات الطابع الشرقي، لينبههم بالتدريج إلى عناصرها الأخرى، ولا سيما العناصر البوليفونية فيها، ويتدرج بهم صعودا نحو أنواع أكثر تعقيدا وتجريدا. ومن الحائز أن المستمع الياباني أو الصيني، أو المستمع الأفريقي الأسود، يحتاج إلى طريقة أخرى في التعليم، يتدرج فيها على نحو مخالف تبعا لعاداته الخاصة في الاستماع. ولكم يكون من المفيد أن يجري بحث تجريبي يقارن بين تدرج قدرة المستمعين المنتمين إلى حضارات مختلفة على التذوق، ومدى الصعوبة التي تلقاها كل فئة في استيعاب الأنواع الموسيقية المختلفة. ولكن مثل هذا البحث، على قدر علمي، ما زال ينتظر من يقوم به.
ومن أهم الأمور في نظري، في أي برنامج سليم للتذوق، أن يسعى المرء بالتدريج إلى الإقلال من ربط الموسيقى بقصص أو موضوعات واقعية، حتى يتدرب المستمع على ممارسة التجربة الموسيقية خالصة؛ فقد يكون من المفيد في البداية رواية حكايات عن المناسبات التي ألفت فيها القطعة الموسيقية، وربط كل جزء من أجزائها بانفعال أحس به المؤلف، أو بتجربة عاطفية مر بها، أو بحادث معين أثر في نفسه - كل ذلك قد يكون مفيدا في البداية من أجل اجتذاب انتباه المستمع غير المدرب، ولكن الاستمرار في هذا الاتجاه يكون لدى المستمع عادات سيئة، وربما جعل الارتباطات الأدبية أو الانفعالية أو التاريخية تغلب لديه على الاستمتاع بالأنغام ذاتها، فتكون النتيجة أن يخلق للألحان بخياله ارتباطات مصطنعة، ويعجز عن تذوق الأعمال التي لا تقبل بطبيعتها تفسيرا موضوعيا من هذا النوع.
ولأعد بعد هذا الاستطراد «التعليمي» الطويل لأتابع تطور تجربتي مع الموسيقى، فأشير إلى أن الفرصة قد أتيحت لي، ولأول مرة، لمشاهدة عروض كاملة للأوبرا في صيف عام 1949م، حين سافرت في رحلة إلى باريس بعد تخرجي في الجامعة مباشرة، ضمن وفد من مدرسي اللغة الفرنسية المصريين الذين أوفدتهم الحكومة الفرنسية في دراسة صيفية على نفقتها الخاصة، وتمكن البروفسور «جان جرنييه» من أن «يحشرني» وسطهم مع أني لم أكن في ذلك الحين إلا «طالب وظيفة» انقضى على تخرجه شهر واحد! ومن بين الليالي الثلاثين التي قضيتها في تلك الرحلة الممتعة في باريس، أمضيت ست ليال على الأقل في دار الأوبرا؛ حيث أتيحت لي فرصة مشاهدة بعض درامات فاجنر وأوبرات فردي و«لولي». وكانت التجربة بالنسبة إلي رائعة غاية الروعة، لا سيما وأن الأداء كان ممتازا، فضلا عن أن الإخراج المسرحي كان عظيما بحق. ولست أستطيع أن أعبر عما كنت أشعر به من سعادة ونشوة وأنا أهبط سلالم دار الأوبرا المشهورة في باريس بعد عرض أستمتع فيه لأول مرة بروائع الأوبرات العالمية، بعد أن كانت أسعار تذاكر دار الأوبرا الباهظة في مصر تحول على نحو قاطع بيني وبين مشاهدة أي عرض موسيقي عالمي خلال فترة دراستي.
وخلال السنوات السبع التي أعقبت ذلك، وهي فترة كان يشغلني فيها العمل العلمي من أجل التحضير لدرجتي الماجستير والدكتوراه، كانت تجربتي في الموسيقى تكاد تكون مقتصرة على الاستماع إلى الإذاعات، وقراءة بعض الكتب الإنجليزية والفرنسية من آن لآخر. على أن كثيرا من الأفكار كانت تختمر في ذهني عن الموسيقى العالمية وعن نواحي الضعف في موسيقانا المحلية. وقد قمت بصياغة هذه الأفكار في أول عمل تأليفي أنجزته في ميدان الموسيقى، وهو كتاب صغير بعنوان «التعبير الموسيقي» (مكتبة مصر، 1956م)، ولم تكن صفحات هذا الكتاب تتجاوز المائة إلا قليلا، ومع ذلك فقد أحسست بالارتياح حين وجدته قد لقي ترحيبا من القراء والمعلقين، بالرغم من أن الآراء التي عرضتها فيه، ولا سيما ما يتعلق منها بالموسيقى الشرقية، كانت مكتوبة بلهجة نقدية شديدة. ومع ذلك فقد استلفت نظري أن معظم من كتبوا عنه لم يتعرضوا للجوانب النقدية التي حاولت فيها أن أشرح عيوب الموسيقى الشرقية على أسس موضوعية علمية، مع أن هذه الجوانب دون غيرها هي التي كنت أود أن أعرضها لاختبار الباحثين. •••
وكان أهم الأحداث التي أدت إلى تعميق تجربتي الموسيقية هي سفري إلى الولايات المتحدة، وإقامتي بمدينة نيويورك؛ حيث كنت أعمل بمقر الأمم المتحدة خلال خمسة أعوام كاملة من 1957م إلى 1962م؛ فمدينة نيويورك هذه بلا شك عاصمة العروض الفنية، والموسيقية على الأخص، في العالم، لا لأن أهلها أشد حساسية من غيرهم في مجال الفن الموسيقي، بل لأنهم أقدر على جلب أعظم العازفين وقواد الأوركسترا في جميع أنحاء العالم؛ ولأن الفنان المشهور الذي يقدم فيها عرضا، يستطيع أن يضمن جمهورا غنيا يتهافت على حجز مقاعد حفلاته كلها مقدما، مهما يبلغ ارتفاع الأسعار.
ولن أتحدث عن فرق الباليه العالمية التي لم يكن ينقطع مجيئها في كل موسم، أو عن مجموعات الرقص الشعبي التي كانت تفد من كل أنحاء العالم، بل سأقتصر في حديثي على الفن الموسيقي والغنائي وحده، وهو الفن الذي نلت منه خلال إقامتي الطويلة هذه أعظم قسط من المتعة ومن الثقافة والمعرفة. ولقد تمكنت بمجرد حضوري من الحصول على اشتراك موسمي في أشهر قاعات الموسيقى الأمريكية في ذلك الحين، وهي «كارنيجي هول»، وهو ما ينبغي أن يعد «ضربة حظ» رائعة؛ إذ إن قائمة انتظار الحصول على اشتراك للموسم الموسيقي الكامل تضم ألوفا ينتظرون سنوات طويلة قبل أن يحصلوا على ما يريدون. ولعل اسم الهيئة الدولية التي كنت أعمل بها كان له دوره في «ضربة الحظ» هذه. وعلى أية حال فإن حضوري بانتظام لحفلات السبت المسائية في هذه القاعة الموسيقية الكبرى، لمدة خمس سنوات كاملة، أتاح لي فرصة نادرة للتعرف على أرفع أنواع الموسيقى، وأعظم الموسيقيين وقواد الأوركسترا في مختلف بلاد العالم، معرفة مباشرة ... وما زلت، بعد هذا الوقت الطويل، أشعر بحنين جارف إلى تلك الأيام التي يغادر فيها المرء قاعة الموسيقى في «الشارع السابع»، وقد امتلأت روحه بنشوة لا توصف، ليستقبله البرد والثلج في شتاء نيويورك القارس، فيزيد البرد من متعة الروح، ويضفي على التجربة الموسيقية إطارا أثيريا رائعا.
ولقد كانت الفترة التي ترددت فيها على قاعة «كارنيجي» آخر أيام مجد هذه القاعة المشهورة؛ ففي نفس العام الذي غادرت فيه الولايات المتحدة (1962م) كان قد تم بناء قاعة أخرى أحدث وأفخم وأكبر من «مركز لينكولن» (لينكولن سنتر) للفنون، وهو مشروع ضخم كان قد بدأ منذ سنوات، وتكلف عشرات الملايين من الدولارات، لبناء قاعة موسيقية ودار للأوبرا، ومسرح للباليه وكونسرفتوار؛ أعني مدينة فنون كاملة، على أحدث طراز. ونظرا إلى كوني مشتركا قديما في قاعة كارنيجي فقد حجزت لي إدارة المركز الجديد مقعدا لاشتراك موسمي في القاعة الجديدة بدورها، ولكن حلول موعد عودتي إلى الوطن حال بيني وبين حضور الافتتاح العظيم. وكان من أشق اللحظات على نفسي تلك التي كتبت فيها خطاب اعتذار عن قبول المقعد المحجوز، الذي كان المئات دون شك ينتظرونه في لهفة.
ولعل أروع الظواهر التي شهدتها في قاعة كارنيجي، ما كان يتجلى فيها بوضوح من قدرة الفن على تجاوز الحواجز الأيديولوجية والتقريب بين البشر على أساس إنساني يعلو على كل الخلافات السياسية والمنازعات الدولية؛ فمن آن لآخر كانت القاعة تستضيف فنانا مشهورا من الفنانين السوفيت، وكان الاستقبال الذي يلقاه الفنان في البداية، ثم التصفيق والتكريم الذي يودع به في النهاية، ظاهرة مؤثرة بحق، ولا سيما في بلد يتشبع أهله بدعاية الحرب الباردة التي تسري في عقولهم مسرى الدم في جسم الإنسان، وتطفح صحفه وأجهزة إعلامه بمظاهر الكراهية العدوانية للخصم السياسي، ولا يعرف عن هذا الخصم سوى أنه عدو لدود يريد أن «يدفنه». برغم كل هذه المظاهر، وبرغم أن نسبة عالية من رواد قاعة الموسيقى الكبرى هم من أصحاب الموارد المرتفعة، والمصالح «الرأسمالية» الواضحة، فقد كان هذا كله يذوب أمام روعة الفن، وينسى الجميع الوطن الذي ينتمون إليه، أو النظام الاجتماعي الذي يمثله الفنان، ولا يتذكرون سوى أنهم أمام إنسان عظيم، يقدم إليهم أروع وأسمى متعة للروح.
هناك شاهدت «ليونيد كوجان» عازف الفيولينة السوفيتي العظيم، بشعره الأسود الغزير ووجهه الأسمر وملامحه التي تكاد تكون شرقية صميمة، وهو يقف بثبات رائع أمام جمهور غريب ليقدم إليه عزفا فريدا في نوعه لأشهر الكونشرتات العالمية. وهناك شاهدت عميد عازفي الفيولينة السوفيت، «دافيد أويستراخ» الذي ربما عده البعض أعظم عازفي الفينولينة في العالم. منظره لا يوحي على الإطلاق بأن هناك فنانا نادر المثال من وراء هذه القامة القصيرة البدينة، وهذه الملامح السمحة وكأن صاحبها «خباز» طيب القلب. وحين يمسك بالفيولينة تكاد تتعجب كيف ستتمكن هذه الأصابع السمينة القصيرة من أن تعبر عن التفاصيل النغمية الدقيقة على الأوتار، أو تلاحق سرعة العزف اللاهثة، لا سيما وأن عهدنا بعازف الفيولينة - وبالفنان عامة - أن يكون ذا أيد نحيلة وأصابع رشيقة طويلة. ولكن ما إن يبدأ العزف، حتى ينسى المرء كل شيء، بل ينسى أن في الأمر أية صعوبة؛ إذ إن أصعب الأنغام تصدر عنه وكأنه لا يبذل أي مجهود، ودون أن يظهر في عزفه أي أثر للتوتر، ولا يشعر المستمع إلا بالآلة الصغيرة وهي تغني، وكأن أصواتها تحيط به من كل جانب، وتملأ كل فراغ القاعة الفسيحة.
وحين استمعت إلى عازف البيانو السوفيتي المشهور «إميل جيليلز
Emil Gilels » بدا لي أن الرجل قد وصل إلى أقصى ما يستطيع عازف هذه الآلة المجيدة أن يبلغه من حساسية ودقة وإتقان. ولكن لم تمض أيام قليلة حتى أرسل السوفيت «صاروخهم» الفني الجبار: «سفياتوسلاف ريشتر» أعظم عازفي البيانو في عصرنا هذا بلا منازع. وكانت الحفلتان اللتان استمعت فيهما إلى هذا العازف الكبير من أروع التجارب الموسيقية التي مرت بي في حياتي، كان يدخل قاعة الموسيقى في خجل شديد، وتكاد تشفق عليه ظنا منك أنه سيرتبك أمام الجمهور الحاشد، وحين يطأطئ رأسه الذي أوشك على الصلع، بشعيراته الحمراء القليلة الباقية، أمام تصفيق الجمهور، تكاد تشعر بأنه يقاوم رغبته في الانسحاب من القاعة، ولكنه بمجرد أن يجلس أمام البيانو، وحتى قبل أن يبدأ في العزف، تحس من جلسته ومن نظرته إلى البيانو أنه تحول إلى شخص آخر، وأن هذا الإنسان الساذج الخجول قد غدا عملاقا جبارا. أما حين يبدأ العزف، فإن من الصعب عليك فعلا، حتى لو كنت مستمعا ذا خبرة طويلة، أن تصدق أن يدين اثنتين، وعشرة أصابع آدمية فقط، هي التي تعزف. إن الأنغام التي تصدر عن البيانو تغني عن فرقة كاملة، ليس فقط لسرعتها وتعقيدها وإتقانها المذهل، بل لتنوع الألوان الغريب، الذي لا يكاد المرء أن يتوقعه من هذه الآلة بالذات. وبثقة كاملة تمتد يدا ريشتر الجبارتان فوق البيانو طولا وعرضا، وتسري الكهرباء الخفية منه إلى كل مستمع في القاعة، وحين ينتهي العزف، تشهد أعجب «المظاهرات» وأجملها: التصفيق، ثم صياح الإعجاب من الجمهور الذي ينسى نفسه، وينسى وقاره، ثم الوقوف إجلالا لإنسان عظيم، ويستمر التصفيق إلى الحد الذي تشعر فيه - حين تعود إلى بيتك فيما بعد - بأن يديك تؤلمانك حقا، ثم تنهال على المسرح باقات الورد خلال موجة التكريم العارمة، الطويلة المدى، والفنان الخجول يعود مرة أخرى إلى شخصيته البسيطة المنطوية على ذاتها ... ولا يملك المرء، إزاء هذا المشهد الإنساني الرائع، إلا أن يتساءل: أما كان من الممكن أن يصبح العالم الذي نعيش فيه عالما أفضل لو كانت اجتماعات الأقطاب تبدأ بعزف كهذا، أو كانت جلسات الأمم المتحدة تسبقها مظاهرات فنية كهذه ؟
وعلى ذكر الأمم المتحدة، فقد كانت للمنظمة الدولية الكبرى بدورها حفلاتها الموسيقية التي تنظمها في مناسباتها المختلفة، ولا سيما في عيدها السنوي، وكان كبار الفنانين العالميين المستوطنين في أمريكا يتطوعون للاشتراك في هذه الحفلات دون مقابل؛ مشاركة منهم في أداء هذه الرسالة الإنسانية للمنظمة العالمية. وأذكر من الفنانين الذين شهدتهم في هذه الحفلات، عازف الفيولينة العظيم «ياشا هايفتز»، الذي يحيط به الجلال منذ لحظة دخوله القاعة حتى انصرافه عنها وسط تهليل المستمعين، وكان بمشيته عرج خفيف، لا أدري إن كان دائما أم مؤقتا، ولكن أحد الحاضرين أكد لي أن أصل هذا العرج يرجع إلى أيام زيارة هذا الفنان (وهو يهودي) لإسرائيل؛ إذ انتقد الأوضاع فيها وسخر من حياة أهلها، فضربوه «علقة» أحدثت به هذه العاهة - وهي رواية أشك جدا في صحتها! وعلى أية حال فإن كل ضربة قوس من هذا الفنان الذي أذهل العالم بعزفه منذ أن كان في السابعة عشرة من عمره، كانت تنم عن خبرة وحساسية نادرة، وكان رنين الفيولينة «الستراديفاريوس» التي يعزف عليها رائعا بحق. ولولا مسحة من الروح التجارية تجلت في بعض تسجيلاته المتعجلة خلال السنوات العشر الأخيرة، لظل على الدوام يحتل مع دافيد أويستراخ - أعلى قمم العزف على الفيولينة في العصر الذي نعيش فيه.
ويذكرني «ياشا هايفتز» بعازف آخر من أساطين الفيولينة شاهدته مرة واحدة، هو «يهودي مينوهين»، واسمه يغني، بالطبع، عن معرفة أصله، ولكنه بدوره من اليهود خصوم إسرائيل، وأبوه من الكتاب المشهورين الذين انتقدوا سياسة هذا البلد وأسلوب حياته. وقد كان هذا العازف ملء الأسماع والأبصار في الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من هذا القرن، وكان «طفلا معجزا» بكل ما تحمله الكلمة من معان، ولكنه انصرف في الأغلب إلى قيادة الأوركسترا في الآونة الأخيرة برغم أنه لم يزل في أوج نضوجه، ولست أدري لذلك سببا سوى أن عازفين آخرين أشد منه تحمسا لبلد «الشعب المختار» قد رفعوا إلى القمة، مثل إيزاك (إسحاق) ستيرن وناثان ميلستين (والسين في الاسمين الأخيرين تنطق في أصلها الألماني شينا، ولكن التأمرك جردها مما يغطيها من النقط). •••
والحق أن حديث اليهودية والموسيقى في نيويورك وفي أمريكا حديث طويل؛ ففي هذه المدينة، التي يعيش فيها من اليهود عدد أكبر من ذلك الذي يعيش في دولة إسرائيل كلها، والتي تزيد نسبة اليهود فيها عن ثلث مجموع السكان البالغ ثمانية ملايين ونصف المليون، في هذه المدينة يسطر اليهود بالطبع على كل منافذ الشهرة، ويتحكمون في سوق الفن تحكما يكاد يكون تاما، ومن يسيطر على قاعات نيويورك الموسيقية ومسارحها فقد سيطر على الفن في أمريكا كلها. وأوركسترا النيويورك فيلهارمونيك، الذي هو أشهر فرقة موسيقية في الولايات المتحدة، يكاد يكون كله مؤلفا من اليهود، وهذا ليس في ذاته بالأمر المستغرب؛ إذ إن من المعروف أن اليهود عازفون بارعون. أما عدد المؤلفين الموسيقيين منهم فليس كبيرا، وفيما عدا مندلسون، وربما «مالر»، فإن معظمهم - من أمثال مايربير وأوفنباخ وسان صانس - هم من موسيقيي الدرجة الثانية، أو «من أعظم غير العظماء»، كما يقول التعبير المعروف (وربما كان إيثارهم للعزف راجعا إلى أنه يجلب مزيدا من الربح؛ إذ إن العازف البارع يربح أضعاف ما يربحه المؤلف المشهور).
2
ولكن القائد الدائم لهذا الأوركسترا العظيم - وهو منصب يتهافت عليه معظم قواد الأوركسترا في العالم - كان يهوديا صهيونيا متعصبا اسمه ليونارد (أو لينارد كما ينطقونه هناك) برنستين (وهي بدورها نفس السين التي يرفع عنها الأمريكان برقع الحياء، فضلا عن إزالة الفتحة الأصلية من التاء بحيث يصبح المقطع الأخير على وزن «طين»). هذا «البرنستين» لم يكن له تاريخ معروف في قيادة الأوركسترا، وكل ما في الأمر أن قائدا تغيب ذات مرة، فاضطروا في آخر لحظة إلى الاستعاضة عنه بهذا الشاب «المغمور»، «وعندما أصبح عليه الصباح وجد نفسه مشهورا»، وحشر برنستين حشرا مع القائد الأصلي للأوركسترا، وهو اليوناني البارع ديمتري متروبولوس، ليكون له «شريكا مخالفا». ولم تدم الحال طويلا؛ إذ إن القائد اليوناني مات بعد عام واحد من حضوري إلى نيويورك (1958م)، وخلا الجو لبرنستين ليصبح قائدا للأوركسترا العظيم، ويحتل أكبر منصب مرموق بين المشتغلين بالموسيقى في أمريكا.
ولعل القارئ يظن أن للاعتبارات السياسية أو القومية دخلا في حكمي على جدارة قائد الأوركسترا هذا بمنصبه ، ولكن حقيقة الأمر أن الكثيرين من المحايدين سياسيا، بل من الأمريكيين الخلص، لم يكونوا مقتنعين بكفاءة برنستين. وكان من أبرز العوامل التي تقلل من قدره أمام الجمهور، حركاته المضحكة أثناء قيادته للأوركسترا؛ فمن حق كل قائد للأوركسترا أن ينفعل بالموسيقى التي يؤديها، ولكن هذا الانفعال لا ينبغي أن يصل أبدا إلى حد الابتذال، ولقد كان برنستين يتراقص بوسطه حينا، وبكتفيه حينا آخر، بطريقة تحسده عليها «عوالم» شارع محمد علي. وأنا لا أقول ذلك مبالغة أو تشنيعا، وإنما أصف ما شاهدته بالفعل، ولم يكن في أدائه الموسيقي، على أية حال، أي عنصر غير عادي، يبرر شغله للمنصب الذي كان يحتله قبل سنوات غير طويلة «أرتورو توسكانيني» العظيم. ولكنه، في مقابل ذلك، كان «يحج» إلى إسرائيل بانتظام، وفي أول زيارة له إلى «أرض الميعاد» سجد على الأرض، بمجرد هبوطه من سلم الطائرة، وقبل التراب، والتقطت له عندئذ مئات الصور والأفلام، وسرعان ما كانت جميع أجهزة الإعلام الأمريكية تذيع على الملايين ذلك المشهد العجيب.
وقد يسأل سائل: وهل تبلغ سلطة التعصب اليهودي ذلك الحد الذي يجعل غير الأكفاء يرتفعون على حساب الأكفاء في ميدان الفن بدوره؟ وردي على ذلك أن المسألة لا تتعلق قطعا بوضع أشخاص خلوا من الكفاءة في مناصب لا يستحقونها، فكل هؤلاء موسيقيون موهوبون دون شك، ولكن سوق المواهب في بلد كبير كهذا حافلة بطلاب الشهرة والمجد، والتنافس في ميادين الفنون رهيب، فإذا وجدنا أن الفائزين هم في معظم الأحيان من ينتمون إلى الديانة اليهودية، فلا بد أن يكون ذلك شيئا لافتا للنظر. ويزول العجب إذا علمنا أن الفن، في بلد كالولايات المتحدة، يخضع لقواعد السوق الحرة، وأن هناك عددا من المتعهدين الكبار، كلهم من اليهود، وعلى رأسهم قيصر الحفلات الموسيقية الجبار، سول هوروك
Sol Hurok ، هم الذين يملكون القدرة على أن يرفعوا الفنان إلى عنان السماء أو ينزلوا به إلى سابع أرض؛ إذ إنهم هم الذين يملكون قدرة الإنفاق على إيجار القاعات الموسيقية، ودفع أجور الأوركسترا المصاحبة في فترة العزف وما يسبقها من تدريبات، ونفقات حملات الإعلان الباهظة. ومن جهة أخرى فإن المتنافسين على مراكز الشهرة عديدون، وفي كل عام يظهر مئات من الشبان كلهم يصلحون لأن يكونوا في الصف الأول من العازفين، وكثيرا ما يحدث أن يتفوق شاب في مسابقة من المسابقات الشاقة، ويظن الجميع أن أبواب الشهرة قد فتحت أمامه على مصراعيها، ولكن لا يمضي وقت طويل حتى يطويه النسيان.
وتحضرني في هذا الصدد قصة عازف البيانو «فان كلايبرن
Van Cliburn » الذي كان أمريكيا «صعيديا» من تكساس، وكان قد أحرز المركز الأول في عدة مسابقات محلية شديدة الصعوبة في أمريكا، ومع ذلك فإنه عندما سمع عن مسابقة «تشايكوفسكي» العالمية التي تجرى في موسكو، لم يستطع أن يجد أجر السفر ونفقاته، واضطر إلى الاقتراض والاستجداء من بعض المؤسسات الخيرية، وعندما سافر إلى موسكو ودخل المسابقة، كان نجاحه ساحقا، وأصبح معبود الشعب السوفيتي بين يوم وليلة، وانهالت التعليقات التي تشيد به وتبدي الإعجاب بمقدرته الفنية، وسرعان ما وصلت موجة الإعجاب إلى الصحف الأمريكية، حتى أصبح موضوع الساعة في طول البلاد وعرضها، واستقبل عند عودته استقبال الأبطال في موكب لا أول له ولا آخر، بل لقد أصبح نجاحه - خلال فترة ما - عاملا من عوامل تخفيف حدة الحرب الباردة بين البلدين. هذا الشاب ذاته كانت مواهبه معروفة قبل سفره، ولكن أحدا لم يعبأ به، ولم يساعده على تحقيق أمله، بل كان من الممكن أن تندثر مواهبه تماما، لولا أن ساعده «البلد الخصم» على إظهارها، وبمجرد عودته، استغل المنظمون الذين لم يلتفتوا إليه من قبل، نجاحه الساحق في تنظيم حفلات بلغت أسعارها أرقاما قياسية، وانهالت الدعوات عليه من كل المدن الكبرى، وغمرت أسطواناته السوق، كل ذلك في فترة وجيزة. ولكن موجة الحماسة سرعان ما انحسرت، وأخذ اسمه يختفي بالتدريج، وعادت الأسماء التقليدية إلى الظهور. ولست أدري ماذا آل إليه أمر هذا الشاب الموهوب اليوم، ولكنه على أية حال ليس من الأسماء اللامعة في حياة أمريكا الموسيقية، ولا أظن أن السبب في أفول نجمه يرتد إليه هو ذاته، بل الأرجح عندي أن المنظمين الذين اضطروا وقتا ما إلى الاعتراف به واستغلاله، قد «استهلكوه» بالدعاية المفرطة المركزة الخاطفة، ثم تخلوا عنه ليعودوا مرة أخرى إلى أبناء طائفتهم المفضلين! ومجمل القول أن المجال مفتوح دائما للاختيار بين فنانين كلهم أكفاء، وأن الاختيار يمكن في كثير من الأحيان أن يتم على أسس لا شأن لها بالفن ذاته. •••
على أن هذه الشوائب، التي ربما كانت أمرا لا مفر منه في مدينة لها تكوين مدينة نيويورك، لا تقلل بحال من المتعة التي يستطيع كل متذوق للفن أن يكتسبها عندما يقيم في بلد يجتذب، كالمغناطيس، كل فنان ناجح مرموق من جميع أرجاء العالم، فضلا عن أولئك الذين استوطنوا المدينة، وهجروا بلادهم الأصلية منذ عشرات السنين.
وإني لأذكر، من بين أعظم من شاهدت من الفنانين الضيوف، قائد الأوركسترا المشهور «هربرت فون كارايان»، إمبراطور الموسيقى الأوركسترالية في القارة الأوروبية بلا منازع. وما أعظم الفارق بين هذا النمساوي العريق وبين صاحبنا «برنستين» القائد الدائم لأوركسترا «نيويورك فيلهارمونيك». لقد استطاع «فون كارايان» أن يضفي على القاعة بأسرها، بعازفيها ومتسمعيها معا، جوا من المهابة والجلال لم أشهد مثله في أي حفل موسيقي حضرته. لم يكن يسرف في إشاراته إلى الأوركسترا، ولكن كل حركة من حركاته القليلة كانت لها دلالتها البالغة، حتى لأكاد أقول إن المرء يستطيع التعرف على اللحن من حركات أصابعه وذراعيه، حتى لو لم يكن يسمع منه شيئا، وكان في شخصيته عنصر واضح من الوقار والقدرة على السيطرة وكسب الاحترام، وقد استقبله الجمهور وودعه بعاصفة من التصفيق لا تشهدها القاعات الموسيقية إلا في أحداثها الكبرى.
ومن العازفين المستوطنين الذين يصعب أن ينساهم المرء، عازف الفينولينة الكبير «جوزيف زيجيتي» الذي كان شيخا مسنا عند مشاهدتي له في عام 1959م، ولكنه كان لا يزال ذلك الفنان الشديد الحساسية، القوي الشخصية، الذي يعرفه الجميع من تسجيلاته المشهورة. والحق أن لدى زيجيتي قدرة فريدة على أن يضفي طابعه المستقل الخاص على كل قطعة يعزفها. وأسلوبه في العزف من تلك الأساليب التي تستطيع الأذن الخبيرة أن تميزها دون عناء؛ إذ إنه، برغم قدم عهده بالموسيقى العالمية، ما زال يحتفظ بآثار من طريقة عزف موسيقى الغجر (التسيجان) التي تشتهر بها بلاده الأصلية، المجر. وبرغم أن طريقته في العزف تبدو في نظر البعض خشنة متحشرجة إلى حد ما، فإني لا أستطيع أن أنكر إعجابي الشديد بأصالة هذا الفنان وقدرته الفريدة على أن يضفي في كل مرة شيئا جديدا حتى على أوسع المؤلفات الموسيقية ذيوعا وأكثرها تكرارا في قوائم البرامج.
ويطول بي الحديث لو وصفت الانطباعات التي تركها في نفسي عزف «كلاوديو أراو» (أشهر عازفي أمريكا اللاتينية)، أو رودلف فركوجني (التشكوسلوفاكي)، أو فيليب أنترمون (البلجيكي الرشيق الشاب) على البيانو، أو قيادة آندريه كلوتانز
André Cluytens
أو شارل مونش أو بيير مونتو للأوركسترا ... إنهم جميعا عباقرة، وكلهم من ذلك النوع النادر من البشر، الذي يملك مواهب فذة تضفي سعادة على كل من يستمع إليه - وهل هناك ما هو أندر في هذه الأيام من إنسان تشع السعادة من حوله لكي تضيء حياة كل من يحيط به؟ •••
ولست أود أن أطيل الحديث عن المصادر الأخرى لتجربتي الموسيقية خلال إقامتي في الولايات المتحدة؛ إذ إن الحديث عن الأوبرا ليس في كل الأحوال حديثا شائقا في نظر القارئ الشرقي، حتى لو كان من عشاق الموسيقى العالمية، وحسبي أن أقول إنني استمتعت في دار «المتروبوليتان» للأوبرا بسماع عدد من الفنانين العالميين، منهم ريناتا تيبالدي، السوبرانو ذات الجسم الممتلئ والملامح التي تشع بروح الأمومة، وماريا كالاس اليونانية العصبية المزاج، ذات الصوت الأنثوي الدافئ، وجورج لندن صاحب الصوت «الباص» الفخم، الذي كان ينتظره عندئذ مستقبل زاهر. أما أصوات التينور فكانت هناك أزمة عامة فيها خلال تلك الفترة، وأظن أن هذه الأزمة ما زالت قائمة إلى اليوم؛ إذ لم يظهر بعد «بنيامينو جيلي» (الإيطالي) في الأربعينيات، ثم «يوسي بيورلنج» (النرويجي) في الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، صوت من أصوات «التينور» يسد الفراغ الذي تركه كبار الفنانين في العصر الذهبي لهذا الصوت خلال النصف الأول من هذا القرن.
ومن الذكريات الطريفة التي أذكرها من دار أوبرا «المتروبوليتان»، أن مغنية روسية مشهورة - لا أذكر اسمها - حضرت لأداء بعض حفلات الأوبرا، ولم تكن تجيد اللغات الأخرى اللازمة في غناء الأوبرات، ولا سيما الإيطالية، وكانت الأوبرا التي شاهدتها تؤديها هي «مدام بترفلاي»، وقد أدتها بطريقة غريبة حقا؛ إذ كان جميع المغنين الآخرين يغنون بالإيطالية، بينما ترد هي عليهم بالروسية، ولم يكن في هذا الاختلاف اللغوي أي إقلال من متعة النغم، وكان واضحا أن الجمهور معجب كل الإعجاب بصوتها القوي ومقدرتها على التحكم في طبقات هذا الصوت. ومع ذلك ففي إحدى اللحظات الدرامية في الأوبرا كان التينور يغني، وعندما جاء دورها في الرد قالت: «نييت» (ومعناها بالروسية: لا)، فدوت أرجاء القاعة بالضحك. أما سبب الضحك (وهو ظاهرة نادرة بين جمهور الأوبرا، ولا سيما في المواقف الدرامية)، فهو أن كلمة «نييت» هذه هي نفسها التي يستخدمها المندوب السوفييتي في مجلس الأمن كلما استخدم حق الفيتو - وما أكثر ما يستخدمه - وهي كلمة أصبحت مشهورة ومكروهة لدى الأمريكيين؛ لأنها طالما أطاحت بخطط تريد حكومتهم أن تفرضها على المنظمة العالمية! •••
وما دمت في معرض الحديث عن الجمهور الأمريكي، فمن الواجب أن أذكر أن عشاق الموسيقى العالمية فيه أقلية، بل هم أقلية ضئيلة إذا قيسوا بنسبتهم في بعض البلاد الأوروبية. والحق أن أنضج شعوب العالم لا تنطوي إلا على نسبة محدودة من محبي هذا النوع من الموسيقى. ومن الخطأ أن يظن البعض أن هناك شعوبا يتذوق كل أفرادها الموسيقى الكلاسيكية، وكل ما في الأمر أن النسب تتفاوت تبعا لمدى ارتفاع مستوى الثقافة العامة لدى الشعب. ومن المؤكد أن هناك، حتى من بين أولئك الذين يحسبون ضمن عشاق الموسيقى العالمية بين الأمريكيين، عددا غير قليل يواظب على حضور حفلاتها حبا في الظهور وادعاء للثقافة والتعمق فحسب. وأذكر أن جاري في حفلات «كارنيجي هول» كان ينام بعد بدء العزف بقليل في معظم الحفلات، وأنه في المرات التي كان يصيبه فيها «الأرق» كان يخرج من جيبه ورقا وقلما ويقوم خلال العزف بعمليات حسابية لا أول لها ولا آخر - ومن الواضح أن أحواله المالية كانت أهم لديه بكثير من سماع الموسيقى النادرة التي تتجاوب في أرجاء القاعة. وهناك جار آخر علمت منه أنه مشترك منذ أكثر من خمسة عشر عاما، استمع مرة إلى برنامج للموسيقى المعاصرة يتضمن قطعة لمؤلف أمريكي اسمه «وليام شومان» فسألني متعجبا بعد انتهائها: كيف يعزفون قطعة من موسيقى القرن التاسع عشر لشومان في حفل مخصص للموسيقى المعاصرة؟ وكان السؤال غاية في الغباء؛ إذ إن الفرق بين أسلوب روبرت شومان، الفنان الألماني المشهور في العصر الرومانتيكي، وبين الأسلوب المعاصر لشومان الأمريكي، فارق لا يحتاج المرء إلى أية خبرة لكي يدركه على الفور، حتى لو لم يكن قد عرف من قبل بوجود «شومان» آخر في تاريخ الموسيقى الأمريكية. وبطبيعة الحال لا يحق للمرء أن يصدر حكما عاما على أساس حالات فردية كهذه، ولكن الملاحظ بالفعل أن حب التظاهر بالثقافة - وهو تعويضي منتشر بين أوساط الأثرياء - يدفع عددا غير قليل من الناس إلى حضور الحفلات الموسيقية بانتظام، كما لو كانوا يؤدون طقسا من الطقوس أو فرضا من الفروض التي لا يكون المرء بدونها معدودا في زمرة المثقفين. •••
ولست أود أن أختم هذه الذكريات الموسيقية عن فترة إقامتي في الولايات المتحدة، دون أن أتحدث عن مصدر هام من مصادر الثقافة الموسيقية في هذه البلاد، وهو الإذاعة؛ فمن بين المحطات الإذاعية الكثيرة جدا التي تنتشر في كل مدينة كبرى،
3
توجد دائما محطة أو اثنتان مخصصتان للموسيقى العالمية، تقدم إلى مستمعيها موردا لا ينضب من هذا الفن الرفيع. وصحيح أن هذه المحطات تشوبها في معظم الأحيان شائبة الإعلانات السخيفة، التي تهبط بالمستمع، بعد سماع رباعية وترية لبيتهوفن مثلا، إلى حضيض الإعلان عن أحدث دواء للصداع (الذي يسببه الإعلان ذاته بالطبع!) ولكن الأعمال الموسيقية الكبيرة تذاع كاملة دون مقاطعة وتسبقها عادة مقدمات تحليلية شارحة لمعلقين على مستوى عال من الثقافة. وبفضل طول مدة الإذاعات، تتاح للمستمع فرصة المقارنة بين التسجيلات المختلفة للعمل الموسيقي الواحد، فضلا عن سماع أعمال وتسجيلات نادرة.
4
والأمر اللافت للنظر حقا في هذه الإذاعات، والذي ينبغي أن نتنبه جيدا إليه، هو المستوى الهندسي الرفيع لطريقة الإذاعة نفسها؛ فقد استحدثت طريقة جديدة في الإذاعة، اسمها
FM (اختصار
Frequency modulation ، وهو تعبير في اللاسلكي لا أستطيع ترجمته، وحتى لو استطعت فلن أتمكن من شرحه) تمتاز بأنها تنقل الصوت نقيا إلى أبعد حد، بحيث تصل إلى أجهزة الاستقبال كل دقائق الموسيقى وتفصيلاتها الصوتية، وكلما ارتفع مستوى جهاز الاستقبال، كانت الموسيقى أصفى وأنقى. وعن طريق هذه الإذاعات يستطيع البعض، ممن توافرت لديهم أجهزة استقبال حساسة، أن يسجلوا المقطوعات المفضلة لديهم على شرائط بطريقة لا تقل في دقتها عن التسجيل في استديوهات الأسطوانات ذاتها. وبطبيعة الحال فإن هذا كله يقتضي نوعا من الوفرة لا نستطيع أن نطمع فيها الآن في مجتمعاتنا. ولكن العناية بالموسيقى المقدمة في الإذاعة لن تكلفنا كثيرا، لا سيما وقد أخذت الساعات المخصصة للموسيقى العالمية تزداد إلى حد لا بأس به في برامجنا الإذاعية؛ ذلك لأن في إذاعاتنا المحلية نوعا من التحريف أو التشويه الصوتي
distortion
يفسد المتعة الموسيقية، ولا سيما في حالة الأصوات الشديدة الارتفاع أو الانخفاض، مهما كانت دقة جهاز الاستقبال. ومن الممكن تلافي هذا العيب بتوجيه عناية خاصة إلى إذاعة البرامج الموسيقية، والاستفادة بخبرة الدول الأخرى في هذا الميدان.
وبرغم أن الموسيقى الكلاسيكية تحتاج بطبيعتها إلى أن تسمع بصوت مرتفع؛ حتى تستبين للأذن أصوات كل الآلات، الظاهرة منها والخفية؛ وحتى يتسنى تمييز الأجزاء الهادئة التي ينخفض الصوت فيها انخفاضا شديدا. وبرغم أن الشعب الأمريكي لا يقف في الصف الأول بين الشعوب الناضجة ثقافيا وخلقيا، فإني لا أذكر أنني سمعت مرة واحدة صوت موسيقى يعلو من داخل البيوت إلى الشارع أو إلى آذان الجيران. صحيح أن هناك أماكن تسمع فيها موسيقى صاخبة، ولكنها أماكن مقفلة يدخلها من يرغبون في الصخب، أما في الأماكن العامة، أو في البيوت، فلا أثر لضجيج الإذاعات على الإطلاق. ولعل القراء قد شاهدوا في الأفلام منظر الفتاة المراهقة التي تمسك بالترانزستور وتلصقه بأذنها وتسير متراقصة على أنغامه دون أن يشاركها في سماعه أحد؛ هذا ما يفعله مخترعو الترانزستور. أما عندنا، فإنه يغزو البيوت من نوافذها في أحلى ساعات النوم، ويجلجل في السيارات العامة والقطارات، بل ويتسلل إلى مكاتب الموظفين لكي يضيف عاملا آخر إلى عوامل تعطيل الإنتاج. •••
ولعل أفضل ما اكتسبته من سفرتي التي أطلت عنها الحديث، مجموعة الأسطوانات المختارة التي اقتنيتها، وجهاز الأداء الذي ينقل إلي أنغامها. ولست أدعي أن لدي كل ما أريد من التسجيلات (وهل يستطيع أحد أن يدعي ذلك؟) ولكني حاولت أن أكون لنفسي مجموعة كبيرة متوازنة من التسجيلات تغطي كافة فترات الموسيقى واتجاهاتها وأنواعها.
مع هذه التسجيلات أقضي اليوم - كلما سمحت المشاغل - أجمل الأوقات التي تتيح للمرء أن ينسى ضغط الحياة وتوترها ومدها وجزرها، لينتقل لحظات قصارا إلى عالم التوافق والصفاء وسكينة النفس وشفافية الروح. ولست أعني بذلك أنني ممن يتخذون الموسيقى وسيلة للهروب من مشكلات الحياة أو التخفيف منها، وإن كانت قادرة على ذلك بالفعل، فكثيرا ما تكون الموسيقى وسيلة لحشد طاقة الإنسان الروحية على نحو يستطيع معه أن يواجه مشكلاته بعزم أصدق وشجاعة أعظم. غير أني لا أميل، على وجه العموم، إلى أن أجعل من الموسيقى وسيلة لغاية أخرى، أيا كان جلال هذه الغاية وشرفها، وحسبي من التجربة الموسيقية أن تكون غاية في ذاتها، فإن كانت هذه التجربة تبعث في النفس طاقات روحية لا عهد للإنسان بها في حياته اليومية المألوفة، فإن أمثال هذه التأثيرات لا تعبر عن لب التجربة الموسيقية، وهي بالنسبة إلى هذه التجربة نتيجة عارضة غير مقصودة، ولن يجد المرء، لكي يعبر عن ماهية هذه التجربة، إلا أن يلجأ إلى تعبيرات شعرية صوفية لا تقدم ولا تؤخر، وإن كانت هي كل ما في متناول أيدينا إذا شئنا أن نتحدث عن عالم التآلف النغمي الفريد. وعلى من شاء أن يعرف كنه هذا العالم أن يمر بالتجربة ويبذل الجهد. وكل ما أستطيع أن أؤكده له أنه لن يندم على ما فعل. •••
وأحسب أن هناك مسألتين لو كنت قد استطعت نقلهما إلى ذهن القارئ لكانت هذه الذكريات الموسيقية، قد حققت قدرا كبيرا مما هدفت بها إليه. أولى هاتين المسألتين أنه لا توجد لدى أي مستمع، شرقيا كان أم غربيا، مناعة ضد الموسيقى العالمية، وأن في استطاعة كل إنسان مرهف الحس، أيا كان المجتمع الذي ينتمي إليه، أن يمر بتجربة تذوق هذا اللون من الموسيقى وينميها في نفسه، وعندئذ سيدرك أن الفن الموسيقي قادر على أن يقدم إليه ما هو أروع وأعمق بكثير من الألحان السطحية التي يكتفي بها المرء لو اقتصر على الاستماع التلقائي الضحل للموسيقى اليومية المألوفة.
أما المسألة الثانية فهي أن الموهبة الموسيقية شيء نادر لا ينبغي أن يضيع سدى، ومن الواجب كلما بدت تباشيرها أن تبادر الأسرة والدولة إلى تعهدها ورعايتها وتنميتها. والحق أن الإحساس الذي يغلب علي، كلما رجعت بذهني إلى ذكرياتي في عالم الموسيقى، هو الإحساس بفرص شاعت وإمكانات لم تتحقق، وتجارب لم تعرف طريقها إلى الاكتمال - وهو إحساس لا أود أن يتكرر في نفوس الأجيال الجديدة من أبنائنا.
وعلى أية حال، فإن هذه الذكريات، وربما هذا الكتاب بأسره، يسودها طابع «الاغتراب»؛ لأنها كلها مبنية على تجربة غير شائعة وغير مألوفة في مجتمعنا. ولكن هذا لا يعني أنها لم تكتب إلا لأصحاب التجارب المماثلة، إنها، على عكس ذلك، موجهة إلى الجميع، مستهدفة أن تشجع البعض منهم على خوض هذه التجربة الشائقة، وأن تقنع البعض الآخر بأن يقف من أصحاب هذه التجربة موقف الفهم والوعي وسعة الأفق، ويدرك - نظريا على الأقل - أن للفن أبعادا لا ينبغي بالضرورة أن تكون هي نفس الأبعاد التي ألفها وارتاح إليها. وأيا كان الحكم الذي ينتهي إليه القارئ بعد قراءته لهذه الصفحات فحسبي أن يعلم أنني نقلت إليه، بصدق وأمانة، صفحة من حياتي، وجانبا أعتز به من جوانب نفسي.
الإيقاع بين الحياة والفن
في البدء كان الإيقاع.
هانز فون بيلوف
حياتنا كلها غارقة في بحر من الإيقاع لا ينقطع هديره؛ فالكون من حولنا تدور ظواهره في إيقاع منتظم، يظهر أوضح ما يكون في دورات الأفلاك، وظهور النجوم والكواكب واختفائها، وفي تلك «التموجات» التي تتميز بها ظواهر الحياة، وذلك النبض الكوني الذي لا يعد نبض قلوبنا - أعني دليل الحياة فينا - إلا صدى داخليا له.
ومنذ أقدم العصور أثارت فكرة الإيقاع خيال الإنسان وحفزته على التأمل، فإذا به يأتي بالنظرية تلو النظرية لإثبات أن مسار الكون كله لا يعدو أن يكون إيقاعا هائلا ربما لم تكن حياة الإنسان بأسرها إلا نبضة واحدة من نبضاته، وإذا بفكرة «العود الأبدي» - أي المسار المتكرر للكون من البداية إلى النهاية وفقا لنظام ثابت يعود فيتردد مرات لا نهاية لها، كل مرة منها تمثل دورة كونية أو «سنة كبرى» وتشابه الدورات الأخرى في كل شيء - تغدو واحدة من أقدم النغمات المتكررة في الفكر البشري، ابتداء من «أنكسمندريس» في العصر اليوناني القديم حتى «نيتشه» في عهدنا القريب.
إن الإيقاع حولنا في كل مكان يشهد عليه تعاقب الليل والنهار، وتكرار أوجه القمر، وتتابع فصول السنة. وهو في داخل أجسامنا حقيقة لا تنكر تنظم بواسطتها شتى وظائفنا العضوية تنظيما دقيقا محكما، وفقا لفترات ودورات ثابتة، تؤكد لنا أن أعمق وظائف الحياة ذات طابع إيقاعي.
بل إن الإيقاع ليسود علاقات البشر كلما تجمعوا، نراه في تعاقب الأجيال، وفي التغيير الدوري لأذواق الناس وميولهم، بل يراه بعض المؤرخين ذوي النظرة الموسوعية الشاملة متمثلا في دورات كبرى تمر كل حضارة بشرية بمراحلها جميعا على نحو لا مهرب منه؛ فإذا تعامل الناس في مجال الاقتصاد، وجدوا أمامهم دورات اقتصادية يتناوب فيها الازدهار والكساد بنوع من الضرورة يكاد يكون محتوما.
وإذا ما تركنا المجال الكوني الأكبر، والمجال البشري الأوسط، جانبا، وتغلغلنا في أصغر دقائق المادة، وجدنا الإيقاع ماثلا بوضوح في سلوك نواة الذرة وجزيئاتها، وفي الموجات الكهربية بداخلها، وفي علاقة الخلية الحية بالبيئة المحيطة بها.
في كل شيء إذن هناك إيقاع، وفي كل مكان، وعلى جميع المستويات، تسلك الطبيعة مسلكا متموجا، وتعود من حيث بدأت في حلقات أو دورات تتشابه بدرجات متفاوتة، حتى لقد أكد فنان عظيم، ودارس متعمق للطبيعة مثل ليوناردو دافنشي أن كل صور الطبيعة إيقاعية متموجة، وأن الطبيعة الحقة لكل كائن إنما تتمثل في هذا الارتفاع والانخفاض الدوري الذي يقدمه لنا أنموذج الموجة.
ما الإيقاع؟
فما هو الإيقاع إذن؟ وما الدور الذي يقوم به في الموسيقى وغيرها من الفنون؟
تشتق كلمة الإيقاع
rhythm
في اللغات الأوروبية من لفظ
rhuthmos
اليوناني، وهو بدوره مشتق من الفعل
rheein ، بمعنى ينساب أو يتدفق. وفي اللغة العربية يرجح أن لفظ الإيقاع مشتق من «التوقيع»، وهو نوع من المشية السريعة؛ إذ يقال «وقع الرجل»؛ أي مشى سراعا مع رفع يديه. ومن المعروف أن مشية الإنسان من أهم الأصول الحيوية التي يرجع إليها الإيقاع، ولكن الأهم من ذلك هو فكرة الحركة بوجه عام؛ إذ إنها تظهر في الأصلين اللغويين العربي واليوناني معا؛ فالانسياب حركة، والمشي بدوره حركة، وفي ذلك دليل قاطع على الارتباط الوثيق بين الإيقاع والحركة كما تشهد به اللغة ذاتها.
هذا الإيقاع الذي يتمثل خارج الإنسان وداخله، والذي يعبر عن حاجة روحية وعن ضرورة مادية في الآن نفسه، هو عنصر نشعر به جميعا ونتحدث عنه، وندرك أنه أول مظهر للحياة في الموسيقى، كما هو أول مظهر للحياة في الكائنات الحية عامة. ولكن القول إن الإيقاع هو الذي يضفي على الموسيقى حياة واندفاعا، لا يكفي لكي يقدم إلينا تعريفا وافيا. والحق أن الإيقاع واحد من تلك الظواهر التي يصعب تعريفها لا لشيء إلا لكونها مألوفة، ولأن تأثيرها فينا ملموس بلا انقطاع. وعلى أية حال فلن نحاول الآن تقديم تعريف للإيقاع عامة، بل إننا نود أن نستعرض بعض التعريفات التي اقترحت للإيقاع الموسيقي على وجه التخصيص لكي نستشف منها أهم العناصر التي يتألف منها، والتي تضفي عليه كل هذه الأهمية في كل فن موسيقي عرفته البشرية منذ أقدم العصور.
كانت أقدم التعريفات التي قدمها إلينا فلاسفة اليونان للإيقاع تدور حول فكرة «الحركة» تمشيا مع الأصل الاشتقاقي للفظ، كما أوضحناه من قبل؛ فالإيقاعات قادرة على أن تعبر عن أحوال النفس البشرية لأنها في أصلها حركات، شأنها شأن مختلف الأفعال التي يقوم بها الإنسان. وقد تحدث أفلاطون عن الإيقاع على نحو يوحي بأنه يعتمد أساسا على الحركة، فقال: «إنك تستطيع أن تميز الإيقاع في تحليق الطيور، وفي نبض العروق، وخطوات الرقص، ومقاطع الكلام.» وظل لهذا الرأي في الإيقاع تأثيره طويلا، حتى تحدث القديس أوغسطين في أوائل العصور الوسطى عن الإيقاع فوصفه بأنه «فن الحركات الجيدة». كذلك فإن كثيرا من علماء النفس في العصر الحديث أرجعوا الإيقاع إلى مصدر حركي؛ فعالم النفس الألماني «فونت
Wundt » يرد الإيقاع إلى المشي، وريمان
H. Riemenn
يرده إلى نبض القلب، وبوشر
يرجعه إلى الحركات الجسمية، وكثيرون غيرهم يجمعون على أن الإيقاع هو قانون الحركة الطبيعية.
ولقد كان من الطبيعي أن يربط المفكرون في مختلف العصور بين الإيقاع والحركة؛ ذلك لأن الحياة التي تسري فينا، والتي تستمر خلال الزمان، إنما تتجلى في مجموعة متعاقبة من الحركات المنظمة تنظيما بديعا، كنبضات القلب وتناوب الشهيق والزفير في التنفس، والمشية الثنائية الخطوات في الإنسان، والرباعية الخطوات في الحيوان؛ ففي كل هذه الظواهر الفسيولوجية يرتبط الإيقاع التلقائي الحي بالحركة ارتباطا لا ينفصم، بل إن الحركة هي الظاهرة الأساسية في الكون بأسره، كما أدرك الفلاسفة منذ أقدم العصور؛ فالحركة والتغير في المكان والزمان هي عند الفيلسوف اليوناني هيرقليطس أساس فهم الكون والحياة معا، ولا شيء في نظره يثبت أو يستقر عند حال. ومن ثم فتناوب الإيقاع يسري في كل شيء. وكل من ألم بقدر من العلم عن سائر فلاسفة اليونان يعلم أن أفلاطون جعل الحركة مظهرا أساسيا لعالم المحسوسات (على حين أن السكون هو المميز لعالم المعقولات)، وأن أرسطو قد اتخذ من الحركة نقطة بداية لتفسيره للعالم، ومدخلا أساسيا إلى تعليل كل ظواهره. وحين ظهرت الأفكار الآلية الحديثة في الفلسفة، كان من الطبيعي أن تتخذ الحركة أساسا لتفسير الحوادث الكونية، سواء منها المادية والروحية.
وهكذا فإن قوام الإيقاع الموسيقي هو تلك الظاهرة التي رآها المفكرون، منذ أقدم العصور، كامنة في أساس كل تغير يطرأ على الكون، وكل تجدد وتنوع في الحياة، فبفضل الإيقاع تصبح الموسيقى فنا للحركة. •••
ولكن، هل تكفي فكرة الحركة لتعريف الإيقاع تعريفا جامعا يوضح طبيعته إيضاحا كاملا؟ الحق أن الحركة وحدها، وإن كانت هي القوة الدافعة لكل إيقاع، لا تكفي وحدها للكشف عن معناه؛ إذ إن الإيقاع ليس حركة فحسب، بل هو نوع معين من الحركة، ولا يمكن أن يكون الانسياب المتدفق للحركة، دون ضبط أو تنظيم، هو الذي يمثل الطبيعة الكامنة للإيقاع؛ وعلى ذلك فلا بد من إضافة فكرة التنظيم لكي يزداد معنى الإيقاع وضوحا في الأذهان.
وبالفعل نجد هذا المعنى واضحا في أذهان المفكرين منذ أقدم العصور؛ فأفلاطون كان هو بدوره الذي عرف الإيقاع بأنه «تنظيم الحركة»؛ أي إنه بعد أن صرح بأن أصل الإيقاع حركة حيوية، أضاف إلى هذا العنصر الحيوي عنصرا آخر ذا طبيعة ذهنية أو عقلية، هو عنصر التنظيم، الذي هو طريقة تشكيل الحركة المتدفقة وصياغتها في قالب أو صورة محددة.
وقد ظل لفكرة التنظيم بدورها دور أساسي في تعريف الإيقاع، بحيث اعترفت بأهميته أحدث التعريفات التي وضعت للإيقاع، فقيل إن «الإيقاع مجموع من اللحظات الزمانية الموزعة وفقا لترتيب معين»، وأن «الإيقاع هو النظام في توزيع مدد الزمان.»
ومع اعترافنا بالأهمية القصوى لعنصر التنظيم هذا، فمن الواجب أن نتساءل: فيم يتمثل هذا التنظيم، ومن أين جاء؟ إن في وسعنا التمييز بين نوعين من التنظيم: نوع نخلقه نحن، بإرادتنا الواعية، وتكون له في هذه الحالة طبيعة ذهنية خالصة، ونوع آخر تقدمه إلينا الطبيعة والحياة ذاتهما، وهو تنظيم نخضع له ونقبله كما هو، وإن كنا أحيانا نسيطر عليه في حدود معينة. ومن أمثلة هذا النوع الأخير، مشية الإنسان؛ فهي بحكم الطبيعة تنظيم معين لحركة الإنسان، لا نستطيع أن نغير شيئا من صورته الجوهرية، ولكنا نستطيع تعديل بعض تفاصيله، بدليل أن كل إنسان يمكنه أن يتحكم في مشيته ويعدلها - في حدود معينة - تبعا للظروف.
وعلى أية حال فإن أفضل وسيلة لتعريف الإيقاع هي تلك التي تجمع بين عنصري الحركة والتنظيم معا، بحيث تكون الحركة تعبيرا عن العنصر المادي أو الحيوي في الإيقاع، والتنظيم تعبيرا عن عنصره الذهني أو الروحي. وبهذا المعنى يكون الإيقاع جامعا بين المادة والروح في مركب واحد، أو بين المجال العضوي والبيولوجي من جهة، والمجال الذهني الهندسي من جهة أخرى، في توافق وانسجام؛ فالإيقاع في أساسه حركة، ولكن هذه الحركة إذا ظلت حرة طليقة بلا تنظيم لا تكون إيقاعا، بل لا بد ممن يسيطر عليها ويوجهها. •••
ولكن أية حركة هي تلك الي ينظمها الإيقاع الموسيقي؟ أهي الحركة التي نألفها في حياتنا المعتادة حين ننتقل من موضع إلى آخر؛ أعني الحركة المكانية؟ لا شك في أن الإيقاع الموسيقي ينظم حركة من نوع آخر، لا شأن لها بالمكان أصلا، بل هي حركة تتم خلال الزمان. وهكذا نجد لزاما علينا أن نشرح فكرة ثالثة تكون عنصرا أساسيا في فهم الإيقاع، بل في فهم الموسيقى ذاتها بوجه عام؛ وأعني بها فكرة الزمان.
في حياتنا اليومية تتمثل لنا، دون وعي، تلك التفرقة التي عبر عنها الفيلسوف الفرنسي برجسون بطريقة عميقة حين ميز بين الزمان
Le temps
والديمومة
La durée ؛ فحين نفكر في إحساسنا بمضي الوقت نجد فارقا واضحا بين ذلك الزمان الرتيب المتجانس الذي نعيشه بانفعالاتنا واهتماماتنا، والذي قد تطول فيه لحظات هي - بحساب الساعة الآلي - لحظات قصار، أو تقصر فيه فترات لا نشعر فيها بمضي الزمان وإن كانت الساعة تنبئنا بأن وقتا طويلا قد انقضى.
والزمان هو لب الإيقاع الموسيقي، بل إن الإيقاع الموسيقي ربما كان أقوى عناصر الفنون كلها تعبيرا عن الزمان. والواقع أننا حين نعرف الإيقاع بأنه تنظيم للحركة خلال الزمان، إنما نعني بذلك أن الإيقاع يقوم بإدخال تنظيم معين على ذلك السيل المتدفق من الحركة الزمانية، بحيث نشعر في الإيقاع بأننا نتحكم على نحو ما في مجرى الزمان وننظمه، بدلا من أن ننساب معه دون وعي.
ونحن نشعر جميعا بالزمن الحي، أو بما يسميه برجسون بالديمومة، في مختلف جوانب حياتنا؛ ففي حياتنا العضوية نشعر بالزمان في تلك الأحوال الجسمية المتفاوتة التنظيم، والتي يطلق عليها البعض اسم «الساعة العضوية». وفي حياتنا الانفعالية نحس بانقضاء الزمان على نحو متفاوت، تبعا لأحوالنا الوجدانية المتباينة؛ فنفاد الصبر يطيل الزمان، بينما السعادة تقصره، وقد يضيع إحساسنا بالزمان تماما في حالات النشوة والوجد. هذا النوع من الزمان الانفعالي كثيرا ما يتحكم في طريقة استجابتنا للموسيقى وتجاوبنا معها. ولما كانت الانفعالات بطبيعتها ذاتية تتفاوت تفاوتا شديدا تبعا للأفراد، فإن إحساسنا بالزمان في الموسيقى يتفاوت بدوره تبعا لدرجة حساسيتنا الانفعالية الخاصة، وقد يصل في حالة الاندماج التام، الذي يقترب من النشوة الصوفية، إلى فقدان تام للوعي بانقضاء الزمان، سواء بالنسبة إلى المستمع حين يستغرق في الإنصات للحن جميل أو إلى المؤلف أو العازف حين ينسى المشكلات الفنية (التكنيكية) التي تثيرها الموسيقى، ولا يستجيب إلا لوحي ألحانه.
ويظهر تأثير هذه الاختلافات الذاتية، التي ترجع إلى أصول عضوية أو وجدانية في حياة الفرد، أوضح ما يكون في نظرتنا إلى عامل السرعة في الموسيقى (التمبو
Tempo )، هذا العامل، الذي تشير إليه في المدونات الموسيقية عادة كلمات تدل على نوع السرعة المطلوب أداء القطعة بها، لا يمكن أن تعبر عنه أية صيغة كلامية، مهما كانت دقتها، بل إن الأداء البارع هو ذلك الذي يتجاوب مع روح المؤلف ويكشف عن الطابع الباطن لموسيقاه. ومن المعروف أن هناك نطاقا غير قليل من الاختلاف داخل الإشارات الواحدة إلى السرعة؛ فالقطعة الموسيقية الواحدة يقوم بأدائها العازفون المختلفون في أزمان مختلفة، بالرغم من أنهم جميعا يطيعون إشارات السرعة التي وضعها المؤلف. ومن المعروف عن بيتهوفن أنه كان يسمح لعازفي قطعه الموسيقية بقدر كبير من الحرية في الأداء، فقال مثلا لإحدى عازفات البيانو: «لست أعزف هذه السوناتا على طريقتك، ولكن استمري في العزف بهذه الطريقة؛ لأنها لا تقل عن طريقتي جمالا.» بل إن البعض يرون أن إيقاع السرعة يختلف تبعا للأمم؛ فالألماني أبطأ من الفرنسي، والفرنسي أبطأ من الإيطالي، وهكذا ... وعلى أية حال فإن المثل الأعلى في هذا المضمار هو أن يندمج القائم بالأداء في روح العمل إلى الحد الذي تكون فيه ذاتيته وذاتية مبدع العمل شيئا واحدا، وإن كان الاختلاف بينهما يضفي، في أحيان غير قليلة، أبعادا جديدة على العمل الفني.
هذا الاندماج التام في الأداء يكشف عن جانب آخر من جوانب العلاقة بين الإيقاع الموسيقي والزمان؛ فعلى الرغم من أن الإيقاع هو الذي يشعر المرء بالزمان في الموسيقى، فمن الممكن، إذا استغرق فيه المرء استغراقا تاما، أن يكون مؤديا إلى نسيان الزمان لا إلى الإحساس به عن وعي. ولا يقتصر ذلك على القائم بالأداء فحسب، بل إن المستمع ذاته قد يندمج في النشوة الموسيقية إلى الحد الذي لا يعود يشعر معه بانقضاء الزمن. وهكذا يجمع الإيقاع الموسيقي في آن واحد بين القدرة على تذكيرنا بالزمان، والقدرة على محو شعورنا بالزمان.
الإيقاع بين الموسيقى والفنون الأخرى
تتميز الموسيقى بأنها هي الفن الزماني بالمعنى الصحيح؛ فالزمان، كما قلنا من قبل، عنصر أساسي في تحديد طبيعة الإيقاع الموسيقي، وهو القالب الذي يصاغ فيه اللحن الموسيقي بدوره. ومن هنا كان من المستحيل تصور الموسيقى بلا زمان، ودون ذاكرة؛ فلو تخيلنا إنسانا حرم من قوة التذكر إلى حد أنه لا يستطيع أن يربط لحظات ماضيه بحاضره، فإن مثل هذا الإنسان لن يستمتع بالموسيقى مهما بلغت درجة حساسيته؛ ذلك لأن فهم الموسيقى يقتضي أساسا أن يكون لدى المرء حد أدنى من الذاكرة، يتيح له أن يجمع لحظاتها المختلفة في وحدة واحدة، بحيث يتذكر الأجزاء السابقة من القطعة الموسيقية وهو يستمع إلى أجزائها الحاضرة، ولولا ذلك لفقدت وحدتها العضوية، ولما عادت تمثل شيئا ذا معنى بالنسبة إليه. ولا جدال في أن هذه القدرة على الربط بين الماضي والحاضر تتفاوت بحسب الاستعدادات الفردية، كما تتفاوت تبعا لمقدار الخبرة والمران على الاستماع الموسيقي. ولكن هناك - كما أوضحنا - حدا أدنى من القدرة على التذكر بدونه يصبح التذوق الموسيقي مستحيلا.
والفن الزماني بطبيعته أقرب إلى الطابع الذهني من الفن المكاني؛ لأن الذهن وحده هو الذي يستطيع القيام بهذه الوظيفة الأساسية - وظيفة الربط بين الماضي والحاضر في العمل الفني الواحد - على النحو الكفيل بتكوين كل واحد شامل تزول فيه الفواصل الزمنية أو لا يعود لها تأثير في وحدة العمل الفني. من هنا كانت الموسيقى في نظر عدد غير قليل من الفنانين والمفكرين أقرب الفنون كلها إلى الطابع الروحي؛ إذ إن حاسة الاستماع بطبيعتها أقرب إلى الانطواء والذهنية، وأقوى صلة بعالم الإنسان الداخلي الباطن، من بقية الحواس، فضلا عن أن ما يسمع في حالة الموسيقى توافق صوتي خالص، وليس كلاما لغويا محدد المعاني كذلك الذي نستمع إليه في الشعر.
الموسيقى والشعر والأدب
لعل هذه العبارة الأخيرة قد أوضحت للقارئ أن هناك صلة من نوع خاص بين الموسيقى والشعر، ربما كانت أقوى من صلة الموسيقى بأي فن آخر؛ ذلك لأن الشعر بدوره فن زماني، والأداء فيه بدوره صوتي، ووسيلة تذوقه هي الاستماع، والإيقاع (أو الوزن) يقوم فيه بدور أساسي. كل ذلك يدفعنا إلى أن نحاول استطلاع العلاقة بين هذين الفنين بمزيد من التفصيل.
الحق أن العلاقة بين الموسيقى والشعر تبلغ من التشابك حدا أصبح من العسير معه أن يستقر الرأي حول مسألة تحديد أيهما يرد إلى الآخر، وأيهما هو الأسبق؛ فهناك نظريات تؤكد أن اللغة (التي يصاغ فيها الشعر) أسبق من الموسيقى، وأن أصل الموسيقى هو القدرة الصوتية اللغوية، وأن كل إيقاع لدينا يرتد آخر الأمر إلى وقع الأصوات اللغوية. وهناك نظريات أخرى ترى أن الموسيقى هي أصل الإيقاعات جميعا؛ لأنها لغة طبيعية لا تتقيد بقواعد اصطلاحية معينة، يسهل على الجميع فهمها والتأثر بها، ومن ثم فإن إيقاعاتها هي التي صبغت إيقاعات اللغة بصبغتها الخاصة، وبالتالي فإن الوزن الشعري قد استمد قواعده، في البداية، من الموسيقى.
ومن الصعب إلى حد بعيد أن يستقر المرء على رأي قاطع يحدد به موقفه بين هاتين النظريتين، لا سيما وأن مثل هذا التحديد يقتضي الرجوع إلى ماضي البشرية السحيق، والبحث في الأصول الأولى للغة ، وفي تلك التعبيرات الصوتية الأولى التي ربما كانت تجمع بين طبيعة اللغة البدائية وطبيعة الموسيقى في آن واحد. ومن الجائز أن الاثنين معا قد استمدا من أصوات كانت تستخدم نوعا من النغم وسيلة للتعبير عن إحساس معين، قبل أن تتخذ اللغة صورتها الكلامية المألوفة. وربما كان هذا هو الأصل الذي تفرعت عنه اللغة، حين أصبحت الأصوات رموزا لا تقصد لذاتها، بل تستمد كل قيمتها من اصطلاح الناس عليها واتفاقهم على الربط بينها وبين الموضوعات التي ترمز إليها، كما تفرعت عنه الموسيقى من ناحية أخرى، حين أصبحت بعض الأصوات تعد غاية في ذاتها، وتكتسب قيمتها من الطابع الكامن فيها، لا من علاقتها الرمزية بموضوع خارج عنها.
على أننا لو شئنا أن نلتمس لهذه المشكلات حلا في ضوء المراحل التي يمر بها الإنسان منذ طفولته الأولى، لوجدنا أن الطفل يستطيع عادة أن يتكلم قبل أن يغني - هذا إذا استثنينا تلك الأصوات التي ربما بدت نغما، والتي يصدرها الطفل قبل أن يتعلم الكلام (وهي قطعا نغم شجي في آذان والديه!). على أننا لو هبطنا في سلم الحياة أبعد من ذلك، لوجدنا أن تغريد الطيور يعد تأييدا للنظرية المضادة؛ إذ إنه دليل على أسبقية الموسيقى وإمكان وجودها قبل أن يوجد الكلام. وعلى أية حال فالمشكلة كما قلنا يستحيل حلها في ضوء المعلومات المتوافرة لدينا الآن، وربما كان الأجدر بنا أن نركز اهتمامنا على الوضع الحالي في العلاقة بين الموسيقى والشعر؛ ذلك لأن الارتباط بين الموسيقى والشعر، من حيث الإيقاع، وثيق إلى أبعد الحدود. بل إن الإيقاع الموسيقي ظل خلال قرون طويلة مرتبطا بإيقاع اللغة والشعر بحيث لم تكن هناك تفرقة نظرية بينهما، وكان الوزن الشعري أساسا للإيقاع الموسيقي، وظهر ذلك بوضوح في الموسيقى اليونانية القديمة.
وصحيح أن الموسيقى قد تحررت من وصاية الإيقاع الشعري فيما بعد، وأصبحت لها إيقاعاتها المستقلة، ومع ذلك فما زال تأثير الإيقاع الشعري واضحا في الموسيقى وما زال من الممكن أن نصف الموسيقى بأنها إيقاع شعري، بغير كلام، وإن كانت الموسيقى بدورها تمارس تأثيرا لا يمكن إنكاره في الشعر، بحيث أصبح ينظر إلى «موسيقى الشعر» على أنها أهم العناصر المعبرة عن ماهيته.
ومن المعروف أن إيقاع اللغة الكلامية، والشعرية بوجه خاص، كان له تأثيره الكبير في عدد غير قليل من الموسيقيين، ربما كان أشهرهم الموسيقي الروسي «موسورسكي»، الذي كان يستلهم قدرا غير قليل من ألحانه - ولا سيما في أغنياته والأوبرا المشهورة «بوريس جودونوف» - من إيقاعات اللغة وتنغيم أصواتها ووقعها وجرسها. أما تأثير الموسيقى على الشعر فلا يحتاج منا إلى إشارة خاصة؛ إذ إننا نعرف جميعا أولئك الشعراء ذوي النزعة الموسيقية، الذين يغلب عندهم وقع الصوت على معناه، والذين استعانوا بما تثيره الأصوات من إيحاءات، سواء في رنينها وفي إيقاعاتها، فجعلوا من ذلك عنصرا أساسيا في نقل ما يريدونه من مشاعر وأحاسيس إلى أذهان قرائهم (أو على الأصح إلى آذان مستمعيهم).
ولقد كانت هذه الصلة الوثيقة بين الموسيقى والشعر هي التي أدت إلى امتزاجهما منذ أبعد العصور؛ فالفن الغنائي، الذي هو فن جامع بين الموسيقى والشعر، أقدم من الفن الموسيقي الخالص، والصوت البشري - مصوغا في القلب اللغوي - كان هو أداة التعبير عن المعاني الموسيقية قبل أن يستعان بالآلات في أداء مهمة نقل المشاعر الموسيقية إلى نفوس الآخرين.
والواقع أن الغناء يؤدي وظيفة مزدوجة في الموسيقى، فهو من جهة يضفي على الموسيقى «الخالصة» معنى محددا مستمدا من اللغة المعتادة، ومن جهة أخرى يؤكد عنصر الإيقاع بأن يضيف أوزان الشعر وإيقاع الكلمات إلى دقات النغم ونبض الأصوات. وربما كان هذا السبب الأخير هو أقوى العوامل التي أدت إلى دعم الروابط بين الموسيقى والكلمات، وهو الذي جعل الغناء فنا أقدم وأوغل في الماضي السحيق من الموسيقى الخالصة. على أن هذا الارتباط - كما هو معروف - ليس دليلا على سذاجة الموسيقى أو بدائيتها، بل إنه لا يزال قائما في أرفع التجارب الموسيقية العالمية، وما زال الشعر الملحن يحتل مكانته كفن رفيع في الأوبرا والأغنية الراقية ومختلف أنواع التأليف الموسيقي الذي يستعين بالأصوات البشرية. ومن الجدير بالذكر - في هذا الصدد أن أعظم البلاد تقدما في مجال الفن الموسيقي قد شهدت في الآونة الأخيرة محاولات للعودة إلى الأشكال الأولى للتآلف بين الصوت البشري والموسيقي؛ أعني تلك الأشكال السابقة على الكلمات اللغوية ذات المعنى؛ فقد ظهرت مؤلفات للموسيقى والصوت البشري، أو مجموعات الأصوات البشرية، يستخدم فيها هذا الصوت في صورته النقية الخالصة؛ أي من حيث هو مجرد صيحات لا تعبر عن كلمات معينة. وبرر مؤلفو هذا النوع من الموسيقى فكرتهم هذه بأنها تعيد إلى الصوت وظيفته الطبيعية، وتستخدمه استخداما نقيا لا تشوبه شائبة من المعاني العقلية للغة. وبذلك يصبح الصوت البشري وسيلة من وسائل الموسيقى أو آلة من آلاتها، لها خصائصها التي تنفرد بها عن غيرها من الآلات، وتستغل إمكانات هذا الصوت إلى أقصى مدى ممكن.
على أن أوضح مظاهر الاتصال بين الموسيقى والشعر هو ذلك التأثير المتبادل في الوحي أو الإلهام بين هذين الفنين؛ فما أكثر الموسيقيين الذين استوحوا الشعر ألحانهم، والشعراء الذين حاولوا أن ينقلوا عن طريق الكلمات حلما هو في حقيقته حلم موسيقي. والحق أن كثيرا من الشعراء والكتاب، ممن أحسوا بعدم كفاية اللغة للتعبير عن أعمق ما يحسون به، وشعروا بأن الكلمة، في تأرجحها وعدم استقرارها، عاجزة عن أن تنقل ما في صدورهم من أحاسيس، قد استلهموا الموسيقى كثيرا من أفكارهم، حتى لقد كان أندريه جيد يتساءل: «بالفرنسية؟ كلا، إني أود أن أكتب بالموسيقى.» ومن هنا اشتهر كثير من الشعراء بأنهم «سمعيون»، مثل ووردزورث، وكان الكثيرون منهم يعشقون الموسيقى ولا يكتبون بدونها، وكان صمويل بطلر يكتب ويؤلف الموسيقى طوال حياته، وهو في ذلك شبيه بشخصية فريدة أخرى، هي شخصية هوفمان، الذي كان أديبا وموسيقيا ومصورا في آن واحد، وكان له تأثير كبير في مجموعة الموسيقيين والأدباء الرومانتيكيين الألمان. وفي فرنسا كان بودلير من أكبر أنصار فاجنر ومن أشد المدافعين عنه تحمسا، كما كان ستاندال يعشق الموسيقى الإيطالية، وربطت الأديبة جورج ساند مصيرها، وقتا ما، بشاعر «البيانو» العظيم شوبان. وعندما ظهر الرمزيون في أواخر القرن، كانت الموسيقى عندهم «مقدمة على كل شيء»، وعبر فرلين ورامبو ومالارميه عن حنينهم الدائم إليها، وتأثر مارسل بروست بفاجنر تأثرا عميقا، وحاول أن يتبع في روايته الضخمة «بحثا عن الزمن المفقود» أسلوب «اللحن المميز
Leitmotiv » المشهور عند فاجنر.
أما الموسيقيون الأدباء فلا يقلون عن ذلك عددا. ولست أقصد هنا أولئك الموسيقيين الذين كانت لهم محاولات أدبية فعلية، كمقالات شومان أو كتيبات فاجنر «وليست»، أو مؤلفات سترافنسكي، بل إن المقصود هم أولئك الذين تأثرت موسيقاهم بالأدب، ومن أهم هؤلاء «باخ»، الذي أطلق عليه «ألبرت شفيتسر» اسم «الموسيقي» الشاعر. وقد حاول البعض إدراج بتهوفن ضمن هؤلاء الموسيقيين الأدباء، واستشهدوا بوجه خاص بنهاية السيمفونية التاسعة. ولكن الواقع أن الوحي عند بيتهوفن كان قبل كل شيء وحيا موسيقيا خالصا، ولم يكن للأدب، أو للصور والخيالات الأدبية، دور كبير في إلهامه، فهو لم يكن يفكر في الشعر كثيرا حتى وهو يلحن «أنشودة السرور»، وعلى عكس ذلك كان «ليست» الذي كان للأدب دور كبير في تصوره ل «القصائد السيمفونية» ول «الموسيقى ذات البرنامج»، التي يعد النص فيها ذا أهمية رئيسية في تتبع مجرى الموسيقى، ويحتل ديبوسي مكانة هامة ضمن هؤلاء الموسيقيين ذوي النزعة الأدبية، ويتجلى ذلك في تلك الصور السيمفونية الشاعرية التي رسمتها عبقريته الخلاقة، مثل «البحر
La Mer » و«مقدمة لعصرية أحد الفونات
»، وهي أعمال تمتزج فيها الموسيقى والأدب ويتكاملان على نحو يستحيل معه تصورهما منفصلين.
على أن من الضروري أن نتذكر أن التوحيد بين الموسيقى والكلمات ليس في معظم الأحيان اندماجا كاملا كهذا، بل يبدو أن الموسيقى، حتى حين ترتبط بالكلمات تسير في اتجاهها المستقل، ولا تتأثر كثيرا بالكلمات أو تنبثق عنها انبثاقا ضروريا. وحتى لو كان ذلك يحدث، فلن تكون النتيجة عملا متكاملا رفيعا، بل إن الاندماج التام بين الموسيقى والشعر لا بد أن يتم على حساب الموسيقى نفسها، التي قد تنطفئ حرارتها نتيجة للاهتمام الزائد بالكلمات. وهكذا يمكن القول إن الشعر يسعى من جانبه إلى الاتحاد بالموسيقى، وأن هذا الاتحاد يضفي عليه قوة، ويزيد قدرته التعبيرية والتأثرية، على حين أن الموسيقى تسعى إلى الاستقلال عن الشعر وتهرب منه، وربما كان تاريخها كله محاولة للتخلص من التأثير المفرط للأدب.
الموسيقى والعمارة
إذا كنا قد قلنا من قبل إن الإيقاع يظهر أوضح ما يكون في الفنون الزمانية، كالموسيقى والشعر، فليس معنى ذلك أن الإيقاع لا وجود له في الفنون المكانية. صحيح أن الموسيقى والشعر، أو الأدب بوجه عام، هما الفنان الوحيدان اللذان يتميزان في جوهرهما بالتعاقب، وهما في ذلك على عكس التصوير والنحت والعمارة؛ لأن العمل الفني في هذه الفنون الأخيرة يؤثر فينا دفعة واحدة، بحيث يكون الجهد المطلوب من المشاهد فيها تحليليا، من الكل إلى الأجزاء. على حين أنه في الموسيقى جهد تركيبي، ينتقل من الأجزاء إلى الكل. كل هذا صحيح، ومع ذلك فإن تلك الفنون التي لا تدرك في زمان متعاقب، لها بدورها إيقاعها الخاص؛ ففي فن كالعمارة مثلا، وهي نموذج الفن المكاني بمعناه الصحيح، نجد أنواعا من التكرار أو التماثل أو توزيع المساحات والكتل بتوافق وانسجام، على نحو يؤلف نوعا خاصا من الإيقاع، حتى لقد وصف البعض الفن المعماري بعبارة أصبحت منذ أن أطلقت عليه مشهورة، هي أنه «موسيقى متجمدة».
ولو شئنا مثلا لموسيقى معمارية، أو متأثرة في تركيبها بقواعد أشبه بقواعد المعمار، لما وجدنا أفضل من موسيقى «يوهان سباستيان باخ». صحيح أن الانتقال بين البناء الموسيقي والبناء المعماري انتقال مجازي قبل كل شيء، ولكن لا مفر للمرء من أن يذكر فن المعمار وهو يستمع إلى تلك الموسيقى ذات البنيان المتماسك المشيد بدقة وإحكام طابقا فوق طابق. ومن الجدير بالملاحظة أن كثيرين ممن كتبوا تاريخ حياة باخ قد لاحظوا أنه لا بد أن يكون قد ألم بمعلومات عميقة عن فن العمارة، وأنه كان يتحدث حديث العارف عن الخصائص الصوتية للكنائس والكاتدرائيات التي تعزف موسيقاه فيها.
والواقع أن وظيفة العمارة، بالنسبة إلى الموسيقى، لا تقتصر على أن تضمن لها رنينا صوتيا جيدا، أو زخرفا يخلق جوا ملائما لسماعها - كما هي الحال في الكاتدرائيات بالنسبة إلى القداس أو الأوراتوريو، والمسرح أو القاعة الموسيقية بالنسبة إلى الأوبرا أو السيمفونية - بل إن قوانين البناء الموسيقي تؤثر، على نحو غير مباشر ، في العمارة، مثلما يؤثر التركيب المعماري في بناء القطعة الموسيقية ذاتها. وقد لاحظ هيجل عن حق أن العمارة، على خلاف التصوير أو النحت، لا تستمد نماذجها مباشرة من الواقع الخارجي، بل تستمد أشكالها من الخيال، وتشكلها وفقا لقوانين الثقل الخاصة بها، وكذلك وفقا لقواعد التماثل والتوافق الإيقاعي التي تشبه ما نجده في الموسيقى. ومن جهة أخرى فعندما تنفصل الموسيقى عن الشعر، تتخذ لنفسها بناء معماريا واضحا. وبعبارة أخرى فإن الموسيقى كلما تحررت من الأدب ازدادت اقترابا من العمارة، وربما كانت طوال تاريخها تتأرجح بين هذين القطبين.
الموسيقى والتصوير
يعد التصوير بدوره فنا مكانيا، ومع ذلك فإن للإيقاع دوره في فن التصوير بدوره، وهو أمر لا يمكن أن تخطئه عين من تعمق فهم هذا الفن؛ ذلك لأن الفنان يجعل من اللوحة قطعة من حياته، وينقل إليها نبض أحاسيسه ومشاعره. وصحيح أن الحركة تتخذ في التصوير طابعا ساكنا متجمدا، ثابتا في الزمان، ولكن هذه الحركة تكون لها صفة الحيوية الكامنة؛ أعني تلك الحيوية التي تنبثق ينابيعها أمام العين الفاحصة التي تندمج في العمل الفني، ولا تكتفي بالتطلع والمشاهدة السلبية فحسب.
بل إن المرء ليستطيع القول بوجود عنصر زماني معين في التصوير؛ إذ إن النسب المكانية تكتسب قيمة زمانية حين تعمل بعض المساحات على اجتذاب العين مدة أطول من بعضها الآخر، وبذلك يكون في اللوحة نوع من الحركة الصامتة التي يتمثل فيها بدورها الإيقاع.
على أن هذا ليس وجه الاتصال الوحيد بين الموسيقى والتصوير؛ فعلى الرغم من أن التصوير يبدو أبعد الفنون عن الموسيقى، فإن العلاقات الأكثر خفاء هي التي تكون في كثير من الأحيان أوثق العلاقات، وفي استطاعة العلم أن يقدم إلينا أدلة هامة على نوع الصلة التي تجمع بين الموسيقى والتصوير.
إن إدراكاتنا السمعية والبصرية؛ أي الأصوات والألوان، تنتج عن ذبذبات تتفاوت درجة ترددها؛ فالذبذبات الصوتية التي تصدم طبلة الأذن تتراوح بين 32 و72000 ذبذبة في الثانية. وهذه الذبذبات ذاتها تؤثر في شبكة العين، وتنتج ألوانا تتغير ما بين الأحمر والقرمزي حين يصبح ترددها ما بين 483 و708 «تريليونات». ومعنى ذلك أن هذين الفنين يختلفان تبعا لتكويننا الفسيولوجي، لا تبعا للمادة التي تكشف عنهما. وما الفارق بين الذبذبات السمعية والبصرية إلا فارق في الدرجة، بحيث يستطيع الخيال أن يتصور كائنات لها قوة سمعية أكبر من قوتنا، تستطيع أن «تسمع» اللوحات التصويرية، وأخرى يمكنها أن «ترى» سيمفونياتنا!
ومن جهة أخرى، فمن الممكن أن نتصور وجود نسب رياضية معينة، بين درجات تردد الذبذبات التي تسبب الأصوات والألوان الملائمة لنا في آن واحد. وبذلك تكون هناك علاقة خفية بين الصوت واللون، أو بين الموسيقى والتصوير. ومن هنا كانت تلك المحاولات المتعددة التي بذلها البعض لإيجاد صلة بين الفنين، ك «الأرغن اللوني» مثلا.
وإذا كانت هذه المحاولات تنتمي، في معظم الأحيان إلى مجال الخيال الجامع، فإن العلاقات بين الموسيقى والتصوير قد شغلت اهتمام كثير من الموسيقيين الذين كانت تتراءى لهم، في لحظات الوحي الموسيقي، مناظر مرئية تؤدي بهم إلى تأكيد التوازي بين التصوير والموسيقى؛ فكثير من موسيقيي القرنين السابع عشر والثامن عشر، من الفرنسيين، كانوا يؤلفون قطعا موسيقية عن صور لنساء، ويسمونها بأسمائهن. وفي رأي مؤلفي هذه القطع (مثل رامو وكوبران
Rameau et Couperin ) أن هذه القطع تصور قسمات الوجه ورشاقة الحركات عن طريق توزيع خاص للإيقاعات والألحان. وفي العهد الرومانتيكي ظهر الاتجاه إلى رسم «مناظر موسيقية»، تطورت إلى القصيد السيمفوني (مثل رسم صور موسيقية عن الوطن، أو أحد أنهاره، كالدانوب أو الفالتافا، أو إقليم فيه مثل أيبريا ... إلخ)، وأخذ التوزيع الأوركسترالي يستخدم على نحو متزايد في «تلوين» القطع الموسيقية حسب التعبير الشائع في لغة الموسيقيين أنفسهم. وهنا نجد أن الكلمة التي أطلقها نيتشه على فاجنر، والتي وصفه فيها بأنه «من حيث هو موسيقي، ينبغي أن يدرج ضمن المصورين» - هذه الكلمة تصدق في واقع الأمر على عدد كبير من الموسيقيين، مثل ليست، وديبوسي، وريمسكي كورساكوف، وسترافنسكي، وكثير غيرهم.
وفي مقابل الموسيقيين المصورين، نجد عددا أكبر من المصورين الموسيقيين؛ فقد كان بعض المصورين يمارس الموسيقى أو الغناء، مثل دافنشي، وتانتوريه
Tintoret
كما أكد ميكلانجلو أن اللوحة الجيدة ينبغي أن تكون «موسيقى ولحنا».
وقد لاحظ البعض وجود تواز بين الاتجاهات في الموسيقى وبين تيارات التصوير في عصور معينة، فأكدوا أن هناك موازاة بين تصوير فاتو
Watteau
وألحان كوبران، أو بين جماعة التكعيبية
Cubism
وجماعة الستة
Les six ، أو بين سترافنسكي والسيريالية ... إلخ. بل إن البعض قد أجرى مقارنات بين هاندل وجوتو
Gioto ، وبين باخ وليوناردو دافنشي، وبين بيتهوفن وميكلانجلو (وفي هذه الحالة الأخيرة، أجرى البعض مقارنات تفصيلية بين سيمفونية بيتهوفن التاسعة وبين تصوير ميكلانجلو للكنيسة السستينية)، وكذلك بين موتسارت ورافاييل، ولاحظوا في هذه الحالة الأخيرة أن هذين الفنانين قد توفيا في نفس السن، وبسبب نفس المرض، وكانت لديهما نفس الفكرة عن الجمال في ذاته، المبني على الاستمتاع برشاقة الخط أو النغمة.
تلك، على أية حال، مقارنات قد لا تكون تفاصيلها - مهما بدت مقنعة - مقبولة لدى الجميع، ولكنها تدل على وحدة عميقة في المنبع الذي يستقي منه الفنان في جميع الميادين، ولا سيما الموسيقى والتصوير، وحيه وإلهامه.
الموسيقى والرقص
على أن هناك فنا آخر - يمكن أن يعد من بين الفنون المكانية - يحتل فيه الإيقاع الأهمية الأولى، بل يعده البعض أقوى الفنون كلها ارتباطا بالإيقاع، وأعني به الرقص. وكلنا نعرف تلك التسمية التي تطلق في بلادنا على أنواع معينة من الرقص، وأعني بها تسمية «الرقص التوقيعي»، كما نعرف أن أول وأبسط مبادئ تعلم الرقص هو الإحساس بالإيقاع والتجاوب معه والانفعال به.
لقد كان الرقص مرتبطا بالموسيقى منذ أقدم العصور، ولا يكاد يوجد حد فاصل بينهما في التجارب الفنية لكثير من الجماعات البشرية التي تتسم حياتها بالبساطة؛ فدق الطبول أو التصفيق بالأيدي، في الريف المصري مثلا، يندر أن يكون غاية في ذاته، بل هو في كل الأحيان تقريبا وسيلة إيقاعية لتنظيم حركات الرقص. بل إن الارتباط بين الموسيقى والرقص كان في بعض المجتمعات يتخذ مظهرا مقدسا؛ إذ كان جزءا لا يتجزأ من صميم الشعائر الدينية التي تؤديها الشعوب البدائية تقربا إلى الآلهة أو تمجيدا للطبيعة. وما زلنا حتى اليوم نرى الزنوج في أمريكا يلجئون إلى الرقص المصحوب بالموسيقى أو بالغناء تعبيرا عن مشاعرهم في أكثر المواقف جدية وأبعدها عن السطحية أو الاتجاه إلى الترفيه والتسلية، كما هي الحال في المظاهر التي تطالب بالحقوق المدنية، أو التي تحتج على التفرقة العنصرية أو على الفقر أو حرب فيتنام.
ونتيجة لهذا الارتباط الوثيق بين الرقص والموسيقى كان الأقرب إلى الصواب أن نصفه بأنه فن مختلط مشترك يجمع بين التعاقب الزماني والتشكيل المكاني؛ فهو لا يستطيع أن يوجد بدون الموسيقى، التي تملك قوة محركة لا تقاوم، وتدفع الجسم - بفضل إيقاعها - إلى تتبع مجراها والانقياد له. ولكن حركة الموسيقى بدورها تستمد من الرقص الذي يضفي عليها حيويتها وقوامها. بل إن من الباحثين من يرون أن الرقص كان، بالنسبة إلى الموسيقى الغربية، أحد عاملين كان لهما في تطورها أكبر الأثر. أما العامل الآخر فهو الكنيسة المسيحية. ومن الغريب، والجدير بالذكر، أن تأثير الرقص كان مضادا لتأثير العقيدة المسيحية؛ إذ إن الأول أعطى الموسيقى جسدا، والثانية أعطتها روحا. ومن هنا كانت محاربة الكنيسة للرقص، حتى في داخل الموسيقى نفسها، ومحاولتها أن تجعل للموسيقى روحا مستقلة عن جسمها الإيقاعي.
ومع ذلك لم تنجح جهود الكنيسة في الفصل بين هذين الفنين اللذين يرتبطان في أصل واحد مشترك، ويعبران معا عن الشعور تعبيرا تلقائيا. بل إن الرقص قد ظهر، حتى في الأغاني الدينية الشعبية ذاتها، منذ القرن الوسطى، وأصبح بناء هذه الأغاني يتخذ في كثير من الأحيان طابعا راقصا. وعن طريق تأثير البناء الراقص أمكن إيجاد توازن بين العاملين الحسي والروحي في الموسيقى، وانعقد لواء النصر للاتجاه إلى تأكيد أهمية الرقص في فن الباليه، الذي يمتزج فيه إيقاع الموسيقى بإيقاع الجسم البشري وبنزوعه إلى التسامي بمادة البدن والتغلب على ثقل الجسم وجاذبية الأرض. وظهر عدد من الموسيقيين الذين خصصوا أحسن وأهم ما ألفوه من أعمال لموسيقى الباليه ابتداء من رامو
Rameau
حتى سترافنسكي
Stravinsky .
وفيما بين تلك التجارب البدائية الساذجة، وذلك الفن الرفيع - فن الباليه - نجد الارتباط بين الرقص والموسيقى يتمثل بأوضح صورة في دقات الأرجل التي تصاحب بها الأنغام ذات الإيقاع المنتظم، وفي تحركات الأيدي وتمايل الجسم، التي يعبر بها المستمع عن انسجامه بالموسيقى وتجاوبه معها. وربما كان الأهم من ذلك حركات قائد الأوركسترا التي هي في شكلها الظاهر نوع من الرقص، ولكنها في باطنها موسيقى متحركة في المكان، وفي صميمها إيقاع ولحن وتوافق نغمي. إنها حركات جسمية ومادية، ولكنها تهفو إلى عالم روحي خالص، ومن هنا كانت حلقة اتصال بين المادة والروح، ومحاولة للتعبير عن الماهية الروحية لفن نقي مجرد، عن طريق الجسم الملموس والمنظور. وهي أيضا حلقة اتصال بين الإيقاع الزمني والمكاني؛ إذ إن إشارات اليد والجسم تتم في المكان، وتشغل حيزا منه، ولكنها في الوقت ذاته تنظم مسرى الأنغام في الزمان وتنفذ إلى أعماق المعنى الباطن للموسيقى الذي لا يتصل بعالم المكان والمادة من قريب ولا من بعيد. •••
وهكذا يتبين لنا من المقارنة السابقة مدى تعدد جوانب الموسيقى وتنوع علاقاتها بالفنون الأخرى، كما يكشف عنه الإيقاع في الموسيقى وفي سائر الفنون. إنها تتفق مع التصوير في إيقاع صامت يميز الأخير، وتخضع لنفس قواعد البناء التي يخضع لها فن المعمار، وتستعير من الرقص رشاقته وانتظام خطواته، وتكتسب من جرس الشعر لحنا، فضلا عن أنها تستلهم مواجد التصوف حينا، وأحاسيس الجنس والجسد حينا آخر. إنها، بالاختصار، تبدو محاولة كبرى لتحقيق الوحدة في الإنسان، وتصل في ذلك إلى أعماق في النفس لا يعرفها ولا يبلغها فن غيرها.
على أن هذه الروابط التي تجمع بين الموسيقى وسائر الفنون قد أصبحت، في الموسيقى العالمية، صفات باطنة تؤلف جزءا لا يتجزأ من طبيعة هذا الفن العظيم، أو هي بعبارة أخرى، روابط داخلية وليست روابط خارجية يستعير عن طريقها هذا الفن خصائص يفتقر إليها من فنون غيره. وبهذا بلغت الموسيقى العالمية حدا من التعقد وتنوع الجوانب جعلها فنا مكتفيا بذاته إلى حد بعيد. من أجل ذلك، ونتيجة لما تقتضيه من جهد وانتباه من السامع، كان من الصعب في نظر الكثيرين أن تتحد هذه الموسيقى المتكاملة المكتفية بذاتها مع أي فن آخر من أجل خلق وحدة حقيقية؛ فهناك كثيرون لا يرضون عن محاولات الإدماج الحالية بين الموسيقى وبين فنون أخرى كالأوبرا والسينما والباليه؛ ذلك لأن الجانب البصري من العرض يشتت الذهن ويصرفه عن الموسيقى التي يستحيل أن تكون مجرد أداة للترفيه (إلا في أنواع ك «الأوبريت» الخفية مثلا؛ حيث يستطيع المشاهد بسهولة أن يوزع انتباهه بين المرئي والمسموع) وربما لم تكن لدينا القوة الروحية التي تساعدنا على استيعاب فن قوامه تعبيرات متعددة وعميقة في آن واحد. بل إن من الجائز ألا يكون التآزر بين حواسنا كاملا إلى الحد الذي يسمح بأن تستمتع الأذن والعين معا، وبقدر متساو من العمق، بالعرض الذي يجمع بين الموسيقى وبين التمثيل والغناء أو الرقص.
ومن هنا كان من حق المرء أن يتساءل (على المستوى النظري على الأقل): وما الداعي إلى هذا التآزر ما دامت الموسيقى تبعث فينا متعة كاملة؟ هل يستطيع أي فن آخر أن يضيف شيئا، أو يزيد شيئا، على التأثير الذي تحدثه سيمفونية كبيرة مثلا؟ ألسنا نجد فيها عالما كاملا يشتمل على كل عناصر المتعة الجمالية، حتى العنصر التشكيلي ذاته؟ وبعبارة أخرى، فإذا كانت الدراما الإغريقية قد نجحت في الجمع بين العناصر الفنية كلها في مركب واحد، فهل يحتاج العصر الحديث إلى إحيائها في الوقت الذي تستطيع فيه الموسيقى وحدها أن توفق بين هذه العناصر؟ تلك مسألة كان للموسيقي الألماني الكبير «ريشارد فاجنر» فيها رأي خاص، ناقشناه في كتاب آخر من هذه السلسلة («ريشارد فاجنر»، المكتبة الثقافية، رقم 134، ص102-117).
الإيقاع في التاريخ وبين الشعوب
إذا رجعنا في الزمان إلى المراحل القديمة للمدنية، وجدنا الإيقاع الموسيقي يرتبط بأصلين لكل منهما طبيعة تناقض طبيعة الآخر؛ فهو من جهة يرتبط بالشعائر والطقوس الدينية، ويكون جزءا لا يتجزأ من مظاهر العبادة أو من الطقوس السحرية التي تحل محلها. وهو من جهة أخرى يرتبط بأداء العمل الجسمي اليومي، وبالحركات الجسمية التي يؤديها الناس أثناء قيامهم بمختلف الأعمال المادية. وهكذا يتضافر الأصل الروحي مع الأصل المادي في تحديد منشأ الإيقاع منذ أقدم العصور.
ولو تأملنا المجموعات الرئيسية التي تنقسم إليها البشرية، لوجدنا أن نظرتها إلى الإيقاع، ومكانة الإيقاع بين فنونها، تختلف إلى حد بعيد؛ إذ يحتل الإيقاع المكانة الأولى بين عناصر الموسيقى جميعا لدى الشعوب الزنجية. وفي الشعوب الشرقية تظل للإيقاع مكانة كبرى، ولكن اللحن
melody
يحتل مكانة مساوية له، أما في الشعوب الغربية فإن أهمية الإيقاع تتضاءل إلى حد ما، وتبرز أهمية اللحن، بينما يضاف عنصر جديد هو التآلف الصوتي أو الهارمونية.
ففي الشعوب الزنجية تنتشر آلات الإيقاع انتشارا كبيرا، بل هي في كثير من الأحيان تقوم وحدها بوظيفة الأداء الموسيقي المتكامل (فضلا عما يؤديه الإيقاع في حياة الغابة من وظائف أخرى غير الوظيفة الموسيقية؛ إذ يستخدم في التحذير والاتصال والاستنفار للقتال ... إلخ). وحتى إذا ظهر في هذه الموسيقى لحن فإن الغرض منه يكون عادة تأكيد الإيقاع وإظهار مواضع القوة والضعف في دقاته، وربما ظهر اللحن من قلب الآلات الإيقاعية ذاتها، نتيجة لاختلاف خصائصها الصوتية، من حيث ارتفاع الصوت أو انخفاضه، وضيقه أو اتساعه.
ويتميز الإيقاع الزنجي بتغلغل جذوره في الأصول العضوية والحيوية للإنسان؛ فهو ليس إيقاعا عقليا أو لحنيا كإيقاع الموسيقى الغربية. إنه وثيق الصلة بالحركات الجسمية التي تؤدى في الطقوس وفي العمل وفي مختلف الوظائف الحيوية، وفي أعمال الحرب والهجوم والدفاع. وكما يتأثر الإيقاع بالحياة فإنه يؤثر من جانبه في الحياة؛ إذ إنه يثير استجابات جسمية قوية، وقد يصل تأثيره إلى حد النشوة التي ينسى فيها المرء فرديته ويندمج في الكل، أو في الطبيعة، اندماجا كاملا؛ فالإيقاع الزنجي منبه للحواس ومثير للخيال، وهو يجعل من الفرد مجرد عضو في جماعة تتملكها كلها النشوة المتدفقة. والحق أن المرء لن يكون مغاليا إذا قال إن الجنس الزنجي يمثل، في عالمنا الحديث، مستودعا للقوى الحيوية الأصيلة التي خبت جذوتها إلى حد بعيد في بقية الأجناس، وحسبنا على ذلك دليلان: امتيازهم في الموسيقى الإيقاعية، ولا سيما موسيقى الجاز، وتفوقهم المذهل في الألعاب الرياضية التي تقتضي جهدا وطاقة جسمية جبارة؛ فاقتراب هذا الجنس من المنابع الأصيلة للطبيعة يشهد بأنه لا يزال يختزن من طاقة الحياة قدرا كبيرا، وبأنه أقرب الأجناس البشرية إلى ذلك الينبوع المتدفق الذي يشارك به الإنسان في الطبيعة، ويندمج في مجراها النابض بالحياة.
ويمكن القول إن انتشار موسيقى الجاز في كثير من المجتمعات الغربية الحديثة إنما هو رد فعل على الابتعاد المفرط عن الأصول الحيوية - ذلك الابتعاد الذي حتمته حياة الإنسان المدنية، والبيئة الحضرية المصطنعة التي تسود المجتمعات المتقدمة في التصنيع؛ فليس من قبيل المصادفات أن يكون الجاز أوسع انتشارا في أمثال هذه البيئات. وإذا كان التفسير الشائع لموسيقى الجاز هو أنها موسيقى سهلة، سطحية، خفيفة، تصلح للعامل المرهق المكدود ليسري بها عن نفسه في وقت فراغه بعد يوم عمل شاق؛ فإن هذا ليس إلا جزءا من التعليل الكامن؛ إذ إن هذه الموسيقى هي في الوقت نفسه محاولة لتنبيه الحيوية والحس اللذين أصبحا خاملين في إنسان المجتمع الصناعي، وهي رد فعل على المبالغة في المعقولية المنظمة التي تباعد بين الإنسان وبين تلك الجذور الضاربة في أعماق الحياة.
أما في الشعوب الشرقية فإن للحن، إلى جانب الإيقاع، دورا عظيم الأهمية. وإذا كان من الصعب أن نجمع بين الشعوب العربية والهندية والصينية واليابانية في وحدة واحدة، ونصدر على موسيقاها حكما عاما، فإنا نستطيع مع ذلك أن نحكم بأن هذه الموسيقى إيقاعية ولحنية في أساسها، وأنها لا تلجأ إلى عنصر الهارمونية الذي يكاد يكون وقفا على الموسيقى الغربية منذ أوائل العصر الحديث أو أواخر العصر الوسيط.
وفي كثير من هذه الشعوب الشرقية يرتبط الإيقاع بالشعائر الدينية أوثق الارتباط، كما هي الحال في الهند وفي كثير من بلاد الشرق الأقصى، على حين أنه يرتبط عند بعضها بالرقص، كما هي الحال في الشرق العربي. وعلى حين أن الحركات الجسمية المصاحبة للإيقاع تتخذ في الحالة الأولى مظهرا روحيا صوفيا، فإنها في الحالة الثانية تتخذ مظهرا جسديا واضحا.
وأخيرا، ففي الشعوب الغربية يزداد الإيقاع خفاء وغموضا، ويندمج اندماجا وثيقا بالكل المعقد الذي يكونه اللحن والهارمونية. ومن هنا كان اصطباغه بطابع عقلاني يبعد به عن الحسية. ومع ذلك فإن موسيقيي الغرب يحاولون، كما قلنا، أن يزيدوا من حيوية موسيقاهم باقتباس الإيقاعات الزنجية، وزيادة تنويع مقاماتها بالاقتراب من المقامات الشرقية، حتى أصبح البحث عن التجديد غاية في ذاتها عند كثير من الموسيقيين المعاصرين أو أشباه المعاصرين. •••
وفي وسعنا أن نتناول المسألة السابقة من زاوية أخرى، هي زاوية الأهمية النسبية للإيقاع بين بقية عناصر الموسيقى؛ ذلك لأن الإيقاع يكون مع اللحن، وكذلك مع الهارمونية في الموسيقى الغربية، وحدة لا تنفصم. وإذا جاز لنا أن نمثل الإيقاع من حيث هو حركة حيوية بالخط ذي البعد الواحد، فإن اللحن يمثل بالمسطح ذي البعدين؛ إذ إن المسافات الصوتية، في ارتفاعها وانخفاضها، هي التي تحدد طبيعة اللحن، ومن ثم كان اللحن يتحدد على أساس نغمة القرار من جهة، والنغمة اللحنية التي تبتعد أو تقترب من نغمة القرار من جهة أخرى، وبهذا المعنى نقول إنه ذو بعدين. أما الهارمونية أو التآلف الصوتي فلها ثلاثة أبعاد؛ لأنها تضيف إلى اللحن عنصر العمق؛ أي تزامن الأصوات المتآلفة وتناغمها في الوقت الواحد. وإذا كان اللحن الإيقاعي يعتمد على القوة الحيوية الدينامية في الإنسان، فإن اللحن يعتمد على حساسيته النفسية، على حين أن التآلف والتوافق يحتاج، بالإضافة إلى العنصرين السابقين، إلى تصور ذهني للتناسب بين الأصوات؛ أي إن الإيقاع أقرب العناصر الموسيقية إلى الحيوية والجسمية والحياة العضوية، والهارمونية أبعدها عنها، وأقربها إلى حياة الإنسان الذهنية. الأول مرتبط أوثق الارتباط بالحركة المتوثبة، بينما الثاني - مأخوذا على حدة - أقرب إلى السكون. أما اللحن فهو في كلا الحالين وسط بين هذا وذاك، وهو على الدوام معتمد على حساسية الإنسان ومشاعره الوجدانية.
وأخيرا، فبوسعنا أن نقوم بالمقارنة السابقة من زاوية ثالثة، فنقول إن الأزمنة التي يكون للجسم الإنساني فيها قدره المعترف به هي تلك التي يزدهر فيها الإيقاع . وحسبنا أن نشير في هذا الصدد إلى العصر اليوناني، الذي كانت فنونه تقدس جسم الإنسان وتصوره أبدع تصوير، وتكتشف عناصر الجمال والتوافق في تفاصيله وفي التناسق الذي يؤلفه؛ ففي هذا العصر كان للإيقاع المكانة العليا في الموسيقى، بل يمكن القول إن الإيقاع كان هو الدعامة التي تقوم عليها وحدة الفنون، من موسيقى ورقص ودراما، في العصر اليوناني.
ولكن ظهور المسيحية أدى إلى فصم هذه الوحدة؛ إذ إن المسيحية غلبت النفس على الجسم، ورفضت الرقص الذي نظرت إليه على أنه فن جسمي ودنيوي، كما قللت من قيمة الدراما بوجه عام، وبذلك قضت على الوحدة التي عرفتها الفنون في العصور القديمة. وأدى انتشار القيم الدينية، بعد ظهور المسيحية، إلى تغليب العنصر الأخلاقي على العنصر الجمالي، وتأكيد المضمون على حساب الشكل، والروح على حساب المادة.
ولكن الامر الذي ينبغي أن نتنبه إليه هو أن فصم هذه الوحدة بين الفنون، وتجاهل الإيقاع المرتبط بالحياة وبالجسم، كان له أثره العظيم في إنعاش الموسيقى؛ ذلك لأن الموسيقى كانت هي الفن الوحيد الذي استطاع أن يصمد لهذا التغيير الجديد في القيم، وفي النظرة السائدة إلى الحياة والعالم، فهي فن يستطيع أن يعيش دون أن يتصل بالجسم اتصالا مباشرا؛ لأن الجسم لا يشترك في أدائه بصورة ملحوظة؛ ولأن نتاجه النهائي ذو طبيعة غير جسمية، وغير مرئية أو ملموسة، في أساسها، وهي فن لا يقدم، في بعض أنواعه على الأقل، إيحاءات جسمية مباشرة. ومن هنا كانت الموسيقى وحدها، من بين الفنون الإيقاعية جميعا، هي التي استطاعت أن تظل باقية في تصنيفات العصور الوسطى للفنون؛ إذ نجدها واحدة من «الرباع
quadrivium »، مع الحساب والهندسة والفلك؛ أي ضمن علوم الاستدلال الخالص. وكان من رأي القديس توما الأكويني أنها «تحتل المرتبة الأولى بين الفنون الحرة السبعة، وأنها أرفع العلوم الإنسانية.»
ولقد وجدت المسيحية في الموسيقى وسيلة للتأثير في النفس مباشرة، دون تصوير مادي، فأخذت تعمل ببطء على أن تجعل منها فنا مستقلا عن الشعر والرقص، قادرا على أن ينفذ إلى مجالات لا تنتمي إلى العالم المحسوس ولا تعبر عنها كلمات اللغة اليومية، وفي نهاية الأمر أدخلت المسيحية الموسيقى في شعائرها وطقوسها، وبذلك اكتشفت أسمى دلالاتها، التي هي دلالة روحية في أساسها؛ فالموسيقى تصل مباشرة إلى القلب، وأنغامها تبدو كما لو كانت تهبط من السماء، وتنفذ إلى أعماق النفس البشرية، وليس أدل على استعانة المسيحية بها في تحقيق أغراضها الخاصة، من أحد البابوات، وهو القديس جريجوري، قد خلد اسمه في التاريخ بأن أعطى اسمه لأحد أنواع الغناء الشعائري.
وفي القرن الثالث عشر وقع أهم حدث في تاريخ الموسيقى الغربية، وهو إدخال الهارمونية، التي أضفت على الموسيقى بعدا جديدا لم تعرفه في الأزمان السابقة، أو في غير الحضارة الغربية من الحضارات. والواقع أن التناسب كان عكسيا، في الفترة التي نتحدث عنها، بين الاهتمام بالإيقاع والاهتمام بالهارمونية؛ فقد ربطت الكنيسة، كما رأينا، بين الإيقاع وبين الجسد والحيوية الحسية (ولم تكن في ذلك مخطئة كل الخطأ)، واتجهت في مقابل ذلك إلى تأكيد العالم الباطن، وعنصر العمق في الإنسان. وهكذا يبدو أن روحانية الكنيسة مسئولة إلى حد بعيد عن اكتساب الموسيقى الغربية طابعها الهارموني المعروف.
وازداد هذا الاتجاه وضوحا في العصور الحديثة، التي أضيف فيها الاهتمام بالعقل إلى الاهتمام بالروح، والتي كون الإنسان لنفسه فيها بيئة أغلبها صناعي، يبتعد بها عن منابع الطبيعة الأصلية، وكان لذلك أثره في الإقلال من ظهور الإيقاع، وزيادة الهارمونية عمقا وتعقيدا. وإذا كانت بعض ألوان الموسيقى الحديثة تعود إلى تأكيد الإيقاع، فما ذلك - كما قلنا - إلا محاولة من الإنسان الغربي للتخلص من ذهنيته المفرطة، وللرجوع - في لحظات قصار - إلى تلك المنابع الأولى التي كادت حضارة الإنسان الحديث أن تنساها.
ولا يعني عدم ظهور الإيقاع في هذه الموسيقى الحديثة أنه أصبح فيها عنصرا ضئيل الشأن، بل إنه قد تحول فيها إلى «إيقاع مضمر» - إن جاز التعبير - بعد أن كان ظاهرا صريحا، بل صارخا في بعض الأحيان؛ فما زال الإيقاع ينظم حركة الموسيقى خلال الزمان، وما زال هو والهارمونية يكونان جسد الموسيقى وروحها، أو عنصر الحركة وعنصر السكون فيها. ومن خلال التآلف بين هذين العنصرين، الاستاتيكي والديناميكي، المادي والروحي، تتقدم الموسيقى الغربية الحديثة وتغزو ميدانا بعد ميدان، وتكشف عن أعماق مجهولة في نفس الإنسان. •••
بالإيقاع إذن تربطنا الموسيقى بالمنابع العميقة للحياة، وفي هذه الحقيقة ربما كان يكمن سر ذلك التأثير الذي تمارسه الموسيقى في نفوسنا، بل في أجسامنا بدورها. أليس من الجائز أن يكون إيقاع الموسيقى حلقة اتصال بيننا وبين ذلك الإيقاع الكامن في أعماق الطبيعة والكون؟ أليس ذلك النبض الذي يسري في أرواحنا وأبداننا بفضل الإيقاع الموسيقي، انعكاسا لنبض الحياة ذاتها في داخلنا؟ تلك على أية حال أسئلة يكفي أن يطرحها المرء دون أن يحاول تقديم إجابة قاطعة عنها؛ لأن الأصول الحيوية للفن ما زالت بعيدة عن متناول البحث العلمي الدقيق. وعلى أية حال فحسبنا أن نكون قد أكدنا الارتباط الوثيق بين الإيقاع في الموسيقى وإيقاع الحياة، وقدمنا لمحة عن ذلك النبض الخفي الذي يسري في الكائن الحي فيحركه ويبعث فيه قوة متجددة، ويسري في النفس البشرية فتستجيب له بكل ملكاتها، وتتخذ استجابتها شكل مجموعة رائعة من نواتج الروح، ربما كانت أسمى ما استطاع به الإنسان أن يحقق لنفسه مكانة ترتفع به فوق سائر الكائنات.
علم الآثار الموسيقية1
يشاء سوء حظ الموسيقى أن تكون أكثر الفنون تعرضا للنسيان والاندثار؛ ذلك لأن كل حضارة سابقة تترك من بعدها آثارا مادية ملموسة تتيح للعلماء دراستها وتحليلها وإعادة تصور نمط الحياة السائدة فيها. أما الموسيقى التي كانت تعزف وتسمع في الحضارات الغابرة فإنها تظل صامتة إلى الأبد. وهكذا يستطيع عالم الآثار أن يهتدي إلى أدوات مصنوعة أو تماثيل منحوتة، أو مبان أو رسوم يسترشد بها في فهمه للتاريخ العام، ولتاريخ فنون كالنحت والتصوير والعمارة، أما عالم الآثار الموسيقية فلا يجد إلا الصمت المطبق. وأقصى ما يستطيع أن يعثر عليه، آلة موسيقية أثرية، قد تكون محطمة وفي حالة لا تصلح للاستعمال، فيقف أمام الآلة الخرساء عاجزا عن بعث النطق والحياة فيها. أما الوثائق المكتوبة فلا تفيد في هذا المجال كثيرا؛ ذلك لأنك لو وصفت قطعة موسيقية بألوف الصفحات من اللغة الكلامية، فلن تستطيع أن تقدم عنها فكرة كافية للأجيال التالية. •••
ويستطيع القرن العشرون أن يفخر بأن موسيقاه ستظل محفوظة إلى الأبد، بفضل أساليب التسجيل التي ظهرت بدايتها الأولى مع مطلع هذا القرن. كذلك فإن موسيقى القرن التاسع عشر لا تزال حية في أذهاننا لقرب العهد بها. ويصدق هذا الحكم، إلى حد بعيد، على موسيقى القرن الثامن عشر وربما السابع عشر أيضا، وإن تكن بعض قواعد الأداء الموسيقي لأعمال هذين القرنين تحتاج إلى دراسات خاصة؛ فإذا ما رجعنا إلى الوراء أبعد من ذلك؛ أي إلى عصر النهضة، والعصور الوسطى، واليونان القديمة، والحضارة المصرية والهندية والصينية القديمة، وجدنا أنفسنا في مجال مجهول لا يقودنا فيه إلا عالم الآثار الموسيقية. ومع ذلك، فإن طموح العلماء في هذا الميدان قد امتد، في الآونة الأخيرة، لا إلى جمع الوثائق الخاصة بالموسيقى في الحضارات الغابرة فحسب، بل إلى محاولة بعث هذه الموسيقى حية من جديد، وإعادة الحياة إلى الأصوات التي اعتقد الجميع أنها أصبحت خرساء إلى الأبد.
وهكذا فإن علم الآثار الموسيقية، بعد أن كان علما صامتا لا يكاد يتصل بالموسيقى ذاتها في شيء، أصبح يشتمل على عنصر الأداء والاستماع إلى جانب عنصر الدراسة النظرية الخالصة، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف يلجأ العلماء إلى أي أثر أو أي دليل يجدونه مفيدا. ولكن لما كان وصف الأصوات الموسيقية بالكلمات اللغوية من أصعب الأمور، فإنهم عادة يفضلون الأدوات الموسيقية المصنوعة على الوثائق المكتوبة، كلما كان هناك تعارض بين شهادتيهما.
ومن الطبيعي أن صعوبة الاهتداء إلى الموسيقى الحقيقية كما كانت تعزف في عصور غابرة تزداد كلما كانت هذه العصور أوغل في القدم. ولكن مما يخفف قليلا من هذه الصعوبة، أن الموسيقى القديمة كانت عادة أقل تعقيدا من الموسيقى الحديثة (وقلة التعقيد لا تعني السطحية بالضرورة؛ إذ إن كثيرا من المؤرخين يعتقدون أن بعض أنواع الموسيقى القديمة كانت عميقة إلى حد بعيد). كذلك كانت الموسيقى القديمة أشد تمسكا بالتقاليد، وهذا يعني أن الأساليب الموسيقية لم تكن تتغير إلا ببطء وبطريقة متدرجة، على عكس ما نشاهده في حالة الموسيقى الحديثة من تغيرات ثورية متلاحقة . ومن العوامل الأخرى التي تساعد عالم الآثار الموسيقية في مهمته، أن الموسيقى هي الفن الوحيد الذي كان في معظم مراحل تاريخه علما وفنا في آن واحد. فقوانين الرياضيات كانت في أحيان كثيرة أساسا للفن الموسيقي، كما أن القواعد الفيزيائية لعلم الصوت كانت ملازمة للموسيقى على الدوام. ونتيجة لهذه العوامل كلها، فإن البحث في موسيقى القدماء، على الرغم من كل ما يكتنفه من المصاعب وما يقتضيه من الجرأة، ليس بحثا عقيما أو ميئوسا منه بأية حال.
والخطوة الأولى في منهج علم الآثار الموسيقية، هي عادة تحديد المبادئ الصوتية لموسيقى الفترة موضوع البحث. والدليل الأول الذي يستخدم في تحديد هذه المبادئ، هو الآلات الموسيقية التي يكشف عنها التنقيب، فإن كانت هذه الآلات في حالة تسمح بالعزف عليها، قيست الأصوات والمسافات التي يمكن استخلاصها منها، أما إذا كانت محطمة أو مهمشة، فإن عالم الآثار الموسيقية يصنع آلات مطابقة لها، ويحاول أن يجري عليها تجاربه لكي يستخلص خصائصها الصوتية. وهناك وثائق تاريخية ترجع إلى عهود معينة، تكشف عن النسب أو المبادئ المستخدمة في السلالم الموسيقية الشائعة في تلك العهود، وقد توجد في عهود أخرى وثائق عن كيفية ضبط آلة موسيقية وترية، فيتيح لنا ذلك إدراك حدود هذه الآلة وإمكانياتها الصوتية.
وبعد تحديد المادة الصوتية لفترة معينة من تاريخ الموسيقى بقدر معقول من الدقة، ينتقل العالم إلى البحث عن أمثلة فعلية للموسيقى التي كانت تؤلف في هذه الفترة، وتصبح مهمته في هذا الصدد هينة إلى حد بعيد لو أمكنه العثور على وثائق تتضمن أي نوع من التدوين الموسيقي، حتى لو كان ذلك التدوين من نوع غير مألوف يتعين عليه أن يفك طلاسمه. وبعد الوصول إلى هذه الأمثلة أو النماذج وتطبيها على النظام الصوتي الذي سبق كشفه، تعزف بسرعات معقولة على آلات حديثة أو آلات قديمة أعيد ترميمها. وبهذه الطريقة نحصل على صورة يعتمد عليها للحن موسيقي ينتمي إلى عهد تاريخي قديم.
على أن بعض الحضارات القديمة لم تبتدع نظاما للتدوين الموسيقي، أو لم يعثر على أنموذج لطريقتها في التدوين حتى الآن، ويظهر ذلك بوجه خاص في الحضارات التي يقوم التراث الموسيقي لديها على الارتجال، وتنتقل فيها الألحان بطريقة سماعية فحسب، لا بالكتابة على طريقة الغربيين. ولدينا في بلادنا مثال واضح لذلك في الموسيقى الشعبية الريفية، بل في موسيقى المحترفين ذاتهم، الذين لم يعرفوا التدوين إلا منذ عهد قريب. ولا شك أن الرجوع إلى فترات تاريخية قديمة لإدراك طبيعة الألحان التي كانت تشيع فيها، يغدو في هذه الحالة أمرا عظيم الصعوبة، لا سيما إذا كان التراث السماعي قد انقطع، وكل ما يمكن عمله في هذه الحالة هو الاسترشاد بنصوص الأغنيات الشعبية ودراسة إيقاعاتها وأوزانها، من أجل استخدامها أداة للوصول إلى بعض النتائج التقريبية عن الموسيقى التي كانت تلحن بها هذه الأغنيات. أما إذا وجد تراث شعبي باق من العصور القديمة، أو كان من الممكن تتبع التراث الحالي إلى أصول سابقة في الماضي، فإن مهمة المؤرخ الموسيقي تغدو في هذه الحالة أيسر بكثير.
ولقد استخدم بعض علماء الآثار الموسيقية منهجهم هذا في حل كثير من المشكلات المتعلقة بالموسيقى الأوروبية في العصر الوسيط وعصر النهضة. وكان هؤلاء العلماء يجوبون المتاحف الأوروبية بحثا عن صور تمثل موسيقيين قدماء أو آلات موسيقية قديمة، فإذا وجدوا إحدى هذه الصور، قاموا بأقيسة دقيقة للآلات المصورة، واتخذوا هذه الأقيسة مادة لأبحاثهم التالية. ولا شك أن بعض الصور لم تكن دقيقة؛ لأن الرسامين قد يهملون أحيانا التفاصيل المتعلقة بفن غريب عنهم كالموسيقى. ولكن ثبت في أحيان كثيرة أن الرسام كان دقيقا إلى أبعد حد، حتى في رسم التفاصيل البسيطة، حتى إن المدونات الموسيقية في بعض الصور كانت تمثل أغنيات شعبية شاعت في وقتها بالفعل، ولم تغفل الصورة أي جزء من تفاصيل التدوين. كذلك بلغت صور الآلات الموسيقية من الدقة في التفاصيل ما أتاح لعلماء الآثار الموسيقية تكوين فكرة لا بأس بها عن نطاق هذه الآلات وطريقة عزفها.
ومن النماذج الأخرى لتطبيق مناهج علم الآثار الموسيقية في بعث الموسيقى القديمة من صمتها الطويل، ما قام به العالم «فريتز كوتنر» منذ سنوات قليلة من أجل تحديد طبيعة الألحان التي كانت تعزف بالفعل في العصر اليوناني القديم؛ ذلك لأن كثيرا من الكتب العلمية التي خلفها اليونانيون القدماء كانت تصف السلالم الموسيقية المتعددة التي ابتكرها الموسيقيون في ذلك العصر، ولا سيما فيما بين القرن الخامس والقرن الأول قبل الميلاد. وما زالت مؤلفات «أرخوطاس» و«أرسطو كسينوس»، و«ديوديموس» تقوم دليلا على وجود هذا النوع من العلم النظري الموسيقي عند اليونانيين. ولقد كان الباحثون المحدثون، حتى عهد قريب، يناقشون هذه الموضوعات على أسس نظرية خالصة، ولكن لم يحاول أحد منهم أن يعيد إحياء الأصوات الفعلية التي نحصل عليها من هذه السلالم القديمة، حتى جاء «كوتنر» وضبط آلات حديثة تبعا للمبادئ الرياضية التي حددتها المراجع القديمة، وعزفها على هذه الآلات.
وكانت النتيجة التي أدهشت «كوتنر» هي أن الموسيقى الناتجة شرقية بكل معاني الكلمة؛ أي أنها تنتمي إلى النمط السائد في الشرق الأوسط والأجزاء الغربية من قارة آسيا. ومما ساعد على تأييد هذه النتيجة، أن عددا كبيرا من الموسيقيين والعلماء اليونانيين كانوا يعيشون في مدن تقع على سواحل آسيا الصغرى. كذلك كانت هذه النتيجة متمشية مع نتائج سبق أن توصل إليها العلماء بشأن فنون وعلوم أخرى، كان اليونانيون فيها مدينين بقدر غير قليل من كشوفهم للمصادر الشرقية القديمة، ولكن لم يكن في وسع العلماء حتى الوقت الذي نتحدث عنه، أن يثبتوا هذه الحقيقة في ميدان الموسيقى بدورها؛ نظرا إلى خمود صوتها، وإلى ما بدا من تشابه ظاهري بين النظريات اليونانية وبين بعض التطورات اللاحقة في الأسس النظرية للموسيقى الأوروبية. وهكذا انتهى «كوتنر» إلى تأكيد هذه الحقيقة الهامة، وهي أن الموسيقى اليونانية بدورها قد خضعت خضوعا واضحا لمؤثرات قوية امتدت من غربي آسيا والشرق الأوسط إلى كل الأقاليم اليونانية.
وباتباع نفس هذا المنهج اتضح للعالم نفسه أن الصينيين القدماء قد عرفوا السلم «الفيثاغوري» معرفة كاملة منذ القرن السادس قبل الميلاد. وكان الاعتقاد الشائع بين العلماء هو أن هذا السلم قد انتقل مع الجيوش اليونانية الغازية في فتوحاتها التي توغلت شرقا في عهد الإسكندر الأكبر. ولكن هذا الاعتقاد لو كان صحيحا لما انتقلت تلك المعرفة الموسيقية إلا في أواخر القرن الرابع أو في القرن الثالث قبل الميلاد، على حين أن الكشف أثبت أنها انتقلت إلى الصين قبل عهد الغزو اليوناني لآسيا بكثير، بل قبل ظهور المدرسة الفيثاغورية ذاتها في اليونان. وكان الاستنتاج الذي انتهى إليه، بناء على هذا الكشف، هو أن هذا النوع من السلالم الموسيقية قد ظهر أولا في إحدى مناطق الشرق الأوسط، يرجح أنها منطقة ما بين النهرين، ومنها انتقل شرقا إلى الصين وغربا إلى اليونان.
ولكن لعل أعظم علماء الآثار الموسيقية على الإطلاق هو العالم الألماني «هانز هيكمان» الذي تلقى تعليمه في ألمانيا، وعاش في مصر قرابة ثلاثة وعشرين عاما، وشغل لعدة سنوات منصب رئيس القسم الموسيقي في المتحف المصري بالقاهرة. وقد تخصص «هيكمان» في الآثار الموسيقية المصرية القديمة، وشارك في القيام بمجموعة كبيرة من الحفريات والرحلات التنقيبيه. والواقع أنه كان يجمع بين صفات متعددة تجعل منه نموذجا مثاليا لعالم الآثار؛ فقد كان مؤرخا، وعالما في اللغويات، وباحثا أثريا، وخبيرا في الموسيقى، ودارسا لعلم الاجتماع، وحجة في العلوم المصرية القديمة. وكانت أعظم كشوفه هي الاهتداء إلى طريقة تقريبية لفك رموز التدوين في الموسيقى المصرية القديمة، وجمع عدد لا حصر له من الآلات القديمة التي ترجع إلى عهود أسرات متعددة، وكان بعض هذه الآلات في حالة جيدة، وبعضها الآخر مهشما. وقد استطاع صنع نماذج مطابقة للآلات المهشمة، حتى أصبحت توجد اليوم - بفضل كشوفه وأبحاثه - مجموعة كبيرة من الآلات القديمة، المحفوظة والمصنوعة، منها القيثارات ذات الأحجام المختلفة، والأبواق وأنواع المزامير والآلات الوترية والإيقاعية. وقد استمعنا منذ سنوات طويلة، إلى إذاعة لأصوات بعض هذه الآلات، قدمها الأستاذ هيكمان من محطة الإذاعة المصرية، وأعاد فيها إحياء أصوات منبعثة من ماض سحيق للبشرية. غير أن طموح هذا العالم الجليل يستهدف اليوم غايات أعظم من هذه بكثير، هي العمل على تقديم تسجيل حي لموسيقى فرعونية كانت تعزف بالفعل في ذلك العهد الغابر.
ومن أهم كشوف هيكمان، الاهتداء إلى طريقة عزف الكنيسة القبطية القديمة، وهي أول موسيقى كنسية مسيحية عرفها العالم، فيها تمتزج عناصر مصرية قديمة، وأخرى شرقية وعبرية. وقد يلقي هذا الكشف ضوءا على الأشكال الأولى للأنشودة الجريجورية كما عرفتها أوروبا في العصور الوسطى.
ومن الأهداف التي ينتظر تحقيقها أيضا بفضل بحوث هيكمان، التوصل إلى إحياء الموسيقى والأغاني والآلات القديمة. وقد توصل إلى ذلك عن طريق دراسة مئات من الرسوم والنقوش الحائطية القديمة التي تصور موسيقيين وراقصين. كما قام بتفسير عدد هائل من الوثائق، وفضلا عن ذلك فقد أجرى دراسات مقارنة بين الآلات، كانت تساعد على تصحيح تفسيراته واستنتاجاته؛ إذ إن المقارنة بين ثقوب المزامير وأشكال القيثارات ومواضع «العفق» في العود قدمت إليه شواهد قيمة عن طبيعة السلالم الموسيقية وطريقة العزف على الآلات.
ومن المؤكد أن الأخطاء في هذا الميدان الشاق ممكنة على الدوام، وكثيرا ما وصل علماء الآثار الموسيقية المحدثون إلى استنتاجات أثبتت الكشوف التالية خطأها. ومن هنا كان الصبر وتحمل الخطأ من أهم الصفات اللازمة للعالم في هذا الميدان؛ إذ إن من ينفد صبره عند ارتكاب خطأ جسيم لا يصلح لهذا النوع من البحث أصلا، فليس هذا هو الميدان الذي يتوقع فيه العالم أن يكون معصوما من الخطأ، مهما كان مقدار جلده وإخلاصه في البحث؛ إذ إن الخيال والحدس يلعبان دورا غير قليل في ميدان علم الآثار الموسيقية.
ومع ذلك فإن التقدم في هذا العلم يزداد عاما بعد عام، ومناهجه تزداد دقة بالتدريج. ومن المؤكد أن إحراز نجاح في هذا الميدان كفيل بأن يلقي مزيدا من الضوء على ميادين أخرى للمعرفة البشرية؛ إذ إن الدور الذي كانت الموسيقى تلعبه في كل المجتمعات القديمة كان دورا عظيم الأهمية. إننا اليوم ننظر إلى هذا الفن على أنه شيء عارض في حياتنا ، يقدم إلينا وسيلة سارة لقضاء الوقت وللترفيه عن النفس - أو هكذا ينظر إليه على الأقل معظم الناس - أما في الحضارات القديمة فقد كانت الموسيقى شيئا أهم بكثير، شيئا مرتبطا بمعان فلسفية ودينية وصوفية عميقة. ولا بد أن يؤدي الكشف الدقيق لموسيقى أية حضارة قديمة إلى إلقاء ضوء ساطع على عقائدها الدينية ونظمها السياسية ومذاهبها الفلسفية والكونية ومعارفها العلمية. لقد كان لدى القدماء من الوقت والفراغ ما يتيح لهم إعمال فكرهم في عالم الصوت، واستخلاص نتائج عظيمة الأهمية منه، تفيدهم في شتى نواحي حياتهم. ومن هنا فإن علم الآثار الموسيقية يؤدي للدراسة الحضارية خدمة لا تقدر، حين يلقي ضوءا على الحياة الموسيقية للشعوب الغابرة، فيعيد بذلك إحياء عنصر أساسي في حضارات هذه الشعوب.
خواطر حول الموسيقى الشعبية
كان من الشائع، وقتا ما، أن تقسم الموسيقى فئتين: فئة للعامة وفئة للخاصة. وموسيقى العامة هي تلك الألحان الخفيفة، الراقصة في الغالب، التي تستطيع الجماهير الغفيرة من الناس تذوقها وترديدها دون عناء، وتجد في ذلك لذة تخفف عنها عناء العمل اليومي الشاق. إنها موسيقى جسم مكدود وذهن متعب، لا تقتضي من السامع جهدا، بل هي على العكس من ذلك قد تكون له معينا على بذل المزيد من الجهد. أما موسيقى الخاصة فإن النفس لا تدرك ما فيها من انسجام وتوافق إلا بعد أن تكون قد تدربت على بذل نوع من الجهد الذهني يتيح لها أن تتتبع الخيوط المختلفة للحن، والمسارات غير المتوقعة للإيقاع، وتجمع ذلك كله في وحدة متآلفة؛ فهي إذن موسيقى تعتمد أول ما تعتمد على قدر من التركيز الذهني لا يتوفر إلا لقلة من البشر، تسمح لهم ظروف حياتهم بأن ينعموا بهذا الترف، تماما كما كان التفكير الفلسفي وقتا ما ترفا لا يملك الاستمتاع به إلا القليلون.
كان ذلك تقسيما شائعا في وقت من الأوقات، وكان من الطبيعي أن يرتبط هذا التقسيم بنوع من التمييز الطبقي، قد يكون أحيانا قائما على أساس اجتماعي واقتصادي، ولكنه في الأغلب قائم على أساس ثقافي؛ فالعامة والخاصة يناظرون الطبقات الفقيرة والطبقات الغنية أو الأرستقراطية في بعض المجتمعات، ولكنهم في معظم الأحيان يناظرون - في مجال الموسيقى - الجهلاء والمثقفين، أو السطحيين والمتعمقين، وبعبارة أخرى فإن اهتمامات محدودي الثقافة من الناس لا تتعدى المستويات السطحية الظاهرة للفن الموسيقي، على حين أن المثقفين الحقيقيين يغوصون في أعماق هذا الفن ليستخلصوا منه دررا لا تتكشف إلا للواصلين.
على أن عصرنا الحديث، في ميله الشديد إلى تعقيد كل ما هو بسيط، قد أدخل تغيرات شاملة على هذا التقسيم المبسط، كان من شأنها أن أصبحت الصورة معقدة غاية التعقيد؛ فقد دارت الأيام، وإذا بنا نجد أولئك الذين اعتدنا أن نسميهم بالخاصة أو المثقفين أو أرستقراطي الفكر، يهتمون كل الاهتمام بألوان الموسيقى التي يرددها العامة، ويجعلونها موضوعا للدراسة والتحليل، بل إن منهم من أصبح يرى فيها خلاصا من الأزمة الفنية التي انتهت إليها موسيقى الخاصة ذاتها، ووسيلة بعث حياة جديدة ودماء حارة فتية في جسدها الذي دب فيه الاعتلال والوهن. وبعد دورة الأيام هذه أصبحنا نجد كبار المشتغلين بالموسيقى - نظريا وعمليا - يبدون اهتماما زائدا بإيقاع دقات الطبول عند قبيلة مجهولة في قلب غابات أفريقيا، أو بلحن بدائي متوارث من مئات السنين، يردده سكان جزيرة نائية في المحيط الهادي، ويحسون بفرحة من عثر على كنز ثمين حين يسمعون أغنية ساذجة يرددها الفلاحون الفقراء في مجاهل الهند. وأصبح المثقف الذي كان يحتقر الموسيقى الراقصة بكل أنواعها، يستمع بشغف شديد إلى أنغام «الجاز»، ويكون النوادي التي تضم عشاق هذا اللون، بل ويعد الاستماع إليه - ويا للعجب! - علامة من علامات اتساع الأفق ورحابة الذهن والترفع عن روح الحذلقة والكبر والغرور.
إنها إذن دورة كاملة قام بها تفكير الإنسان منذ اللحظة التي كان يقسم فيها الموسيقى، ببساطة، إلى فئة للخاصة وفئة للعامة، حتى اللحظة التي أصبح فيها الخاصة يحرصون على إثبات خصوصيتهم بإبداء أكبر قدر من الاهتمام والعناية بموسيقى العامة. ولا جدال في أن من أوضح مظاهر هذا التغيير الجذري في نظرة المثقف الحديث إلى الفن الموسيقي، تلك النهضة الشاملة التي أصابت الموسيقى الشعبية، والتي حولت هذا اللون من فن سوقي لا يعبأ به إلا عامة الناس، إلى فن رفيع يشغل أكبر قدر من اهتمام المثقفين والمتذوقين والدارسين، ويرى فيه الكثيرون أساسا لكل تطور مثمر في مستقبل الموسيقى. •••
هذا التغير الأساسي الذي أدى إلى رد اعتبار الموسيقى الشعبية يمكن إرجاعه إلى جذور حضارية متعددة، أسهمت كلها في هدم النظرة الأرستقراطية إلى الفن الموسيقي، وفي ربط هذا الفن على نحو أوثق بالحياة الفعلية للناس، بعد أن ظل طويلا وسيلة تستخدمها الطبقات الاجتماعية المترفة في الترويج عن نفسها، ولا يوجد لها خارج نطاق هذه الطبقات مجال.
أول هذه الجذور الحضارية هي فكرة القومية. ومن الواجب منذ البداية أن نوضح أن الموسيقى القومية لا يتعين بالضرورة أن تكون موسيقى شعبية، وأن الفنان الذي يكتب موسيقاه بدافع القومية لا يستمد وحيه من الألحان الشعبية حتما؛ فقضية القومية في الموسيقى ليست هي ذاتها قضية الشعبية، ومع ذلك فإن مؤرخي الموسيقى لاحظوا ارتباطا وثيقا بين ظهور الطابع الشعبي في الموسيقى، أو على الأصح التنبيه إلى هذا الطابع والاهتمام به، وبين انتشار فكرة القومية؛ ففي العالم الغربي كان القرن التاسع عشر عهد ازدهار القوميات، وكان في الوقت ذاته عهد الاهتمام بالموسيقى الشعبية والرجوع إلى الألحان الأصيلة النابعة من وجدان الشعب، واتخاذها أساسا تبنى عليه أعمال موسيقية شامخة. ولقد كان الارتباط بين الظاهرتين طبيعيا؛ إذ إن الاهتمام بالقومية، على المستوى السياسي والاجتماعي والحضاري، لا بد أن يصحبه اهتمام بروح الأمة كما يتجلى في ألحانها المنبثقة عنها تلقائيا. كما أن السعي إلى تحقيق الأهداف القومية لا بد أن يستعين - ضمن وسائله المتعددة - بالقوة الروحية التي تثيرها في أفراد الأمة تلك الألحان التي ظلت تجمع بينهم، وتدعم وحدتهم المعنوية أجيالا طويلة. وربما ذهب بعض المفكرين إلى أن الروح القومية ترجع إلى عهد أقدم من القرن التاسع عشر بكثير؛ إذ إنها - في أوروبا الغربية مثلا - ترتد إلى ذلك العصر الذي انتشرت فيه لغات قومية مستقلة عن اللغة اللاتينية (التي كانت شاملة من قبل)؛ أعني العصر الذي كتبت فيه مؤلفات أدبية تعبر عن روح كل شعب على حدة. وهؤلاء يرون أن العناصر الشعبية في الموسيقى كانت موجودة - ربما بصورة غير واضحة كل الوضوح - منذ عهد النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر؛ أي طوال الفترة التي كان يشيع الاعتقاد بأنها فترة «عالمية» تتخطى حدود البلدان الخاصة ولا تخاطب شعبا دون غيره. وقد يكون لهذا الرأي نصيب من الصحة، ولكن الأمر المؤكد هو أن التنبه إلى هذه العناصر الشعبية في الموسيقى، وفهم دلالتها، واستغلالها استغلالا واعيا، كل ذلك لم يحدث على نطاق واسع إلا في نفس الفترة التي أخذت فيها القوميات الأوروبية تسعى إلى الاستقلال، وتبحث عن أصولها الروحية الكامنة وتلتمس الطريق إلى فهم شخصيتها المستقلة المميزة.
ومن الجذور الأخرى التي نبع منها الاهتمام بالموسيقى الشعبية، الاتجاه الحديث إلى تحقيق الديمقراطية، واتساع قاعدة الجمهور الذي يخاطبه الفنان. ولا جدال في أن هذا الاتجاه يرجع إلى عهد أسبق بكثير من القرن التاسع عشر؛ إذ إنه يرتبط في الواقع بانتهاء عهد الإقطاع السائد في العصور الوسطى، وببداية ظهور الطبقات البورجوازية والتجارية الحديثة. غير أن القرن التاسع عشر هو الذي شهد لأول مرة ازدهارا سريعا للروح الديمقراطية، وهو الذي أخذت فيه الجماهير العريضة من الناس تبدي اهتماما كبيرا بالفن الذي كان تذوقه من قبل مقتصرا على فئات محدودة تحتل أعلى درجات السلم الاجتماعي. ولقد كان طبيعيا، في هذا الوقت الذي أخذت فيه الدعوة إلى الديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية تنتشر انتشارا سريعا، والذي أحست فيه الطبقات المنسية لأول مرة بكيانها، وطالبت لنفسها بالمكانة التي تستحقها داخل المجتمع، كان طبيعيا أن يتجه اهتمام المؤلفين الموسيقيين إلى تلك المنابع اللحنية التي يشترك فيها أكبر عدد ممكن من أفراد المجتمع، والتي هي أقرب ما تكون إلى روح الشعب الأصيلة، وهي الأقدر على التعبير عن أحاسيس الطبقات الشعبية التي لم تعد تعيش على هامش المجتمع؛ فالموسيقى الشعبية هي، بمعنى معين، تعبير عن اصطباغ الفن الموسيقي بالصبغة الديمقراطية، واتجاهه إلى مخاطبة نفس الجماهير العريضة التي كانت الدعوة إلى الديمقراطية تسعى إلى تحريرها اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا.
على أن هناك حركة أخرى كان لها نصيب غير قليل في توجيه الاهتمام إلى الأصول الشعبية للموسيقى، هي الحركة الرومانتيكية، التي ازدهرت بدورها في القرن التاسع عشر، وما زالت لها آثار باقية في نظرة الإنسان إلى الفن حتى اليوم؛ ذلك لأن هذه الحركة هي التي مجدت - لأول مرة - التراث الشعبي في الأدب والتصوير والموسيقى، وهي التي نبهت الأذهان إلى تلك القوة الغامضة الخفية التي تكمن في أعماق الروح الشعبية، وتتيح لهذه الروح أن تعبر عن نفسها تعبيرا أصيلا صادقا مخلصا في أعمال فنية لا يمكن أن توصف بأنها نتاج لفرد معين، بل هي نتاج لشعب أو مجتمع كامل، أو هي على الأصح نتاج القوة الخلاقة الكامنة في هذا الشعب. وليس من العسير أن يدرك المرء مدى وثوق الارتباط بين مقومات النزعة الرومانتيكية وبين هذا الاهتمام بالفن الشعبي؛ إذ إن ما تتسم به تلك النزعة من اتجاه صوفي غامض، يغلب المشاعر والانفعالات، ويميل إلى الجانب الخفي للأشياء، مرتبط أوثق الارتباط بفكرة القدرة الخلاقة ل «روح الشعب» التي تعبر أصدق تعبير عن أعمق «أحاسيسه»، وبهذا الأصل «المجهول» الذي يقال إن كل فن شعبي ينبثق منه.
وأخيرا، فهناك سبب يمكن أن يعزى إليه - في القرن العشرين بوجه خاص - الاتجاه إلى إحياء التراث الشعبي في الموسيقى، هو البحث المحموم في هذا القرن عن الجديد بأي ثمن، وفي أية صورة. ولقد اتخذ البحث عن الجديد، في حالة الموسيقى أشكالا شتى، كان من بينها إحياء الألحان الشعبية واتخاذها أساسا لاتجاه كامل من اتجاهات الفن الموسيقي؛ أي إن البحث عن الجديد قد اتخذ في هذه الحالة - كما في حالات أخرى كثيرة - طابع الرجوع إلى القديم مع إضفاء صورة جديدة عليه. ولقد رأى البعض في سعي موسيقى القرن العشرين إلى الجديد علامة من علامات الإفلاس الفني، ومظهرا من مظاهر نضوب معين ذلك الوحي الذي أنتج في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من الروائع ما عجز القرن العشرون عن إنجاز قدر ضئيل منه. ومن هنا كان التجاؤه إلى التجريب الصوتي والتوسع في إدخال الآلات الجديدة واستحداث السلالم المعقدة، لا لشيء إلا لكي يداري العجز الأساسي الذي يتسم به. ورأى البعض الآخر أن هذا الاتجاه إنما هو تعبير صريح عن صفة كانت ملازمة للفن الموسيقي في أزهى عهوده، وأعني بها استلهام روح الأمة التي ينتمي إليها الفنان، فلم يزد القرن العشرون في هذا الصدد عن أنه كشف بصراحة ووعي عن مصدر للوحي الفني كان الموسيقيون من قبل ينهلون منه دائما دون وعي منهم في أغلب الأحيان. وسواء أكان هذا الرأي أم ذاك هو الصحيح، فالأمر المؤكد هو أن القرن العشرين يمثل قمة الاتجاه إلى الاعتراف بالموسيقى الشعبية بوصفها مصدرا أساسيا للفن الموسيقي، ووسيلة عظيمة القيمة لبعث روح جديدة في هذا الفن. •••
ولست أهدف من هذا البحث إلى إصدار حكم على الاتجاه إلى الاستعانة بالتراث الشعبي في الموسيقى؛ إذ إن أمثال هذه الأحكام تقوم في معظم الأحيان على أساس يفتقر إلى الموضوعية، وتتجه إلى فرض التفضيلات الذاتية لصاحبها على أذهان الآخرين وأذواقهم. ولكني أود أن ألقي بعض الضوء على الفكرة التي يرتكز عليها هذا الاتجاه الموسيقي في صورته العامة، وعلى الطريقة التي يطبق بها في بلادنا بوجه خاص.
وأول ما ينبغي أن أشير إليه وأؤكده للقارئ، هو أن حديثي هنا لا ينصب على الموسيقى الشعبية ذاتها، بل على محاولة الاستعانة بها في بناء موسيقى ذات طابع عالمي، أو في بعث نهضة موسيقية في بلد متخلف. والأمران مختلفان اختلافا واضحا؛ إذ إن الموقف الذي يمكن أن يتخذه المرء من الموسيقى الشعبية، كما هي في ذاتها، لا يعدو أن يكون موقف العالم الذي يسجل ويحلل، أو السامع الذي يتذوق ويقدر. أما في حالة المحاولات التي أود أن أتناولها بالبحث، فمن الممكن أن يتحدث المرء عن مدى مشروعية المحاولة ذاتها، ومدى اتساقها مع نفسها، ومقدار الدور الذي يسهم به الأصل الشعبي في الهدف الذي يضعه أصحاب هذه المحاولات لأنفسهم - وكلها موضوعات لا يجوز للباحث التعرض لها حين يكون بصدد الكلام عن الموسيقى الشعبية في صورتها الخالصة.
إن من الواضح، بادئ ذي بدء، أن الانتقال بفكرة «الشعب » أو «الشعبية» من المجال القومي أو الديمقراطي - أي من معناها السياسي والاجتماعي - إلى المجال الفني، والموسيقي بوجه خاص، ينبغي أن يختبر بدقة، ويعالج بحذر شديد؛ ذلك لأن هناك احتمالا قويا في أن يكون إيمان الكثيرين ب «الشعب» و«الشعبية»، على المستوى السياسي والاجتماعي، قد دفعهم إلى الإيمان بهذه الفكرة ذاتها على المستوى الفني دون تمييز بين المجالين؛ فعندما نقول عن اتجاه معين إنه شعبي، بالمعنى السياسي، يكون لهذه الصفة في الأذهان التقدمية وقع مرغوب فيه إلى أقصى حد. ومن الطبيعي، تبعا لذلك، أن يكون لها مثل هذا الوقع حين تستخدم صفة لعمل فني. وبرغم ما قلناه من قبل، من أننا لا نهدف إلى إصدار حكم إيجابي أو سلبي على الموسيقى الشعبية في ذاتها، فمن الواجب أن ننبه إلى أن الخلط بين الارتباطات النفسية والذهنية للألفاظ، فيما بين المجالين السياسي والفني، هو في ذاته أمر غير مشروع، ومن الممكن أن يؤدي إلى أخطاء جسيمة، وحتى لو كان المرء ممن يبدون أشد الإعجاب بالاتجاهات الشعبية في الموسيقى، فإن هذا الإعجاب، لو كان مصدره هو التقدمية السياسية التي تجعل المرء متعلقا بكل ما هو «شعبي»، لكان بهذا المعنى أمرا غير مشروع من الناحية الفنية. ولست أعني بذلك أنه يوجد - أو ينبغي أن يوجد - انفصال قاطع بين مجالي السياسة والفن، بل إن ما أعنيه هو أن الأحكام التي يصدرها المرء في أحد المجالين لا ينبغي أن تكون لها بالضرورة نفس الدلالة في المجال الآخر، وأن الارتباطات النفسية المستمدة من عالم السياسة لا يصح أن تكون أساسا للحكم في عالم الفن؛ فإذا كان الشعب هو - من الناحية السياسية - مصدر كل القيم التي يعتز بها المفكر التقدمي، فإن هذا لا يعني - منطقيا - أنه في الوقت ذاته مصدر كل قيمة في الأعمال الفنية بدورها. وإذا كان الاتجاه الشعبي مرغوبا فيه في المجال السياسي، فليس من الضروري أن يكون هذا الاتجاه مرغوبا فيه في المجال الفني أو الموسيقي بدوره.
ولست أعني بذلك أن من الضروري أن يحكم المرء على الاتجاه الشعبي في الموسيقى حكما سلبيا، بل إن في وسع المرء أن يصدر من الأحكام الإيجابية على هذا الاتجاه ما يشاء. وكل ما في الأمر أن هذه الأحكام ينبغي أن تكون مبنية على أسباب جمالية، ويجب ألا تكون مجرد امتداد أو انعكاس للأحكام التي يصدرها على الاتجاهات الشعبية في مجال السياسة أو المجتمع. وفي مقابل ذلك، فمن الواجب ألا يخلط المرء بين نقد الاتجاه الشعبي في الفن وبين الرجعية السياسية أو الاجتماعية؛ إذ لا يوجد أي ارتباط ضروري بين هذين الأمرين.
وهكذا يمكن القول إن عبادة الشعب، على المستوى السياسي والاجتماعي - وهي سمة من أخص سمات المثقف في القرنين الأخيرين - قد انعكست بلا تمييز في المجال الفني فأصبحت بدورها عبادة لكل اتجاه شعبي في الموسيقى، حتى أصبح من الصعب أن يتخذ المرء موقفا نقديا موضوعيا إزاء هذه الاتجاهات، خشية أن يتهم بالترفع عن «الشعب»؛ أي بالأرستقراطية والرجعية بالمعنى السياسي. وأصبحت الآمال التي يعلقها الفكر التقدمي على انتصار القوى الشعبية في مجال السياسة، منعكسة على ميدان الفن في صورة آمال ممثلة تجعل الفنان موقنا بأن إحياء الفن في عصرنا الحاضر لن يكون إلا بالرجوع إلى تراثه الشعبي. ومرة أخرى أقول إنني لست ضد هذه الفكرة الأخيرة من حيث المبدأ، وكل ما في الأمر أنني ضد الخلط بينها وبين الفكرة السياسية الموازية، والاعتقاد الباطل بأن هذه الأخيرة ترتبط بالأولى ارتباطا وثيقا.
والحق أننا لو بحثنا في الأمر من الناحية المنطقية البحتة لتبين لنا أن صفة «الشعبية» لا ينبغي بالضرورة أن تكون مرادفة للامتياز والتفوق؛ ففي ميدان العلم النظري، لم يستطع العقل الإنساني أن يتقدم إلا بعد أن تغلب على الاعتقاد «الشعبي» بأن الشمس تدور حول الأرض، وبأن عناصر الطبيعة هي نفس العناصر الأربعة التي تظهر لحواسنا المجردة ... إلخ. وفي ميدان الطب، لم يستطع الباحثون أن ينقذوا البشرية من كثير من آلامها إلا بعد أن تخلصوا من الفكرة «الشعبية» القائلة إن الحياة تتولد تلقائيا، وإن أسباب الأمراض أرواح شريرة تتقمص الناس، وإن اليد التي تبدو نظيفة لا يمكن أن تكون محتوية على عناصر تجلب المرض (جراثيم) ... إلخ. وفي ميدان الفن والأدب ذاته، لا يجد المرء غضاضة في أن يحكم على رواية بوليسية «شعبية» بأنها أدب رخيص، برغم أنها تقرأ على نطاق أوسع بكثير من أروع نواتج الأدب العالمي؛ أي إن هناك بالفعل حالات كثيرة لا تكون فيها صفة «الشعبية» تعبيرا عن فضيلة أو ميزة كامنة. وهذا ما ينبغي أن نضعه نصب أعيننا ونحن بصدد تحليل أهمية الاتجاهات الشعبية في الموسيقى. •••
ولنحاول الآن أن نفهم ما يحدث حين يقوم فنان موسيقي كبير ببناء أعمال فنية كاملة على أساس من التراث الشعبي؛ لكي ندرك الدور الحقيقي الذي يقوم به هذا التراث في أعماله. إن الأمر المؤكد في نظري هو أن الفنان الكبير يستطيع أن يخلق إنتاجا فنيا رائعا بأبسط المواد التي تتاح له. وفي هذه الحالة تكون روعة إنتاجه راجعة إلى مقدرته الخاصة، لا إلى طبيعة المادة التي يستخدمها. وبعبارة أخرى، فاللحن الشعبي البسيط الذي يتخذه فنان مثل بارتوك أو إنيسكو أساسا لعمل فني كبير، ليس هو الذي يضفي قيمة على عمله، بل إن دور هذا اللحن لا يزيد عن دور قطعة الحجر في يد المثال، أو كلمات اللغة في يد الشاعر. وكما أن هذا الحجر نفسه يمكن أن يظل مهملا في الطريق، يمر به المارة فلا يجدون فيه إلا عقبة يتمنون لو أزيلت من طريقهم، وكما أن كلمات اللغة ذاتها يمكن أن تكون موضوعا لثرثرة تافهة أو هلوسة مجنونة، فكذلك لا يكتسب اللحن الشعبي قيمته إلا من براعة الفنان الذي يصوغه، على حين أنه، لو نظر إليه في ذاته، لما كان إلا مادة قابلة للتشكل فحسب.
إن اللحن الشعبي، في أيدي هؤلاء الموسيقيين العباقرة، إنما هو «مناسبة» فحسب. ومن المعروف أن الجمل اللحنية الأصيلة، في الأعمال الموسيقية الكبيرة ، ليست هي أهم عنصر في هذه الأعمال، بل إن مدى قدرة الفنان على تنميتها وتطويرها وتعديلها هي التي تتحكم في تحديد مستوى عمله الموسيقي. والمؤلف الموسيقي الذي يتقن عملية التطوير والتعديل وتطويع اللحن المتاح له، يستطيع أن يمارس عمله هذا على أية مادة موسيقية، بل إن من الموسيقيين من يقومون بهذا العمل بطريقة «استعراضية»؛ لكي يثبتوا مقدرتهم على أن يصنعوا من أبسط المواد أعمالا ضخمة شامخة. وليس من الصواب أن نصف اللحن الشعبي في هذه الحالة بأنه «بذرة» صغيرة ينشأ منها نبات كامل؛ إذ إن البذرة تتميز، على أية حال، بأن لها القدرة على النمو التلقائي إذا توافرت بعض الشروط الضرورية لنموها بالطبع. أما في حالة اللحن البسيط الذي يرتكز عليه عمل موسيقي كبير، فإن النمو لا يمكن أن يكون تلقائيا، ولا يصدر عن قوة كامنة في اللحن ذاته، أو عن استعداد فيه للتطور في اتجاه معين، بل إن كل شيء يتوقف على تدخل الفنان وطريقة صياغته للمادة البسيطة المتاحة له.
هذا الحكم ينطبق، بصورة عامة، على الموسيقى العالمية التي ترتكز على ألحان شعبية، ولكن للمسألة أوجها أخرى ذات طابع أكثر خصوصية، إلى جانب هذا الوجه العام؛ فمن المعروف أن الشعوب تتفاوت في درجة خصوبتها الفنية، أو في درجة حساسيتها لفنون معينة، وهذه حقيقة أخرى ينبغي أن نتنبه إليها ونحن في معرض تحليل أهمية الألحان الشعبية من حيث هي مصدر من مصادر الفن الموسيقي؛ ذلك لأن عبادة «الشعب»، على المستوى السياسي والاجتماعي، قد ترتب عليها خطأ آخر في الميدان الفني، هو الاعتقاد بأن كل النواتج الفنية الشعبية قيمة لمجرد كونها نابعة عن الشعب. ولم يحاول أصحاب هذا الرأي أن ينزعوا عن فكرة «الشعب» تلك الهالة الصوفية الرومانتيكية التي يحيطونها بها، أو أن يكونوا لأنفسهم صورة عينية واقعية عن «الشعب» المعين الذي يتحدثون عنه، والذي قد يكون شعبا فقيرا، مقهورا، حزينا، لم يستطع أن يكون لنفسه تراثا موسيقيا عميقا لانشغاله الدائم بالبحث عن لقمة العيش أو بالتخلص من بطش حاكم مستبد . والأمر المؤكد أن تجارب الشعوب تتفاوت في هذا الصدد تفاوتا شديدا، وأن هناك شعوبا لديها بالفعل تراث خصب يمكن أن يكون أساسا قويا لبناء موسيقي متين. على حين أن هناك شعوبا لا تملك إلا تجارب موسيقية هزيلة، أو بدائية ساذجة، لا تصلح دعامة ترتكز عليها نهضة موسيقية حقيقية.
وليس من حقي أن أصدر حكما على نوع الموسيقى الشعبية السائدة في بلادنا، وأقرر إن كانت تمثل بالفعل تراثا خصبا أم تراثا بدائيا هزيلا. ولكني أود فقط أن أشير إلى أن تسعة أعشار الإعجاب الذي يبديه المتحمسون لهذا التراث عندنا لا يرجع إلى أسباب فنية أو جمالية؛ قد يكون ذلك إعجابا متأثرا بنزعات قومية، أو ديمقراطية شعبية، أو بنزوع لا شعوري إلى التواضع والتنازل والتقارب مع «القاعدة» الشعبية، وقد يكون إعجابا مبنيا على اعتبارات «أدبية» بحتة، ولكنه في معظم الحالات ليس إعجابا ناتجا عن إدراك للقيمة الجمالية الكامنة في هذه الموسيقى.
وأكاد أقول إن عددا غير قليل من مثقفينا، ممن يحيون بالفعل حياة متميزة تميزا كاملا - في مستواها المادي والمعنوي - عن حياة الطبقات الشعبية، يدافعون بحماسة عن الشعبية في الموسيقى، لا لشيء إلا من أجل محاولة إزالة الفوارق بينهم وبين «الشعب» في ميدان لا تكلفهم فيه هذه «الإزالة» شيئا. وقد تكون هذه المحاولة، في أحسن حالاتها، تعبيرا لا شعوريا عن نوع من تأنيب الضمير. أما في أسوأ حالاتها فهي مظهر واع من مظاهر نفاق السعداء المنعمين حين يتقربون زيفا إلى التعساء المطحونين. ولكنها في كلتا الحالتين تناقض نفسها تناقضا شديدا؛ إذ تنسب إلى «الشعب» مزايا لا يتصف بها، وتوهمه بأن لديه كمالا هو أبعد ما يكون عنه، وبذلك تساعد - من الوجهة العملية - على بقاء الشعب في حالة السذاجة والسطحية التي يزعمون أنهم يريدون انتشاله منها.
ولكن، هل هذه السذاجة والسطحية طبيعة كاملة في «الشعب» أم أنها شيء مفروض عليه؟ يكفي أن يستمع المرء - مثلا - إلى جماعة من البنائين وهم يستعينون بلحن بسيط على أداء عملهم الشاق الرتيب ليجد الجواب البليغ عن هذا السؤال. إن خشونة اللحن وبدائيته ليست إلا المقابل الطبيعي لخشونة حياة هذا الإنسان وقسوتها. وليس مما يتمشى مع طبائع الأشياء أن نتوقع لحنا جميلا، رقيقا ، من إنسان يفتك به المرض ويظلم حياته الجهل. وكل تراث ينتقل إلى شخص كهذا لا بد أن يكون تراثا من البؤس والحسرة والإحساس الحاد بالاضطهاد، ينعكس على ألحانه، إذا كان لديه من الوقت أو من المزاج ما يجعله ينشئ لحنا، أو إذا جاز لنا أن نسمي زفرات الألم من خلال ثقوب قطعة البوص («الناي الحزين»، على حد تعبير كتابنا الرومانتيكيين) ألحانا. فكيف نتوقع من تلك الألحان ما نتوقعه من موسيقى شعوب تتغنى بجمال الطبيعة والحياة وتفيض بها البهجة فتنشد أنغاما مرحة متوثبة؟ هل يحق لأحد أن يلوم إنسانا لا يتذكره أحد على مر آلاف السنين، إذا كانت الألحان التي يتغنى بها صورة طبق الأصل لصحته المعتلة، ومعدته الجائعة، وملابسه المهلهلة، وبؤسه الذي لا أمل فيه؟
برغم ذلك كله فإن الأصوات ترتفع، في بلادنا، منادية بالعودة إلى تراثنا الشعبي في الموسيقى، على أساس أن في ذلك التراث حلا لكل ما نواجهه من مشكلات فنية، وكل ما نعانيه، في ميدان الموسيقى، من تردد وانفصام.
وقبل أن أختبر هذه الدعوة، علميا ومنطقيا، أود في البداية أن أقدم تحليلا بسيطا للفظ «العودة» إلى التراث الشعبي، حين يستخدم في بيئة ثقافية كبيئتنا. إن الدول المتقدمة في سلم الحضارة «تعود» إلى تراثها الشعبي لأنها ابتعدت عنه، ووصلت في موسيقاها إلى أبعد حدود التعقيد شكلا ومضمونا وأداء. وحين يصل المرء إلى قرب نهاية الطريق، فمن الطبيعي أن يشعر بالحنين إلى البداية البسيطة، ويرى في براءتها نجاة وخلاصا لروحه التي استبد بها التعقيد المفرط؛ فالدعوة إلى الموسيقى «الشعبية» مفهومة تماما في بيئة امتدت تجاربها الموسيقية «البوليفونية» (المتعددة الأصوات) إلى أكثر من ثمانية قرون، وتنقلت فيها هذه التجارب بين مختلف ألوان الموسيقى الأوركسترالية والمنفردة والغنائية حتى وصلت، في مظاهرها الأخيرة، إلى استخدام الآلات الإلكترونية في التأليف والموسيقى. عندئذ تكون العودة إلى الألحان الشعبية مظهرا من مظاهر حركة «العودة إلى الطبيعة»، التي تتردد في كل حضارة بلغت حدا مفرطا من التصنيع والتعقيد.
أما نحن، فهل انقطعت الصلات بين موسيقانا الحالية وأصولها الشعبية إلى الحد الذي يبرر «العودة إلى الجذور» في الموسيقى؟ إن من يتأمل الموسيقى التي تشيع حاليا في بلادنا بشيء من العمق لا يصعب عليه أن يهتدي، من وراء القناع الظاهري الذي لا تحسن الاختفاء وراءه، إلى قدر هائل من العناصر الشعبية. صحيح أن هناك محاولات ل «التفرنج» تتمثل في الالتجاء إلى بعض إيقاعات الرقص الغربية، وفي استخدام آلات غربية، من آن لآخر، بطريقة لا تخلو من النزوع «الاستعراضي» المكشوف، وصحيح أن «النحت» الشرقي الصغير قد تحول إلى «أوركسترا» كبير هو في حقيقة الأمر «تخت» مكبر الصوت؛ لأنه لا يفيد شيئا من قدرات الأوركسترا على التلوين أو على التعدد والتآلف الصوتي، ومع ذلك فإن الألحان تظل في صميمها قريبة كل القرب من الطابع الشعبي. والأهم من ذلك أن الجمهور ذاته لا يستجيب كثيرا لتلك «التجديدات» وما زال وجدانه متعلقا بطريقة الغناء الشعبية. وأبلغ دليل على ذلك حماسته الهائلة للغناء على طريقة المواويل، أو الليالي، عندما يتخلل أية قطعة من النوع الذي يصطبغ ظاهريا بطابع «التفرنج».
وإذن، فالاعتقاد بأن «العودة» إلى الطابع الشعبي للموسيقى هي التي تكفل لموسيقانا الحالية نهضة رفيعة هو، من حيث المبدأ، محاكاة ساذجة لدعوات ظهرت في بلاد ابتعدت موسيقاها عن الأصول الشعبية ابتعاد السماء عن الأرض. وحين تظهر مثل هذه الدعوة في بلاد لا تزال «أرقى» أنواع الموسيقى المحلية فيها تحمل، بين طياتها، كثيرا جدا من مظاهر الطريقة الشعبية في التلحين والعزف والغناء، فإنها تصبح شيئا يدعو إلى السخرية، لسبب بسيط هو أن ما نريد «العودة» إليه كان ولا يزال، موجودا معنا على الدوام!
ولكن، لندع جانبا هذا النقد الذي يتعلق بمبدأ الرجوع إلى التراث الشعبي في بلد لم تتجاوز موسيقاه المرحلة الشعبية بعد، ولنحاول أن نختبر، بطريقة علمية، تلك التجارب التي تمارس في بلادنا لإحياء الفن الموسيقي الشعبي - مفترضين جدلا أن مثل هذا الإحياء أمر له جدواه.
ولو تأملنا التجارب التي تمارس في بلادنا لإحياء الفن الموسيقي الشعبي، لوجدناها ذات طابع مزدوج؛ فمنها تجارب تهدف إلى إقامة بناء موسيقي ذي طابع عالمي، على أساس من التراث الشعبي، ومنها تجارب ترمي إلى إحياء هذا التراث في ذاته، ولكل من هذين النوعين خصائص ينبغي أن نتحدث عنها على حدة.
أما محاولات اتخاذ تراث الألحان الشعبية أساسا لبناء موسيقى عالمية الطابع، فأخشى أن أقول إنها محاولات تنطوي على شيء من التناقض؛ ذلك لأن الألحان الشعبية الشرقية التي يشيد عليها البناء الموسيقي العالمي هي بطبيعتها غير قادرة على التطور والنمو والتنويع إلا بطريقة مصطنعة. إنها ألحان وضعت في ظل نظام نغمي مبني على وحدات لحنية مستقلة قائمة بذاتها؛ أعني نظاما لا يعرف بطبيعته تلك القوالب التي تسمح بتنويع اللحن وتكثيفه والإضافة المتراكمة إليه. وهناك، فضلا عن ذلك، تلك المشكلة المعروفة الخاصة بنوع السلالم الموسيقية، وقابلية «ربع الصوت»، الذي ترتكز عليه السلالم العربية، للتطوير في القوالب العالمية المعروفة. والمهم في الأمر أن اللحن الشرقي يبدو، في هذه الحالة، أشبه ببذرة غير قابلة للنمو؛ لأنها مغروسة في أرض غريبة، أو أن المحاولة بأسرها قد تبدو أشبه بمحاولات استنبات فاكهة الصيف في الشتاء. وقد لا يكون ذلك راجعا إلى قصور في اللحن الشرقي الأصلي ذاته، ولكن المهم في الأمر هو أن المرء لا يستطيع الاقتناع بذلك الجهد المتكلف الذي يبذل من أجل بناء موسيقى عالمية على أساس من الألحان الشعبية المحلية. وحتى لو رأى البعض أن الاتجاهات الموسيقية الغربية المعاصرة تسمح بمثل هذا التقارب - إذ تعطي المؤلف حرية واسعة النطاق في التصرف في السلالم الموسيقية والإيقاعات والقوالب، أو في إلغائها أصلا - فإن المحاولة (التي رأينا بالفعل نماذج لها في بلادنا في الآونة الأخيرة) لن تعود لها في هذه الحالة صلة بالموسيقى الشعبية من قريب أو بعيد. إنها تصبح في هذه الحالة منتمية إلى مجال الموسيقى العالمية في أحدث تطوراتها، ويستحيل التعرف على موسيقانا الشعبية وإدراك ملامحها والإحساس بمذاقها الخاص من خلال العمل في صورته النهائية. إنها - بالاختصار - تطوير للموسيقى العالمية في اتجاه تستخدم فيه مادة جديدة غير مألوفة ولكنها ليست على الإطلاق تطويرا للموسيقى الشعبية ذاتها في اتجاه عالمي.
وأما النوع الآخر من المحاولات، وهو النوع الذي يرمي إلى إحياء تراث الموسيقى الشعبية، فيشوبه نقص كبير هو أنه يكتفي بالجانب التسجيلي فقط، ولا يكاد مع ذلك يشعر بوجود هذا النقص فيه؛ ذلك لأن الاهتمام الأكبر ينصب فيه على ترديد نفس الألحان المنتمية إلى التراث الشعبي دون أية محاولة لتطوير اللحن أو تهذيبه أو صقل طريقة أدائه. وليس في ذلك أي مأخذ على من يقومون بهذه المحاولات ما داموا واعين بحدود عملهم، بل إن تسجيل التراث الشعبي أمر مرغوب فيه، تحرص عليه كل البلاد الناهضة في عالمنا المعاصر، وهو مظهر من أقوى مظاهر الوعي الثقافي لدى أية أمة تسعى إلى تحقيق التقدم في المجال الفني. ولكن المشكلة هي أن هذا التسجيل والتدوين يقدم إلينا في كثير من الأحيان، بل أكاد أقول في معظم الأحيان، كما لو كان هو ذاته عملا فنيا رفيعا بأحدث معاني الكلمة. وإني لأذكر برنامجا تليفزيونيا ناجحا اشترك في إحدى فقراته واحد من ألمع مثقفينا مع واحد من أخلص المشتغلين بجمع التراث الموسيقي الشعبي، قدموا فيه مغنية ريفية اشتهرت بغنائها في مواسم دينية خاصة، وكانت طريقة التقديم، وما اقترن بها من تمجيد وتفخيم وتعظيم، توحي بأن حدثا فنيا خارقا على وشك الوقوع، ولكن الغناء نفسه، حين بدأ، كان مخيبا للأمل إلى أبعد حد؛ فالصوت خشن فيه البداوة الريفية غير المصقولة، والآلات بدائية ساذجة، والأنغام متكررة لا ابتكار فيها ... كل هذه صفات يمكن أن تكون مستحبة إلى أقصى حد إذا كنا بصدد تسجيل التراث الشعبي لأغراض علمية أو ثقافية؛ لأنها بالفعل جزء من البيئة التي يظهر في ظلها هذا التراث، ولأنها تعبير صادق ومخلص عن طبيعة الجانب الأكبر - الريفي - من شعبنا. أما حين يقدم هذا الغناء على أنه حدث فني له في ذاته قيمته الرفيعة، ولا علاقة له بالتدوين العلمي، فهنا تبدو المفارقة واضحة ومؤسفة.
هكذا يبدو مصير الموسيقى الشعبية في بلادنا، في الآونة الراهنة، معلقا بين اتجاهين: أحدهما يهدف إلى تطويرها، ولكنه يمسخها خلال هذا التطوير إلى حد يستحيل معه التعرف عليها، وآخر يكتفي بتسجيلها كما هي ويعرضها علينا كما لو كانت فيها هي وحدها الكفاية، وكما لو كانت تمثل قيمة فنية ترضي ذوق المستمع المعاصر وحسه الفني. والاتجاهان - كما نرى - متناقضان، وأخشى لو أنني اتخذت منهما ذلك الموقف الوسط المعروف أن يقال إنني ألجأ إلى ما يلجأ إليه الكثيرون تهربا من مسئولية الالتزام بجانب معين أو بحل محدد المعالم. ولكني لا أجد مع ذلك مفرا من أن أقول إن الإنقاذ والإحياء الحقيقي للتراث الموسيقي الشعبي يكمن في موقع ما بين هذين الطرفين، وأن النجاح الحاسم في هذا المجال لن يتم إلا حين ندرك عن وعي أن تدوين الموسيقى الشعبية والاحتفاظ بها شيء، وإعطاءها دورا فعليا في حياتنا الفنية الراهنة شيء آخر، وأن هذا الدور لن يتاح لها إلا إذا ظهر من يستطيع تطويرها على النحو الذي يجعل لها دلالة عالمية من جهة، ويحتفظ لها بمعالمها الأصلية من جهة أخرى.
ومع ذلك، فحتى لو تحقق هذا الهدف - وهو في رأيي لا يحتاج إلى أقل من معجزة فنية - فسيظل السؤال الذي أثرته في بداية هذا المقال قائما، وأعني به: هل سيكون اللحن الشعبي البسيط هو المصدر الفعلي لإلهام ذلك العبقري القادر على تحقيق هذه الغاية، أم أنه مجرد مادة استخدمها وكان يستطيع أن يستخدم غيرها؟ وهل يرجع جمال العمل النهائي إلى ذلك الأصل البسيط الذي بدأ منه، أم أن القدرة على تشييد بناء متكامل، وإيجاد النسب والعلاقات المنسجمة بين أجزائه، وتنسيق مختلف عناصره، هي التي يرتد إليها كل ما في هذا العمل من جمال؟
مستقبل الموسيقى في مصر1
بلادنا تشهد اليوم نهضة فنية لا شك فيها. والمتتبع للجهود التي تبذل في مختلف ميادين الفن يشعر لأول وهلة بذلك التحول الهائل الذي طرأ على حياتنا الفنية، والذي نحاول به أن نعوض ما فاتنا خلال عهود الاستبداد المظلمة، ونلحق بركب الإنسانية في مجال من أشرف مجالاتها.
ولست ممن يزعمون أن تجربتنا الفنية قد نضجت ، وأننا اليوم نستطيع أن نباهي بفننا سائر أمم الأرض، ونعد أنفسنا أندادا لها جميعا، كلا ... فلا زال أمامنا الكثير من الجهد ومن المحاولات التي قد تنجح حينا وتخفق أحيانا. وليس ذلك راجعا إلى قصور طبيعي فينا، أو إلى تفوق فطري في غيرنا، بل هو راجع إلى طبيعة الظروف التي أحاطت بتطورنا، وبتطورهم ... فالعصور الحديثة في أمم الغرب بدأت منذ ما يقرب من خمسمائة عام، والعصور الحديثة في بلادنا الشرقية بدأت منذ ما يقرب من مائة عام، بل لا زال فينا من لم يتجاوز حتى اليوم مرحلة العصور الوسطى في تفكيره وفي نظرته إلى الحياة.
ومع ذلك فالفن عندنا يخطو - كما قلت - خطوات واسعة إلى الأمام، وشخصيتنا المستقلة قد بدأت تظهر في كثير من الفنون، وأصبح في وسعنا أن نتقدم بإنتاجنا إلى شعوب الأرض المستنيرة لنقول لها: هذه لوحة مصرية، أو هذا تمثال مصري، أو هذه مسرحية مصرية.
ولكن فنا واحدا تخلف عن الركب، وظل مستواه في انحدار مستمر، بل متزايد، حتى اليوم، ولم ننتج فيه أي إنتاج نستطيع أن نفخر به، أو أن نعده معبرا عن مشاعرنا وأحاسيسنا ... ذلك هو الفن الموسيقي.
أجل، فالموسيقى في بلادنا في محنة ... وهذه المحنة تحس بها قلة واعية متفتحة، ولكنها تكتم إحساسها هذا، وتكتفي بإشباع نهمها إلى هذا الفن الرفيع من إنتاج عباقرة الأمم الأخرى، وتنفصل انفصالا شبه تام عن متابعة أحوال هذا الفن في مصر.
والحق أن لهذه القلة الواعية بعض العذر في انفصالها وانعزالها هذا؛ فقد ابتلينا في بلادنا بجماعة من المنتمين إلى المجال الفني، نصب أفرادها أنفسهم مدافعين عن قضية الفن المصري، فلا يكاد يرتفع صوت بالنقد، وبالدعوة إلى مزيد من النهوض، وإلى تجاوز الأوضاع البالية التي تسود بيننا، حتى يهب هؤلاء مدافعين عن كل ما هو سائد ليبقى كما هو سائدا، ومهاجمين للناقد بأساليب لها مظهر براق، ولكنها في حقيقتها زائفة خداعة، كالقول بأن الناقد يتأثر بالفن «الأجنبي»، وأن «وطنيتنا» تحتم علينا ألا نأخذ من الأساليب «الدخيلة» شيئا؛ لهذا آثرت القلة الواعية الصمت، واكتفت بالسير في الطريق الذي اقتنعت بأنه هو الصحيح، تاركة الباقين على ما هم عليه.
ولكن من المحال أن تظل الأمور على هذا النحو، وأن يدوم هذا الازدواج الحاد بين أقلية واعية وأغلبية غير واعية، بل هذه الثنائية ذاتها أكبر خطر يصيب قضية الفن، وقضية الثقافة بوجه عام؛ فما قامت نهضة حقيقية إلا كانت المشاركة فيها عامة، وكل اتجاه أرستقراطي في الفن وفي الثقافة قد يأتي - من آن لآخر - بإنتاج فردي رفيع، ولكنه لا يمكن أن يسمى «نهضة» بالمعنى الصحيح؛ إذ إن كل نهضة لا بد أن تكون إنسانية، يشارك فيها أكبر قدر ممكن من الناس. ومن هنا كانت الضرورة تقضي بالدعوة إلى محو هذه الثنائية، لا بأن تقبل الأقلية الواعية الأوضاع التي خدعت بها الأكثرية، بل بأن تنبهها إلى ما في هذه الأوضاع من أخطاء، وتشاركها في هذا السعي إلى النهوض على أسس سليمة.
فما هي مظاهر محنة الموسيقى في مصر؟
للموسيقى - بوجه عام - لحظات ثلاث: لحظة التأليف، وذلك بالمعنى الواسع لهذه الكلمة، وهو يشمل تأليف الألحان وتأليف الكلمات معا؛ ولحظة الأداء، وهو يشمل الأداء الصوتي في الغناء، والعزف على الآلات؛ ولحظة الاستماع. فالعلاقة الموسيقية إذن ثلاثية: بين المؤلف والقائم بالأداء والمستمع؛ فلنتحدث عن كل عنصر من عناصر هذه العلاقة على حدة. «أما التأليف الموسيقي عندنا» فلا شك في انحدار مستواه، وأستطيع أن أقول مطمئنا إن الأكثرية من مؤلفينا الموسيقيين غير مثقفة فنيا. وقد يبدو هذا القول غريبا، ولكن يكفي أن يدرك القارئ أن «العالم» من مشاهير الملحنين هو من يعرف التدوين الموسيقي، وقراءة المدونات (النوتة)، مع أن هذه من الأوليات التي يجيدها تلاميذ المدارس الابتدائية في البلاد المتقدمة! أما الباقون، وهم كثيرون، فحتى هذه الأوليات لا يعرفونها.
ومن المؤسف حقا أن جهود هؤلاء المؤلفين الموسيقيين جميعا لا تنصرف إلى التزود بالعلم الصحيح، وحسبهم تلك الثروات الضخمة التي تنهال عليهم، ففيم الحاجة إلى العلم إذن، ما دامت الغاية قد تحققت؟
قد يكون هذا الحكم قاسيا، وقد تكون لهجته عنيفة، ولكني أقولها صراحة: إننا في حاجة إلى جيل آخر من الموسيقيين، نحن في حاجة إلى جيل من الموسيقيين «العلماء» بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، يقضي الواحد منهم سنوات طويلة من عمره في دراسة شاقة مضنية، يجني ثمرتها في النهاية، ولا يتوقف عن تحصيل المزيد من العلم طوال حياته، مهما أصاب من نجاح ... فالفنون اليوم لم تعد تلقائية، ولم تعد الفطرة السليمة تجدي فتيلا إن لم تصحبها دراسة عميقة. والعلم قد تغلغل في كل نواحي حياة الإنسان، حتى في نتاج خياله ... فمن من موسيقيينا الحاليين أدرك ذلك؟ ومن منهم عمل على تحقيق هذا الهدف؟
إن فن الصوت - وهو أرفع الفنون وأعمقها - له مجالات واسعة، وتشكيل الأصوات له إمكانيات لا تنفد، ولكننا في مصر لم نفد من هذه الإمكانيات الضخمة إلا على نحو ساذج، بل على نحو يكاد يكون بدائيا: ألحان تسير على وتيرة واحدة، آلات قليلة تسير كلها في تيار واحد وليس لها إلا بعد واحد، إيقاع سطحي راقص ... إلى آخر العيوب الكثيرة التي ترجع كلها إلى سبب واحد، هو الافتقار إلى العلم.
2
ويوم يظهر جيل من الموسيقيين الدارسين الذين يستغلون الإمكانيات الواسعة للصوت إلى أقصى حدودها، يومئذ ستظهر الألحان العميقة المعبرة، وتتخلص الموسيقى من إسار الأغنية التي ظلت تخنقها وتكبلها بقيودها إلى اليوم، فتصبح فنا مستقلا يستطيع أن يقف على قدميه، لتعبر أصواته وحدها عن شتى المشاعر والأحاسيس. «أما عيوب الأداء في موسيقانا» فلا تقل أبدا عن عيوب التأليف؛ إذ إن الأمرين في الحق مرتبطان. ويوم توجد الموسيقى الرفيعة، فلا بد أن يرتفع الأداء إلى مستواها، أما حين تمضي الأمور بلا رقيب، وحين تنعدم المسئولية فستعم هذه الصفة الجميع!
فالعزف - أولا - لم يبلغ أي مستوى رفيع، ونستطيع أن نلمس ذلك بوضوح في الآلات المشتركة بيننا وبين سائر البلدان، مثل الكمان؛ فالفارق هائل بين عازفينا والعازفين العالميين، وعلى من ينكر ذلك أن يستمع إلى تسجيلاتهم، فإنه سيدرك عندئذ قيمة فضيلة التواضع! هذا عن العزف المنفرد، أما العزف الجماعي في الفرق الكبيرة، فلا شك أن هذا الفن لا زال عندنا في مراحله الأولى، وليس لدينا إلا القليلون من نستطيع أن نطمئن إلى تخصصهم فيه بالقدر الكافي. وقد اعترف المسئولون عندنا بهذه الحقيقة لحسن الحظ، وشرعوا يسلكون الطريق الصحيح، طريق استقدام الخبراء من البلدان الأخرى ليعينونا فيما لا نحسن، وإيفاد البعثات إلى البلاد المتقدمة في هذا الميدان. «أما الأداء الصوتي فأمره أعجب»: إن الأصوات في الغناء الشائع بيننا محدودة إلى أقصى حد، ومن المؤسف حقا أن يصف الكثيرون منا الغناء الغربي مثلا بأنه «صراخ»، مع أن كل ما في الأمر من فارق هو أن هذا «الصراخ» يستنفد كل إمكانيات الحنجرة البشرية، ويصل بها إلى آفاق تعجز عن الوصول إليها الأصوات التي تردد أغانينا، والتي تكاد تنحصر كلها في طبقة «الكلام» المعتادة. ومعظم أصوات المغنين عندنا «ميكروفونية»؛ فليس فيها من القوة الطبيعية ما يمكنها من الوصول إلى الآذان إلا عن طريق مكبر الصوت. وأخيرا فالغناء عندنا ارتجالي إلى حد بعيد، مع أن الصوت البشري قابل للتدريب الذي يضفي عليه مزيدا من المرونة، بل القوة والامتداد، وهنا تعود ظاهرة الافتقار إلى الدراسة والعلم مرة أخرى إلى الظهور! ••• «ومشكلة الاستماع إلى الموسيقى» تستحق منا الانتباه بحق، فما حالتنا الذهنية حين نستمع إلى الموسيقى المصرية؟ إننا نستمع إليها ونحن نتسامر، أو خلال وجبات الطعام، أو قراءة الصحف، أو الحديث اليومي المتبادل ... فما دلالة ذلك؟ المعنى الوحيد الذي تفسر به هذه الظاهرة هو أن الفن الموسيقي لم يتغلغل فينا إلى الحد الذي يجعلنا نتفرغ له، ونتهيأ لتلقيه، فننصرف عن غيره من الشواغل. ولنا العذر في ذلك، فما بلغت الموسيقى التي نستمع إليها من العمق ما يجعلها جديرة بالاحترام والإنصات الخاشع، بل إن ضحالتها لا تترك لها في نفوسنا إلا مكانا ضئيلا، فلا تشغل من انتباهنا إلا قدرا، والقدر الباقي تشغله معها شئون الحياة اليومية المعتادة!
على أن الموسيقى قادرة بحق على أن تشغل كل انتباهنا، وتملأ كل فراغات أنفسنا لو قدمت إلينا في صورتها الكاملة. وإذن فالمستمع - المصري والشرقي بوجه عام - يفتقر إلى التجربة الموسيقية بكل أبعادها؛ أي إنه عاجز عن أن يتذوق فنا رفيعا تذوقا كاملا، وسيظل هذا الميدان الضخم مجهولا لديه حتى يقدم إليه الإنتاج الذي يدفعه إلى أن يحسن الاستماع إليه.
ولست ممن يحسنون كتابة الأوصاف الشعرية والتعبير عن تفصيلاتها. ولكني لا أتوانى عن القول بأن للموسيقى رسالة أخرى غير التسلية العابرة، وظيفة أخرى غير قتل الوقت، ومهمة أخرى غير الترويح عن النفس ... إنها فن كامل تفيد منه النفس، وتتلقى منه معرفة تضيء طريق حياتنا، وهو يثير فينا مشاعر أكمل وأوسع بكثير من شعور «الطرب» الرخيص. لكن هذه التجربة العميقة التي يحس المرء خلالها بالخشوع غريبة عنا تماما؛ إذ ترتبط الموسيقى في أذهاننا على الدوام بصورة الإنتاج الهزيل الذي يقدم إلينا، والذي يمارس في تجربة هزيلة مثله. •••
وبعد، فقد يبدو للقارئ أنني تحدثت عن حاضر الموسيقى لا عن مستقبلها، ولكن لا شك في أن كل بحث منطقي للمستقبل يجب أن يستمد من الحاضر لئلا يكون رجما بالغيب.
والكلمة التي ألخص فيها مستقبل الموسيقى في مصر، والتي يتوقف عليها هذا المستقبل بحق، هي «العلم». أجل، فلتكن دعوتنا من أجل وضع دعائم نهضة موسيقية في بلادنا، هي: المزيد من العلم! فبالعلم وحده يقضى على الأدعياء، وتختفي كل المهازل الفنية التي تشيع في موسيقانا، من سطو باسم الاقتباس، واستجداء لمعونة الغير باسم «التوزيع الموسيقي»، وجهل باسم «الفطرة السليمة» ... وبالعلم وحده يظهر العازف المجيد، والمغني البارع، ومن ثم المستمع الواعي.
إننا نعيش في عصر العلم، وهذا الحكم العام ينطبق على كل مجالات الحياة البشرية، والفن ليس استثناء من هذه القاعدة، بل لقد أصبح في أيامنا هذه أقوى دليل على صحتها.
الأساس العقلي للموسيقى الحديثة1
ليست الموسيقى، ولا يمكن أن تكون، نظاما صوريا تتوارثه الأجيال بلا تغيير ولا تبديل، بل هي تعبير عن ميل يتجدد بلا انقطاع، وإرادة تتطور دواما. وهي في هذا التطور تساير الروح البشرية في تقلباتها وتتمشى مع الاتجاه العام الذي تسير فيه الحضارة؛ فالتطابق بين الموسيقى الكلاسيكية والروح العقلية الأوروبية واضح كل الوضوح، وكذلك كان الاتجاه الرومانتيكي في الموسيقى صورة جزئية من روح رومانتيكية شاملة كانت تعبر عن ميل أساسي طغى على العقل الأوروبي في كل مظاهره، خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر.
فالتجديد إذن كامن في ماهية الموسيقى، والفنان الناجح هو الذي يتجاوب مع عصره ويأتي في إنتاجه بما يعبر عن روح ذلك العصر. ولقد كانت الأسماء الكبرى في تاريخ الموسيقى، مثل باخ وبيتهوفن وفاجنر، مرتبطة على الدوام بتجديدات معينة أتت بها، وبأساليب لم يألفها الفن من قبلهم، وبثورة ساخطة على القواعد الجامدة التي تسود في عهدهم. وإذا كنا اليوم نعد كلا من هؤلاء العباقرة «كلاسيكيا» فليس ذلك إلا لأن فنه قاوم فعل الزمان مدة طويلة، أما بالنسبة إلى عصورهم فقد كانوا جميعا من المجددين، بل كان الكثيرون منهم يعدون من الشواذ الذين لا يفهمون؛ فلكم اتهم بيتهوفن في عصره بالغموض والتعقيد، وخاصة منذ أتى بسيمفونيته الثالثة، ولكم لقي فاجنر من السخرية؛ ففي فضيحة «تانهويزر» في باريس عام 1860م ما يشعر بمدى سوء الفهم الذي يلقاه فنان كبير وسط جمهور قد يكون مثقفا ومهذبا.
والحق أن عنصر التجديد أساسي في تذوقنا الفني للموسيقى؛ فمن التجارب التي ألفناها جميعا، أن القطعة الواضحة التي نعجب بها منذ الوهلة الأولى، وندرك كل جوانبها دفعة واحدة، كثيرا ما تفقد هذا الجمال بعد أن يتكرر سماعها، وتصبح مملة ممجوجة. أما القطعة التي نجد في بعض عناصرها غموضا غير مألوف لدينا، فالغالب أنها تزداد جمالا بتكرار سماعها، وترتفع قيمتها في أعيننا كلما ازدادت عناصرها الغامضة اتضاحا. وهنا يكون في التجديد الذي يخرج - إلى حد ما - عن المألوف ما يعلو بالقيمة الفنية للإنتاج الموسيقي.
ولقد غدت الحاجة إلى الخروج عن القواعد الموسيقية المألوفة ماسة في أواخر القرن التاسع عشر؛ فقد اكتشف الفنانون في نهاية الأمر أن النظام الموسيقي الغربي، الذي يقتصر على اثنتي عشرة درجة، ضيق إلى حد يبعث على الاختناق؛ فلو تذكرنا أن كبار الموسيقيين، من بالسترينا إلى فاجنر، ومعهم المدارس الروسية والإسبانية والفرنسية المختلفة، لم يكن في متناول أيديهم جميعا، في اللحن وفي الهارموني، وفي الآلات المنفردة والفرقة الكاملة، في الأغاني والتراتيل، في الأوبرات والدرامات الغنائية؛ في كل هذا لم يكن في متناول أيديهم سوى اثنتي عشرة درجة موسيقية، عندئذ يتبين لنا أن من الصعب أن نكتب لحنا جديدا كل الجدة، وأن إمكانيات التوافق اللحني تضيق على الدوام - خاصة وأن هذه الدرجات الاثنتي عشرة لا تقف كلها على قدم المساواة، بل تفضل على الدوام سبع درجات منها، وتظل للباقيات أهمية ثانوية بالنسبة إليها. •••
هكذا كانت مشكلة الموسيقى في أواخر القرن التاسع عشر: لغة تشكو من قلة حروفها، صيغت بها كل المعاني التي يمكن أن تنطوي عليها تلك اللغة، وفنانون مخلصون لا يودون أن يكونوا من الأتباع المقلدين لهذا الفنان أو ذاك، بل يريدون البحث عن جديد، شأن كل فنان صادق؛ فكان المخرج الوحيد من هذه المشكلة هو التخلص من الفقر الشحيح الذي تتصف به مادة الموسيقى، وتوسيع نطاق تلك اللغة الضيقة النطاق، والقيام بانقلاب حاسم في القواعد والنظم الموسيقية. •••
ولقد وجد هؤلاء الفنانون الثائرون في أبحاث علم الأصوات ما يبرر دعوتهم إلى التجديد؛ فقد أثبت ذلك العلم بطريقة قاطعة أن النظام الحالي الذي تسير عليه الموسيقى ليس نظاما ثابتا تسير عليه الروح البشرية ضرورة، بل هو نظام عارض يتباين تبعا للبيئات والعصور. وهكذا يخرج عن قيود الأزلية ميدان جديد من ميادين الروح البشرية، وهو الموسيقى.
فلكل نظام موسيقي سلم معين، وهذا السلم هو الأصوات التي تثبت عندها الأذن بين مختلف الدرجات التي تتراوح بين نغمة معينة، ونفس النغمة في طبقة أعلى منها؛ أي الصوت كما يغنيه رجل وكما تغنيه امرأة مثلا؛ ففي كل هذه الأصوات التي تبلغ عددا هائلا، تقف الأذن عند أصوات معينة لتستطيع تمييزها مما يسبقها وما يليها، وتلك هي التي تكون السلم الموسيقي. ولذلك السلم في الموسيقى الغربية درجات سبع محدودة، وله في غير الموسيقى الغربية نظم أخرى متباينة كل التباين؛ فلكل من الموسيقى الشرقية والموسيقى الزنجية، والموسيقى اليونانية القديمة، سلالمها الخاصة. وإذن فالسلم الغربي الشائع ليس مبنيا على قوانين طبيعية ثابتة، وليس تعبيرا عن ميل غريزي، بل هو نتيجة مبادئ جمالية خاصة اتخذها نظام موسيقي معين.
ولقد اعتادت الموسيقى الكلاسيكية أن تسير على نظام خاص لا تحيد عنه؛ فالسلم العام ذو السبع درجات، تختلف أسماؤه تبعا لأسماء الدرجات التي يبدأ منها وينتهي عندها، وإن كان هذا الاختلاف في الأسماء لا يؤثر بطبيعة الحال على المسافات بين الدرجات، والقطعة الموسيقية كانت تبدأ من سلم معين، لنسمه سلم «دو» مثلا، وتنتهي بنفس السلم ضرورة. وإذا حادت عنه في الوسط فإنما تنتقل إلى سلالم معينة تربطها بالسلم الأصلي صلة قربى. أما الموسيقى الحديثة، فلم يعد لديها ذلك التجانس النغمي القديم، ولم تعد تطيق البقاء في سلم ذي إشارة واحدة، أو تنتقل إلى غيره بانتظام وتبعا لقواعد خاصة، بل أصبح «الابتكار» هو أن يتغير السلم تغيرا متخبطا؛ ففي كل فترة قصيرة بل في كل زمن وكل نغمة، تتغير إشارة السلم، ويسهل التجديد في هذه اللعبة المسلية الخطرة إلى غير حد.
والحال كذلك في الهارموني بين الأصوات الموسيقية المختلفة؛ فبينما كان الانسجام النغمي يسري قديما بين أصوات تنتمي إلى سلم ذي إشارة واحدة، أصبح الانسجام - إن كان لنا أن نظل نستخدم هذه الكلمة - يقوم بين أصوات تنتمي إلى سلالم مختلفة، بل حدث ما هو أغرب من ذلك؛ إذ أصبح الانسجام يقوم بين أعمدة مختلفة من الهارموني، كل عمود منها ينتهي إلى سلم معين، كأن يوضع عمود من سلم «صول» الكبير تحت آخر من سلم «دو» الكبير مثلا، وتستمر هذه العملية بين أكثر السلالم اختلافا، وعلى الأذن بعد هذا أن تحتمل.
وعلى حين كان الانسجام بين الأصوات في النظام الكلاسيكي يقوم بين أبعاد معينة من هذه الأصوات، بحيث يكفل التناغم بينها، أصبح على الموسيقى الحديثة أن تسعى إلى كشف مسافات جديدة بين أصوات الهارموني؛ فأصبح من المألوف أن يقوم الانسجام بين صوت والصوت التالي له مباشرة، بل بين أنصاف الأصوات بلا تحفظ. وحجة الموسيقيين المحدثين في ذلك أنه لما كان نظام الموسيقى بأسره مبنيا على الاثني عشر نصفا من الأصوات، فلا بد من استغراق كل هذه الأنصاف، أفقيا في اللحن ورأسيا في الهارموني، واستنفاد كل ما بينهما من إمكانيات، مهما كان الصوت النهائي غريبا غير مألوف للآذان. وبينما كان كل نشاز يحل إلى انسجام في الموسيقى التقليدية، أصبحت الموسيقى الحديثة لا ترى ضيرا في بقاء هذا النشاز على ما هو عليه دون التخلص مما ينطوي عليه من تنافر.
وأساس هذا الانقلاب في اللحن وفي الهارموني، هو التحديد الجديد لمسافات الأصوات الموسيقية، كما ظهر بوجه خاص عند «شونبرج»؛ فالمسافة بين النغمة الأساسية ومثيلتها في الطبقة التي تعلو عنها اثنا عشر نصفا من الأصوات، ويقوم السلم المألوف بضغط هذه الأصوات إلى سبعة، بحيث تكون المسافة بين خمسة منها صوتا كاملا، وبين اثنين منها نصف صوت. أما عند شونبرج، فالأصوات كلها تتساوى أهمية، وليس هناك داع لتخطي بعضها وإعطاء بعضها الآخر أهمية خاصة. ومن هنا كان سلمه مكونا من اثنتي عشرة درجة كلها من أنصاف الأصوات (أو التونات).
وبينما كان شونبرج يقوم بأكبر انقلاب في ميدان الهارموني بسلمه الجديد، لم تظهر لديه الرغبة في تجديد «قالب» الموسيقى؛ فلا زال لمقطوعاته نفس الإطار القديم، وعدد الحركات وترتيبها كما عرفته الموسيقى الكلاسيكية؛ فنظريته الجديدة لم تخلق التركيب الموسيقي الملائم لها. أما الموسيقي الذي أتى بأكبر انقلاب في ميدان الصورة، بجانب ما استحدثه من كشوف في مادة الموسيقى، فهو «سترافنسكي»؛ فقد تأمل النظام القديم الذي كان يسير عليه اللحن، وهو أن يستمر في جمل وأنصاف جمل موسيقية منتظمة، وينتهي بسكون كما تنتهي الكتابة إلى نقطة، وأدرك أن هذا التوقف النهائي والتوقف الجزئي المتوسط لا داعي له على الإطلاق؛ فليس هناك ما يدعو إلى أن يتخذ ختام اللحن شكل النقطة النهائية؛ لأن اللحن ليس جملة، بل هو خط ممتد لا يتطلب قاعدة معينة ينتهي على أساسها، وإنما يتوقف حيثما يشاء مزاج كاتبه. كذلك لم ير داعيا لالتزام ذلك النظام المطرد في الإيقاع، أو التقيد بنفس عدد الضربات داخل الحاجز الموسيقي الواحد، بل يمكننا بتنويع نظام الضربات أن ندفع الملل عن نفس السامعين، ونقدم إليهم إيقاعا يتجدد دواما. ومن هنا تنوعت الإشارات الدالة على الزمن داخل الحواجز المختلفة في كثير من مؤلفات ديبوسي وسترافنسكي، بل لم تعد بالموسيقى الحديثة إلى التقسيم على أساس الحواجز حاجة.
ولقد حاول بعض الموسيقيين أن يستحدثوا انقلابا أوسع نطاقا، بتقسيم السلم إلى أربع وعشرين درجة، كما هي الحال في كثير من السلالم الشرقية. وليس في هذا التقسيم الجديد أي خطر؛ إذ إن الأذن تستطيع أن تميز «ربع» الصوت بسهولة. وهكذا تصبح إمكانيات اللحن والهارموني لا متناهية في هذا النظام الجديد، ولكن ينقص هذا الانقلاب بناء نظام موسيقي كامل، وخاصة في ميدان الهارموني، يتناسب مع ذلك الميدان الجديد للموسيقى. ومن العقبات التي تعترضه كذلك ضرورة تعديل كثير من آلات الأوركسترا الغربية؛ فالبيانو والآلات الهوائية سيعدل تركيبها على هذا الأساس تعديلا أساسيا، وتختلف طريقة العزف عليها اختلافا تاما، ويبدأ الفنانون في كشف طرق جديدة تناسب النظام الذي ابتكروه. وليس كل هذا مستحيلا أو غير معقول، ولكنه سابق لأوانه إلى حد ما؛ إذ إن سلم شونبرج ذا الدرجات الاثنتي عشرة المتساوية، ما زال منطويا على إمكانيات عديدة لم نحقق منها بعد شيئا.
والنتيجة لهذا كله أن تنتج مادة صوتية خام قد لا يجد فيها كثير من المستمعين إلا صخبا وجلبة. غير أن الفنان المتحمس لها يرى فيها ارتيادا لمناطق مجهولة في ميدان الأصوات الموسيقية لم يكشفها أحد من قبل؛ فإذا أصررت على أن تستمع إلى الموسيقى من خلال علم النفس؛ أي من حيث هي معبرة عن مشاعر معينة، فلن تجد لتلك الموسيقى أي معنى. أما إذا شئت أن تستمع إلى موسيقى خالصة لا تهدف إلا إلى ذاتها، فستجد في ذلك الانقلاب الحديث خير ما يكفل لك هذه المتعة الجمالية الخالصة.
فالموسيقى الخالصة مقتصرة على ذاتها، بعيدة عن الإهابة بأي موضوع خارجي معين. وهي - إن شئنا أن نطلق عليها اسما فلسفيا - «موضوعية» تنظر إلى المعنى المادي أو العاطفي الذي يمكن أن تشير إليه الألحان نظرة محايدة. والواقع أن هذا الانقلاب إنما هو مثل من أمثلة ثورة الروح الحديثة على الخلط بين الفنون كما شاع في العصر الرومانتيكي؛ فقد أخذ كل فن يتجه إلى أن يصبح «خالصا»؛ أي مقتصرا على ذاته، منفصلا عن غيره من الفنون، لا يهيب بشيء؛ فأنت ترى اليوم شعرا خالصا، ورسما خالصا، وموسيقى خالصة (ومما له دلالته هنا أن سترافنسكي وبيكاسو قد أصبحا صديقين حميمين في النهاية، وأنهما تعاونا سويا في تأليف باليه راقص هو «بولتشينللو»)؛ فكل فن من هؤلاء يسعى إلى الاستقلال عن غيره، وإلى أن يتخذ له من ذاته وحدها غاية؛ أي إن الموسيقى لم تعد تسعى إلى أن تثير في ذهنك معاني شعرية، أو صورا مادية - ومن هنا كان عصر فاجنر وديبوسي يعد عتيقا بالنسبة إلى الفنانين المتطرفين في نزعتهم المحدثة، واستبعد تماما عنصر التعبير وإثارة المشاعر - وبعد أن كانت النغمة رمزا، وعلامة، وطريقة للتعبير مشحونة بمحتوى وصفي، أصبحت «نغمة» فحسب؛ أي مادة خالصة، ووجودا يكتفي بذاته ولا يشير إلى شيء. •••
فإذا انتقلنا إلى الجانب النقدي من هذا البحث، فلنؤكد أولا أن التجديد الموسيقي أمر لا مفر منه؛ إذ إن تقلب القواعد الموسيقية وتطورها في القرون الماضية خير شاهد على ذلك. والواقع أن مؤلفي الموسيقى في الفترة الأخيرة قد أحسوا بضيق نطاق قواعدهم القديمة إلى حد كان كفيلا بأن يبعث فيهم الجمود. والواقع أيضا أن كبار الموسيقيين كانوا دائما يخرجون عن القواعد المألوفة كلما واجهتهم مشكلة تعبيرية تعجز عن حلها القواعد؛ ففي الحركة الثانية من سيمفونية بيتهوفن الثالثة، وفي الحركة الرابعة لسيمفونية تشايكوفسكي السادسة، وفي مقدمات عديدة لفاجنر، مثل مقدمة «الهولندي الطائر»؛ في كل هذا كانت المعاني التي يعبر عنها المؤلف أوسع مما تحتمله القواعد الشائعة؛ ولهذا تجاوزوا تلك القواعد وتعدوها على نحو كان يبدو غريبا في أعين معاصريهم.
فمن مستلزمات الفن إذن، تلك الحرية والتلقائية التي تؤدي إلى التجديد. غير أن التجديد الذي لا يقصد منه شيء سوى الاختلاف عن كل ما عرف من قبل، ليس إلا شذوذا عقيما، ولو وجد فنان تبلغ أصالته وابتكاره حد الانفصال تماما عن التفاهم مع كل من يعيش معه، لما استحق منا تقديرا كبيرا. ومن هنا رأينا كبار الفنانين يبدءون بدراسة القواعد الموروثة في فنهم؛ إذ هي موجز لتجارب ذلك الفن الماضية، ولكنهم لا يدرسونها ليتقيدوا بها تقيدا حرفيا، وإنما لكي تتوافر لديهم القدرة على استعمالها استعمالا حرا مجددا. ومن هنا قيل إن المرء لا يدرس القواعد القديمة في الفن إلا ليتعلم كيف يخرج عنها. ولقد أكد شونبرج، وهو صاحب انقلاب من أكبر الانقلابات الموسيقية الحديثة، ضرورة مرور دارس الموسيقى بالتجارب الماضية، بحيث لا يتخلى عنها إلا تحت ضغط ينبع من باطن نفسه؛ فالحاجة إلى التجديد يجب أن تنشأ عن الشعور بعدم كفاية الصور القديمة، وعن كشف المرء في تاريخ تلك الصور عن ميل نحو وجهة جديدة يحاول هو تحقيقها وإبرازها إلى حيز الوجود؛ فدراسة الماضي إذن ضرورية؛ لأنها تكشف للمرء عن علاقات جديدة توحي لنا بالطريق الذي يجب أن نسير عليه في إعادة بناء تلك القواعد من جديد.
ولكن ما حدث في التطور الأخير للموسيقى هو أن يبحث بعض المؤلفين عن التجديد لذاته، وذلك في مذاهب مختلفة يعبرون عنها باسم «المدرسة المجددة» أو «المستقبلية»؛ فهنا يبعد الفنانون عن كل سابقة تاريخية في الفن، ظانين أن المثل الأعلى للفن هو التجديد بغير حدود. والواقع أنه إذا كان صحيحا أن كل عمل فني جميل يجب أن يتضمن شيئا من التجديد، فإن عكس هذه القضية، وهو أن كل جديد جميل، ليس صحيحا على الإطلاق؛ إذ إن السعي إلى الجدة لذاتها، في عمل لا شرط له إلا أن يكون مختلفا كل الاختلاف عما وجد من قبل، يؤدي بنا إلى إنتاج فني عقيم لا جدوى منه؛ فعلينا إذن ألا نثق بالانقلابات الفنية التي تزعم أنها تنكر الماضي كله دفعة واحدة؛ إذ إن تجديداتها ستكون عرضية زائلة، سرعان ما ينتهي عهدها بعد أن يتضح عجزها عن الاندماج في التطور التاريخي للموسيقى.
ومن ذلك النقد السابق يتفرع نقد آخر على جانب كبير من الأهمية؛ إذ إن سعي هؤلاء المحدثين إلى التجديد لذاته قد جعلهم ينحدرون إلى مستوى «المجربين» فحسب؛ فأعمالهم «تجارب» في عالم الموسيقى، يهدف كل منها إلى كشف عنصر صوتي لم يكشف من قبل. وهنا تتبدى لنا صفة أساسية في هذا النوع من التأليف الموسيقي، هو أنه يبدأ ب «نظرية». وأيا ما كانت فكرة المرء عن خلق العمل الفني، فسيسلم حتما بأن نقطة البداية في الإنتاج الفني هي عاطفة أو إحساس معين، لا نظرية عقلية - وهذه العاطفة تؤدي في كثير من الأحيان إلى التعبير عنها بقواعد تستخلص منها نظرية جديدة - أي إن النظرية نتيجة وليست سببا؛ فنقطة بداية الفنان «المستقبلي» إذن باطلة؛ إذ يبدأ بأن يقصد ابتداع أسلوب جديد، ولا يكون له من هدف سوى الجدة في الأسلوب، فيكون الدافع له في إنتاجه دافعا نظريا خالصا، وتختفي من عمله كل آثار الحساسية الفنية الشعورية. والواقع أن بدء الفنان بوضع منهج تجديدي معين، يعني سبق القواعد على الإلهام، ويعني - فوق ذلك - فهما سيئا لمهمة علم الجمال؛ فهنا يظن الفنان أن هدف ذلك العلم هو أن يرشد الخلق الفني مقدما؛ أي أن تسبق القيم الفنية عمل الفنان ذاته وتفرض عليه مقدما، بينما الواقع أن العمل الفني ذاته هو الذي يخلق تلك القيم خلال عملية الإبداع؛ فعلم الجمال لا يتحكم في مصير العمل الفني ولا يحدد اتجاهاته، بل هو لاحق لعملية الخلق مستمد منها. ولا شك في أن كل نظرية توضع مقدما، ويكون مكانها خارج تجربة الفعل الإبداعي ذاته، تعوق المسار الحر للفنان، ولا تمكنه من بلوغ القيم الأصلية التي تكمن فيه، والتي يتجه إليها تلقائيا. حقا إن الجمال علم معياري، ولكنه ليس معياريا بمعنى أنه يفرض قيم الجمال على الفنان ويوجهه مقدما، بل بمعنى تحليله وتقنينه لتلك القيم فحسب.
والواقع أن اتخاذ الفنان نقطة بدايته من نظرية معينة، يعني أن إعجابنا به عقلي محض؛ فعن طريق التحليل العقلي وحده نصل إلى تقدير من يأتي لنا بنظرية جديدة أو بكشف مبتكر في ميدان الموسيقى. ولكن الحقيقة أن هذا التقدير العقلي إنما يكون الأساس الخلفي للعمل الفني؛ لأن النظرية تمهيد للخلق الفني وليست أساسا لإعجابنا به. ولقد شبه أحد الكتاب الموسيقيين ذلك الاهتمام بالأساس العقلي للموسيقى بأنه أقرب ما يكون إلى اهتمام المرء - عند تأمله منظرا مسرحيا بديعا - بالأساس المادي الذي يجري وراء المسرح، بحيث يظل يفكر طوال الوقت في الأسلاك والأجهزة الكهربائية والحبال والأصوات المختلفة التي تدور خلف المسرح، وينتج عن تأثيرها هذا المنظر الذي يشاهده؛ فإعجابنا العقلي لا يجب أن يطغى بأي حال على تقديرنا النهائي للإنتاج الفني في صورته التامة؛ أي كما ينتقل إلى آذاننا على أكتاف النظرية العقلية الممهدة له.
ونتيجة ذلك أن أصبح كثير من موسيقيينا اليوم يفتقرون إلى العنصر الأساسي لكل إنتاج فني، وهو الإلهام. وأيا ما كانت نظريتك في تفسير الإبداع الفني فستعترف - ولا شك - بأهمية هذا العنصر الغامض الذي لا نملك عنه إلا تعبيرات شعرية غير دقيقة. هذا العنصر كان دائما القوة الأولى الدافعة لكبار الموسيقيين؛ فعلى الرغم مما كان يجده فنان مثل بيتهوفن من عناء في الخروج بألحانه إلى الصورة التي نلمسها، وعلى الرغم من طول الوقت الذي كان يستغرقه تأليف سيمفونية عند برامز، على الرغم من ذلك فإن هذا العناء كان، في أغلب الأحيان، راجعا إلى صقل القطعة وتهذيبها، وإلى إخراجها على الصورة النهائية التي تصل بها إلى آذاننا، أما التيار الأصلي لها، والاتجاهات الأولى للحن، فغالبا ما كانت تصدر مستقلة عن كل نظرية سابقة عن طريق مفاجئ هو الذي اصطلحنا على تسميته بالإلهام.
وتكاد هذه الطريقة في التأليف الموسيقي تقرب من الاختفاء اليوم؛ فالمؤلفون الموسيقيون يقصرون همهم على الوسائل، لا على الغايات - وهدف كل منهم هو أن يبحث عن مادة صوتية موسيقية جديدة، دون أن يفكر في كيفية الاستفادة من المواد الهائلة التي توافرت للموسيقى الحديثة بعد كشوفها الأخيرة.
ولقد أدى هذا الاهتمام المفرط بالوسائل إلى أن غابت عن أذهاننا فكرة المعنى النهائي للإنتاج الموسيقي؛ ففي إزالة شونبرج لكل حاجز بين أنصاف الأصوات، اختفى العنصر الذي يضفي «النور» على القطعة الموسيقية؛ فحين تصبح درجات السلم كلها متساوية الأهمية، تكتسي كل أصواتها لونا باهتا غامضا لا يميز بين الواحدة منها والأخرى؛ فأساس التنوع في ألوان الموسيقى السائدة في القرن التاسع عشر، هو اتباعها نظام سلم تتفاوت درجاته أهمية، مما يؤدي إلى أن تتخذ حركة كل قطعة معنى معينا يمكن تغييره كما يشاء خيال الفنان. والواقع أن مساواة شونبرج بين الأصوات الكروماتيكية كلها، يذكرنا بفكر مثل فكر برجسون؛ إذ يرفض الموسيقي تقييد حركة التحول الموسيقية الحرة في مقولات أو صور أولية سابقة، تفرض على التدرج النغمي وتتحكم فيه؛ ففي تلك الموسيقى تحول دائم لا يعوقه العقل في شيء. غير أنه إذا كانت هذه الصيرورة المستمرة جائزة في ميدان التفكير الفلسفي، فهي في ميدان الموسيقى تغيير خطير للعناصر الأساسية في لغتها، وإبدال حروف جديدة بحروفها المألوفة، وإن كنا لا نعلم يقينا ما إذا كان التأثير الصوتي لمجموعات هذه الحروف الجديدة يؤدي إلى جمل موسيقية أعمق في معناها من الجمل القديمة أم لا. وعلى أي حال فالموسيقى الحديثة - باعتراف مبدعيها - لا تعبيرية، فإن ظل المرء يسعى إلى أنغام ذات محتوى نفسي معين، فلن يجد في تلك الموسيقى شيئا، وإنما عليه أن يحصر إعجابه الفني بها في نطاق نغمي خالص لا تشوبه أية شائبة نفسية. والنتيجة المباشرة لهذا أن تصبح الموسيقى ضجة مسلية، فيها توثب وحياة، ولكنها لا تعبر عن شيء. وهذا هو حقا ما تشعر به وأنت تسمع كثيرا من قطع سترافنسكي مثلا؛ فهي أشبه بالطبيعة في سذاجتها السعيدة، وفي عدم اكتراثها كل معنى ومدلول يضفيه عليها عقل الإنسان؛ ومن هنا سميت قطعة مثل «طقوس الربيع»، باسم «مزامير الأرض »، وليس في هذا ضير على تقديرنا لمثل هذه الموسيقى، غير أن ما يهمنا هنا هو أن دلالة الفن الموسيقي قد اختلفت، وأصبح التعبير عنصرا غريبا عنه لتحل محله كشوف تنتمي - قبل كل شيء - إلى مجال الصوت الخالص.
ولسنا نود أن نطيل في وصف مظاهر استغلال هذا الانقلاب الموسيقي استغلالا سيئا، وإنما يكفينا أن نشير إلى ما شاع في الموسيقى الحديثة من العودة إلى الإيقاعات البدائية وإلى سيادة آلات الدق والطبول على حساب بقية الآلات، إلى ما عمد إليه الأمريكيون من الإفراط في الغرابة والشذوذ، كأن يؤلفوا «كنشرتو» للآلة الكاتبة مع الأوركسترا، وقطعا موسيقية تطلق في وسطها طلقات نارية، أو تأليف قطع راقصة آلية، تؤديها الآلات الحالية عن طريق الكهرباء لا عن طريق العزف الإنساني عليها. ونحن هنا لا نرمي إلى الحط من قدر الموسيقى البدائية لذاتها، بل نكتفي بالإشارة إلى أنها وضعت في مجتمع معين لأجل ذلك المجتمع ذاته، وإلى أن إنكار التقدم الفني خلال عشرات القرون والعودة إلى حالة بدائية أمر لا مبرر له على الإطلاق بعد تطور الذوق الموسيقي كل هذا التطور. أما العزف الآلي فتجربة ثبت إخفاقها؛ إذ إن كل ما وصلت إليه الآلة هو أن تحفظ فن الإنسان وتسجله، كما في الأسطوانات الموسيقية، أما أن تحل محل الإنسان في العزف، فهذا ما يؤدي بالفعل إلى تدهور لا إلى تقدم؛ فالموسيقى، قبل كل شيء، حديث إنسان لإنسان.
كذلك أود أن أشير من بعيد إلى ما أدت إليه الموسيقى الحديثة من تعقيد متكلف؛ ففي بعض موسيقيي اليوم نزعة إلى التعقيد لذاته، يخفون بها عجزهم عن الابتداع والابتكار، ويغرقون السمع في خضم من التركيبات العويصة، حتى لا يكشف افتقارهم إلى الهدف الصحيح؛ ففي هذا الغموض المتعمد يعجز المرء عن الحكم على العمل الفني حكما صادقا وسط تعقيد الأداء، وما على المؤلف إلا أن يضيف إلى تيارات الموسيقى طبقات أخرى عديدة، ويأتي بما يخرج عن المألوف في الهارموني، ليشغل السامع بغموض القواعد عن تقدير قيمة عمله الفني كاملا. •••
ولهذا البحث هدف لا بد من إيضاحه بعد عرض مظاهر الانقلاب الموسيقي، هو عدم إمكان الحكم على ذلك الانقلاب على نحو نهائي ثابت؛ ففي التجديدات الموسيقية الجزئية السابقة، كنا ننعت من يتمسك بالقديم وينكر الكشوف الجديدة بالتحجر والجمود؛ لعجزه عن مسايرة التطور. أما في هذا الانقلاب الحديث الشامل، فليس لنا أن نصف بالعجز من لم يتابعه؛ إذ إن من صفات الانقلابات التي يمكن متابعتها، أن تتدرج على نحو معقول. وليست الثورة الفنية كالثورة السياسية تشتعل فجأة (وإن كان لهذه الأخيرة ذاتها مقدماتها البعيدة في كل الأحوال)، بل تتغير القواعد تدريجيا كلما تهيأت لها الأذهان. وقد نصف الانقلاب الموسيقي الحديث بأنه مفاجئ وعنيف، وبأن المقدمات السابقة عليه لم تمهد له تمهيدا كافيا؛ فإذا شئنا أن نتجاوز عن هذا القدر من المفاجأة، ونحاول مسايرة ذلك الانقلاب، فليس لنا، مع هذا، أن نلوم من لم يتابعه بنفس سرعته. وتلك صفة يتميز بها التطور الأخير وحده للموسيقى. أما التطورات السابقة فكانت كما قلنا، متدرجة لا عذر لمن لم يسايرها.
وأخيرا، فقد يلمس المرء هنا قدرا من عدم الرضا عن بعض الاتجاهات المتطرفة في الموسيقى الحديثة، ويتساءل: ما الحل إذن؟ الواقع أن فترة الانقلاب العنيف يجب أن تنتهي؛ فقد فتحت أمامنا الآفاق الجديدة، ولم يستغل الموسيقيون بعد كل إمكانياتها حتى يحاولوا تجاوزها. ومهمة الموسيقى الآن هي أن تقوم بعملية أغفلها ذلك الانقلاب عامدا، وهي إدماج الكشوف الجديدة في التراث القديم؛ فقد اكتفينا بما اكتشفناه، وأصبح علينا أن نجني ثمار هذه الكشوف بقدر طاقتنا، ونقوم بعملية تمثيل تهضم تلك المادة الجديدة وتدمجها بكياننا الموسيقي الكامل. وهنا نرى أنفسنا نسير في اتجاه مماثل لذلك الاتجاه المجيد الذي سار فيه من قبل أقطاب الموسيقى الكلاسيكية، ولكن مع سعة في المادة التي أصبحت في متناول أيدينا. وهنا أيضا نجد أسماء وضاءة لامعة تنير لنا الطريق الذي يجب أن نسير فيه: أسماء ديبوسي ورخمانينوف وسيبيليوس وبروكوفييف وشوستاكوفتش، الذين عرفوا كيف يمزجون كشوفهم بالتقاليد النافعة الماضية، ويقدمون إلى العالم فنا مبتكرا لا ينفصل عن التطور الموسيقي الغابر.
محنة الموسيقى الغربية المعاصرة1
ما زالت الأعمال الموسيقية الكبرى الماضية تحتل الجزء الأكبر من برامج الحفلات الموسيقية الغربية، ويتكرر عزفها إلى الحد الذي يؤدي إلى الإضرار بها أحيانا. ولكن إذا شكا المستمع من هذا التكرار، فلن يجد في الموسيقى المعاصرة ما يحل محل الأعمال الماضية المجيدة. وهكذا يظل المستمع في معظم الأحيان مفتقرا إلى شيء يجمع بين صفتي الجدة والجودة معا، ويتعين عليه أن يقوم باختيار غير حر يضطر فيه آسفا إلى التضحية بإحدى هاتين الصفتين.
ذلك لأن الموسيقى الغربية المعاصرة التي تقدم إلى المستمعين على أنها مجددة، لا معنى لها، في معظم الأحيان، بالنسبة إلى المستمعين الذين توجه إليهم هذه الموسيقى. والذي يحدث عادة هو أن هؤلاء يصفقون لها بعد انتهائها في أدب، ولكن سرعان ما ينسون عنها كل شيء، ولا يبقى في أذهانهم عنها إلا ما تردده فئة قليلة من دعاتها المتحمسين، الذين لا يفلحون أبدا في إقناع الأغلبية الساحقة بوجهة نظرهم. وعلى قدر ما يزداد اليوم عدد أولئك الذين يشتغلون بالتأليف الموسيقي، وتسود مئات الألوف من الصفحات ذات الأسطر الخماسية، فإن الإنتاج نفسه هزيل، وتكون نتيجة هذا الانتشار الكمي انحدارا كيفيا يبدو أمرا لا مفر منه.
فما هي علة هذا الوضع السائد في الموسيقى المعاصرة؟ إن السبب الأول هو تزايد انعزال الموسيقي «المجدد» عن الجمهور؛ فالمجددون، من أصحاب التجارب والمغامرات غير المألوفة في عالم النغم، يشعرون - صوابا أو خطأ - بأنهم أقلية مضطهدة في مجتمع لا يقدرهم، وينطقون لغة لا تتذوقها آذان مستمعيهم، حتى المثقفين منهم. وكلما اشتد لديهم هذا الشعور بالاضطهاد، دفعهم إلى المزيد من الإغراب في التأليف، ظانين أن افتقار الناس إلى فهم أعمالهم دليل على عظمة هذه الأعمال؛ إذ إن كبار الفنانين في الماضي كانوا، حسب اعتقادهم، لا يلقون عادة من الجمهور إلا التجاهل (وهي قضية باطلة)، على حين أن الأجيال المقبلة هي وحدها التي ستقدر هؤلاء المجددين حق قدرهم (وهو أمر بعيد الاحتمال).
وربما كان من أسباب هذا التباعد بين الموسيقي المعاصر وبين جمهوره، تلك النظرة التقديسية التي ينظر الناس بها إلى النواحي الفنية أو التكنيكية في العمل الموسيقي، وهي نواح تبدو سرا غامضا لا يتقنه إلا أربابه. وهكذا ترى المثقفين أنفسهم لا يعلمون أن هذه النواحي التكنيكية يمكن أن تلقن لأي شخص يبدي الاهتمام والاجتهاد الكافي، وأن تعلمها أسهل قطعا من تعلم الرياضيات، ولا يقل سهولة عن تعلم قواعد النحو. وهذا أمر يضفي على مهنة التأليف الموسيقي هالة من القداسة ترفعها فوق مستوى النقد. وعلى حين أن التجديد في ميدان الأدب أمر لا يصعب على المثقفين عامة تقديره، فإن التجديد في ميدان التأليف الموسيقي أمر يشعر معظم المثقفين بنوع من العجز إزاءه، ولا يدعون لأنفسهم القدرة على الحكم عليه. وهكذا ينظر إلى المؤلفين الموسيقيين مهما فعلوا - نظرة فيها شيء من القداسة، ويستغل هؤلاء هذا الموقف فيجعلون من أنفسهم ما يشبه جماعة سرية لا تحرص إلا على الاحتفاظ بمركزها الخاص، دون أن تعبأ على الإطلاق بتقديم شيء له قيمة لبقية البشر.
وهكذا أصبح المؤلف الموسيقي المعاصر يحس بقدر من الحرية يتيح له إلغاء كل القواعد التقليدية لمهنته، ووضع قواعد لنفسه بنفسه، وهو يرفض أن يدخل في منافسة مع كبار الفنانين السابقين، بل إنه يقضي جزءا كبيرا من حياته محاولا إقناع الآخرين بأن هؤلاء الأخيرين لا يستحقون ما نالوه من الشهرة، أو أن شهرتهم ينبغي أن تسري على عصورهم وحدها، لا على عصرنا نحن. أما المستمع السيئ الحظ، فعليه أن يقبل هذه الأحكام صاغرا؛ إذ إن ذلك الذي يصدرها ينطق لغة تعلو على فهمه؛ فإذا ما شاء المستمع أن يثبت أنه من المثقفين حقا، أو أنه من «الطليعة»، فعليه أن يستمع بخشوع، ويصفق بحماسة سواء أكان يفهم أم لا يفهم، وعليه أن يكتم آراءه الحقيقية ولا يسر بها إلى أحد، حتى لا يتهم بالجهل والتخلف. ونتيجة هذا كله أن الموسيقى الغربية المعاصرة تمر بفترة حالكة الظلام في تاريخها، فترة مليئة بالأقزام حافلة بالتفاهة، حتى ليبلغ التشاؤم عند المرء حدا يتوهم معه أحيانا أن عهد العمالقة قد انتهى إلى غير رجعة، وأن الموسيقى نفسها، بوصفها سيدة الفنون، توشك أن تنزل عن عرشها الرفيع في ذلك المجتمع.
ومن المعروف أن الموسيقي الألماني «أرنولد شونبرج» هو الذي فتح باب تلك الاتجاهات التي تعد الموسيقى المعاصرة امتدادا لها، وربما لم يكن العالم في ذلك الوقت يدرك تماما مدى خطورة الاتجاه الذي بدأه شونبرج؛ فقد كان يعاصره مجموعة من أواخر الشخصيات الضخمة التي جمعت بين التجديد واحترام التقاليد، مثل ريشارد شتراوس، وسيبيليوس، ومالر، وبوتشيني، ومع ذلك فسرعان ما تعلق بشونبرج عدد من صغار المؤلفين الموسيقيين، الذين رأوا في نظرياته الجديدة بشائر المستقبل في الفن الموسيقي، فشجعه ذلك على المضي في اتجاهه الجديد، ووضع تفاصيل نظامه الانقلابي في الموسيقى. وهكذا ظهرت «الطريقة الاثنا عشرية»، أو طريقة «الصف النغمي» أو «الطريقة التسلسلية». كان هذا الانقلاب يعني القضاء على اللحن النغمي بصفاته ومسافاته المعروفة (ومن هنا سمي أيضا بالنظام اللانغمي)، مع أن الموسيقى بمعناها الكلاسيكي إنما بنيت على هذا التمييز.
ومن المؤكد أن من أسباب ترحيب الموسيقيين بهذا الاتجاه الجديد، أنه ألغى أيضا الحد الفاصل بين العبقرية والتفاهة؛ فحين يصبح التأليف الموسيقي دراسة تجريبية أشبه بالتفاعلات الكيميائية التي تتم في أنابيب الاختبار، فعندئذ يستطيع الفنان القزم أن يتوارى خلف ستار «التجديد»، ويداري هزاله بالدخول في سباق مع «الطليعة» من الفنانين المخالفين من أمثاله، وهو سباق يتفوق فيه أشدهم إغرابا، مهما كانت القيمة الذاتية لأعماله. وهكذا لم يكن النظام الجديد يقتضي موهبة أو عبقرية، بل كان يسفر عن نواتج لا لون لها ولا طعم ولا قوام، نواتج لا يستطيع السامع إليها - إذا استخدم ذوقه وحده - أن يحدد إن كان مؤلفها يصلح موسيقيا أم يصلح حدادا!
ووجد النظام الجديد أنصارا متحمسين له، كان لبعضهم شخصيته المستقلة، مثل «أنتون فيبرن» و«ألبان برج» و«باول هندمت» و«بيلا بارتوك»، غير أن هذه الشخصيات الهامة كانت تتميز بعدم التزامها النظام الجديد على الدوام؛ فهم لم يكونوا أتباعا مخلصين تماما للنظام اللانغمي في التأليف . ولكن الغالبية الكبرى من أنصار هذا النظام الجديد كانوا أولئك الذين وجدوه أسهل وأيسر، واتخذوا منه ملجأ يلوذون به من ضعفهم وافتقارهم إلى الموهبة.
وظهرت في فرنسا مجموعة أخرى من الموسيقيين الذين أحرزوا شهرة دولية كبيرة، والذين كان كل همهم هو تحطيم التراث الألماني والإيطالي في التأليف الموسيقي، وهو تراث ندين له بأعمال رائعة ستظل لها قيمتها الباقية. وقد اشتهرت من هؤلاء الموسيقيين فئة أطلق عليها اسم «الستة»، أبرزهم «داريوس ميلو» و«هونيجر» و«بولانك»، وانضم إليهم، في باريس، المهاجر الروسي الكبير «إيجور سترافنسكي». وكان هدف هذا الاتجاه هو القضاء على كل بقايا العصر الرومانتيكي، والتخلص بأي ثمن من تأثير ريشارد فاجنر، الذي كانوا يعدونه عدوهم الكبر. ووجد هؤلاء كتابا يتحدثون باسمهم، منهم «أندريه جيد» و«جان كوكتو»، اللذان عدا نفسيهما داعيين أدبيين للاتجاه الفرنسي الجديد في الموسيقى. ولكن لنسأل أنفسنا: ما الذي تبقى لمؤلفات هؤلاء «الستة» من قيمة في يومنا هذا؟ لقد كانت هذه المؤلفات عصرية حقا في وقتها، ولكن هل بقي منها اليوم شيء يستحق الذكر؟ إن العالم قد أوشك على نسيانهم وهم أحياء، فهل ستذكر لهم الأجيال التالية شيئا؟
أما إيجور سترافنسكي فهو شخصية ضخمة تقف بمعزل عن الباقين. وهو أستاذ لا شك في فنه، غير أن لديه قدرة زئبقية على التقلب مع كل أسلوب جديد، وعلى تغيير جلده كلما اقتضى ذوق العصر لونا جديدا. على أن أعظم أعماله، في رأي الكثير من النقاد، هي تلك التي تمت قبل أخذه بالطريقة التسلسلية في التأليف، حتى ليرى البعض أن دوره في تاريخ الموسيقى قد توقف عند الأعوام العشرين الأول من هذا القرن، رغم أنه ما زال حيا إلى اليوم.
فإلى أين يؤدي بنا هذا كله؟ الأمر الذي لا شك فيه أن تغيير الأسلوب من أجل التغيير فحسب إنما هو هدف عقيم لا جدوى منه، فضلا عن أنه يبعث الملل السريع في النفوس، وأكبر آفة يمكن أن تصاب بها الموسيقى هي أن تغدو مملة.
ولقد حاول البعض تبرير هذه الموسيقى بأنها «تجريبية وتقدمية»، وهما لفظان لهما وقع واحترام خاص في النفوس، ولكن إذا كانت التجريبية صفة مستحبة في العلم، وكانت التقدمية صفة مرغوبة في السياسة، فليس معنى ذلك أن الصفتين مطلوبتان دائما في الفن؛ فالأدب مثلا - مع كل ما طرأ على مدارسه من تغير - لم يحدث انقلابا في أداته، وهي اللغة، بنفس المعنى الذي تعد فيه الموسيقى المعاصرة انقلابية؛ إذ إن طريقة السرد قد لا تختلف في كتاب أدبي حديث عما كانت عليه أيام اليونانيين، هذا إذا استثنينا بعض اتجاهات «الطليعة» التي لا تلقى اهتماما من النقاد، والتي لا تكون المجرى الرئيسي للأدب المعاصر على الإطلاق؛ فالأدب، في عمومه، ما زال فنا صحيحا، سليما، لا يقتصر على نقل تجديدات في «الصنعة» إلى القراء، وإنما ينقل معاني عميقة إلى جمهور كبير يقدره ويعرف كيف يستوعبه ويتذوقه. ورغم أن أداته، وهي اللغة، قديمة قدم الإنسانية، وتراثها لا يتغير إلا ببطء شديد، فإن الأدب يشق طريقه بنجاح دون حاجة إلى انقلابات أو إلى «تجارب». وللموسيقى أيضا تراثها، ولغتها الخاصة التي يمكن أن تؤدي نفس وظيفة اللغة في الأدب. ورغم كل ما يبذل من محاولات للقضاء على هذا التراث، فقد أخذ الفنانون يزدادون إدراكا لهذه الحقيقة الهامة، وهي أن من الخطأ القول بوجود طريقة جديدة تماما لكتابة الموسيقى، بل إن عددا من أكبر الموسيقيين العالميين في الوقت الحاضر يشغلون أنفسهم بمحاولة إعادة كشف هذا التراث، ويلقون من جماهيرهم استجابة صادقة لجهودهم هذه. هؤلاء الموسيقيون لا يخشون منافسة التراث الماضي، ولا يحجمون عن تأليف موسيقي يقبل المقارنة مع الأعمال الكبرى في هذا التراث.
ومن الحقائق المعروفة أن العدد الأكبر من هؤلاء الموسيقيين الذين لا يخجلون من الاحتفاظ بكل ما هو سليم في التراث الموسيقي السابق؛ يتألف من تلك المجموعة الهامة من الموسيقيين الروس المعاصرين: شوستاكوفتش، وخاتشاتوريان، وكاباليفسكي، وبروكوفييف. ومن المعروف أيضا أن كثيرا من النقاد ينسبون التزام هؤلاء الموسيقيين جزئيا للتراث إلى نوع من الرقابة السياسية التي يقال إنها مفروضة عليهم، والتي تحارب بشدة إدخال التجديدات التجريدية المتطرفة في مجال الموسيقى. ومع ذلك فمن الواجب أن نلاحظ في هذا الصدد أمورا ثلاثة:
الأول:
أن عددا من أكبر الموسيقيين العالميين، في العالم الغربي، لا يؤمن بالتجديدات المتطرفة ويحاربها بقوة وعن وعي، ويمتنع عمدا عن عزفها في كل حفل يشرف عليه، ولا يكف في كل مناسبة عن الحملة عليها ووصفها بأنها دجل واحتيال. ويكفينا أن نذكر في هذا الصدد اسمي «بابلو كازالس» و«برونوفالتر» (قبل وفاة هذا الأخير)، لندرك أن لهذا الرأي أنصارا بين عمالقة الفن المعاصر. هؤلاء الفنانون يقومون، كل في مجاله الخاص، بنوع من الرقابة الفنية لا يختلف كثيرا عن تلك التي تمارس ضد التجديد المتطرف في بعض البلدان، ومع ذلك فإن أحدا لا يشك في إخلاصهم للفن ومناصرتهم لحرية الفنان.
والأمر الثاني:
أن الموسيقى «المباحة» في هذه الحالة ليست تقليدية على الإطلاق؛ ففيها عناصر تجديدية لا شك فيها، وهي قطعا تختلف اختلافا كبيرا عن الموسيقى الرومانتيكية التي شاعت في القرن التاسع عشر وامتدت، في حالات قليلة، إلى أوائل القرن العشرين. وبعبارة أخرى فالتجديد هنا لا يحارب لذاته، وإنما يرحب به إذا امتزج بالتراث الموسيقي الأصيل ليكون معه مركبا ذا معنى ... أما إذا أصبح غاية في ذاته، وإذا تحول إلى تجارب صوتية لا يقصد منها إلا صك الآذان بكل ما هو غريب من الأصوات، فعندئذ يصبح الاعتراف به أمرا يثير الشك والتساؤل.
وأخيرا:
فالعبرة، كما يقولون، بالنتيجة. والنتيجة في حالة ترك الحبل على الغارب هي التخبط والتدهور والأصوات المنكرة، وفي حالة وضع بعض الحدود والقيود على الجموح المتطرف هي التقدم الذي لا ينكره أي شخص له قدر من الثقافة الموسيقية في العالم بأسره.
ولعل هذا كفيل بأن يثير في الأذهان الحاجة إلى تعديل بعض المفهومات الشائعة لمعاني الحرية والتقييد في الفن، عندما يثبت عمليا أن الحرية قد أدت إلى التدهور. وإذا كان من المسلم به أن التقييد، عندما يتطرف، يصل إلى حد خنق الفنان، وبذلك تكون له مساوئه المؤكدة، فإن المسألة التي تؤدي محنة الموسيقى الغربية المعاصرة إلى إثارتها بكل وضوح، هي أن الحرية المتطرفة قد تكون لها مساوئها أيضا - وهذه مسألة تعد هذه المحنة ذاتها مظهرا عمليا ملموسا لها.
موسيقى وآلات وضجيج1
كلنا نعرف أن الواسطة التي تستخدم في نقل الأنغام الموسيقية إلى آذان السامعين تسمى «آلة»، وأن الفرقة الموسيقية تضم عددا يقل أو يكثر من «الآلات» التي يؤدي كل منها دورا معينا في عملية النقل هذه. ومع ذلك فقد كنا، في لغتنا العربية غير موفقين على الإطلاق في اختيار اسم «الآلة» للدلالة على هذه الواسطة الموسيقية، وكان الناطقون باللغات الأجنبية أدق منا كثيرا حين عبروا عن هذا المعنى بلفظ تترجمه كلمة «الأدوات» الموسيقية؛ ذلك لأن الآلة هي قبل كل شيء جهاز أو نظام لديه القدرة على أداء وظيفته على نحو تلقائي إلى حد ما. وأهم ما يميز الآلة من الأداة أن الأولى مستقلة عن الإنسان، بينما الثانية امتداد طبيعي لقواه وقدراته الخاصة. صحيح أن استقلال الآلة عن الإنسان لا يمكن أن يكون تاما؛ لأن أدق الآلات الإلكترونية ما زالت تعتمد في إدارتها وتوجيهها على الإنسان، ومع ذلك فإن لدى الآلة قدرة ذاتية على أداء وظيفتها والسير في عملياتها بأدنى حد ممكن من تدخل الإنسان. ومن هنا كان من الخطأ الشديد استخدام اسم «الآلة» للدلالة على الواسطة الموسيقية؛ إذ إن ما نسميه بالآلة الموسيقية ليس في واقع الأمر إلا أداة تطيع الإنسان كأحسن ما تكون الطاعة، ولا تملك في ذاتها من حول ولا قوة إلا بما تمليه عليها أصابع الفنان الماهر من أوامر - صادرة بدورها عن حسه وذوقه المرهف - تلبيها «الآلة» طائعة مختارة.
وإذن فنحن حين نتحدث عن صلة الموسيقى بالآلة، لا نقصد صلتها بتلك الواسطة أو الأداة التي تحركها أنامل الإنسان كيفما شاءت، وإنما نقصد صلتها بالآلة بمعناها الصحيح؛ أعني تلك «الماكينة» الخرساء التي تملك القدرة على أداء أعمالها بنفسها مستقلة - بدرجات متفاوتة - عن الإنسان.
إننا نعيش دون شك في عصر الآلة، بل إن عصر الآلة ليرجع، على أقل تقدير، إلى أكثر من قرنين من الزمان؛ فلماذا لم يبدأ تأثير هذه النزعة الآلية في الظهور بصورة واضحة إلا في القرن العشرين، مع أن عصر الصناعة نفسه، وعصر سيادة النزعة الآلية قد بدأ منذ أواسط القرن الثامن عشر على الأقل؟ قد لا يرى البعض في هذا الفارق الزمني إلا مظهرا من مظاهر تأخر الظواهر الحضارية في الاستجابة للتغيرات الاقتصادية والتكنولوجية. ولكن حقيقة الأمر هي أن التعقيدات الآلية الكفيلة بالتأثير في فن كالموسيقى وكذلك الظروف الاقتصادية والاجتماعية والنفسية التي مهدت الأذهان لقبول أشد التجديدات تطرفا، لم تظهر بوضوح إلا في القرن العشرين. وهذا هو السبب الحقيقي لذلك التأخر الظاهري في استجابة الموسيقى لنداء الآلية، ذلك النداء الذي سبقتها في الاستجابة إليه كثير من علوم الإنسان وفنونه.
ففي تلك الفترة الغريبة من فترات تاريخ الفن؛ أعني في الربع الأول من القرن العشرين، ظهرت أول دعوة إلى صبغ الفن الموسيقي بصبغة متأثرة بالنزعة الآلية. وكان على رأس أصحاب هذه الدعوة جماعة أطلقت على نفسها اسم «جماعة المستقبليين» في إيطاليا، وأبرزهم «لويجى روسولو» و«باليلا براتيلا»؛ ففي عام 1913م بعث الأول إلى الثاني برسالة حوت خلاصة آرائه، وعدت وثيقة لهذه المدرسة الفنية، حتى سميت ب «بيان المستقبليين»؛ في هذه الرسالة قال روسولو: «لقد ولد الضجيج في القرن التاسع عشر، باختراع الآلات. واليوم أصبح الضجيج ظافرا، وكتبت له السيادة على حواس الإنسان ... فنحن نزداد اقترابا بالتدريج من موسيقى الضجيج ... وعلينا أن نحرر أنفسنا من ربقة هذه الحلقة الضيقة من الأصوات الموسيقية الخالصة، وأن نغزو تلك الأرض المترامية الأطراف إلى ما لا نهاية، أرض الأصوات ذات الضجيج.»
وختم روسولو بيانه بقوله: «على موسيقيي المستقبل أن يوسعوا على الدوام ميدان الصوت ويزيدوه ثراء ... فلنطلب إلى موسيقيينا الشبان، ممن يتصفون بالجرأة والعبقرية، أن يصغوا بانتباه إلى كل أنواع الضجيج؛ حتى يمكنهم أن يدركوا الإيقاعات المتنوعة التي تتألف منها، ويميزوا بين أنغامها الرئيسية والثانوية ... ولقد كان اقتناعي بأن الجرأة تجعل كل شيء مشروعا وممكنا، هو الذي دفعني إلى تصور ذلك التجديد الهائل للموسيقى، عن طريق فن الضجيج.»
مثل هذه الأفكار قد تبدو جنونا مطبقا، وهي بالفعل كانت كذلك في نظر الكثيرين، بدليل أن استقبال جمهور باريس لحفلات هؤلاء «المستقبليين» الموسيقية بما فيها من قرقعات وصدمات وهمسات وصرخات، بلغ من العداء حدا اضطر معه «المجددون» الإيطاليون إلى تقسيم أنفسهم فريقين: فريق يواصل أداءه على المسرح، والآخر يصد هجمات الجمهور الساخط ويشتبك معه في معارك حدثت فيها بالفعل بعض الإصابات!
غير أن هذه الاتجاهات تؤخذ في كثير من الأحيان مأخذ الجد في عصرنا هذا، وتقدم لتبريرها نظريات جمالية توهم المرء أحيانا بأن في الأمر فنا جديدا يستحق الاهتمام والتقدير.
ولقد بلغ هذا الاتجاه قمته في «الموسيقى الإلكترونية» التي تعتمد تماما على إمكانيات الأجهزة الصوتية الحديثة، ولا سيما آلة التسجيل المغناطيسي، في إنتاج أنواع جديدة غير معروفة من قبل من المؤلفات الموسيقية. وتستطيع أن تجرب بنفسك صورة بسيطة لما يقوم به هؤلاء الموسيقيون إذا سجلت صوت صفير القطار، مثلا على شريط بسرعة معينة، ثم أعدت سماع هذا التسجيل بسرعة مختلفة، عندئذ تكتشف صوتا جديدا مختلفا كل الاختلاف عن الصوت الأصلي، وقد يكون مختلفا عن كل ما تسمعه في البيئة المحيطة بك من الأصوات. وما هذا، كما قلت، إلا مثل شديد التبسيط لإمكانيات الشريط الإلكتروني الصوتية؛ فقد استطاع أصحاب هذا الاتجاه أن يستخلصوا منه، بطريقة آلية، أصواتا من كل نوع، وذلك بشطر الشريط، ورفع الأصوات وخفضها إلكترونيا، والجمع بينها وبين أصوات آلات موسيقية مألوفة، وتأليف مقطوعات يشترك فيها الشريط التسجيلي مع الأوركسترا. كانوا في هذا كله يبحثون، كما يقولون، عن اللاشعور، ويتغلغلون صوتيا في عالم مجهول حافل بإمكانيات لا حد لها.
وقد تميزت في هذه الموسيقى الإلكترونية مدرستان: مدرسة كولونيل، بألمانيا، وعلى رأسها «شتوكهاوزن»، ومدرسة نيويورك، وعلى رأسها «جون كيج». أما الأول فقد بلغ به التحمس لتجديداته حدا جعله يؤكد أن قاعات الموسيقى الحالية لا تصلح ل «عصر الفضاء» الذي نعيش فيه، وأن من الواجب أن تأتي الموسيقى في المستقبل إلى المستمع من ستة اتجاهات: من أمامه وخلفه وفوقه وتحته ومن الجانبين. وهكذا وضع تصميم مسرح يجلس فيه المستمعون معلقين في رصيف مركزي، وكأنهم في جزيرة تحيط بها الأصوات الإلكترونية من كل جانب. وأما زميله الأمريكي فهو أقدم منه عهدا في الإغراب؛ إذ بدأ يتحدث منذ العقد الرابع من هذا القرن عن الإمكانيات الصوتية الهائلة التي لم يستطلعها الإنسان أو يقترب منها بعد، ويتصور الموسيقى على أنها طريقة للإصغاء إلى إيقاع نفس هذه الحياة التي نحياها؛ فيكفي أن يستمع الإنسان وهو يسير في شوارع مدينة حديثة، أو يعمل في مصنع حديث، إلى الأصوات المحيطة به من كل جانب، ليدرك أن العصر الذي نعيش فيه يأتينا بأصوات وإيقاعات لم تعرفها العصور السابقة قط، وأنه بالتالي يقتضي موسيقى تختلف عن كل ما عرفته الأذن البشرية من قبل.
ويتخذ هذا التجديد الموسيقي المتطرف شكلا ثالثا يبدو مضادا تماما للشكلين السابقين: ذلك هو ما يسمى بالموسيقى العينية
concrete
وهو نقل الأصوات الطبيعية مباشرة، دون أي تعديل أو تهذيب. وإنه لمن الغريب حقا أن يسير أنصار التجديد المتطرف في مثل هذه الاتجاهات المتعارضة في آن واحد؛ أي أن يستطلعوا إمكانيات الآلات الإلكترونية، وهي أعقد ما وصل إليه الإنسان من المخترعات، وينقلوا في الوقت ذاته أصوات الطبيعة في بساطتها وبدائيتها وسذاجتها. غير أن هذا الجمع بين الأضداد ليس بالأمر المستغرب؛ فأحدث اتجاهات الرسم والنحت؛ أعني تلك التي ظهرت في ظل أشد درجات التعقيد، تذكر المرء بالرسوم والتماثيل البدائية في الكهوف القديمة، أو تبدو في بعض الأحيان أشبه بأعمال طفل ذكي خصب الخيال. وموسيقى «الجاز» التي تزدهر بدورها في أشد مجتمعات البشر تعقدا وتصنيعا، تزخر هي الأخرى بإيقاعات الغابة وصرخات الإنسان البدائي، والأمثلة كثيرة على أن الإنتاج الحضاري كثيرا ما يدور دورة كاملة بحيث تتلاقى أعقد النهايات بأبسط البدايات في مركب واحد متكامل. وهكذا ظهرت «الموسيقى العينية» المستمدة من تلك الأصوات التي نصادفها في حياتنا اليومية المعتادة. ومن المعروف أن كثيرا من الموسيقيين كانوا يستعينون بأصوات طبيعية أو محاكية للطبيعة في مؤلفاتهم، كأصوات الطيور في سيمفونية بيتهوفن السادسة، وفي مقطوعة «أشجار الصنوبر في روما» لرسبيجي، وغيرها من الأصوات الطبيعية في سيمفونية «لعب الأطفال» لهايدن. غير أن الأصوات الطبيعية تقوم في الموسيقى العينية المعاصرة بدور مختلف كل الاختلاف؛ فهي ليست عنصرا عابرا في القطعة الموسيقية، وإنما هي العنصر الأساسي فيها، وهي المحور الذي يدور حوله التأليف الموسيقي، بحيث يتعين على الفرقة الموسيقية أن تضم، من أجل أداء هذه الأصوات، مجموعة غريبة من الأدوات، كالمطارق والصفائح الفارغة والصفارات والأواني ... إلخ.
هذه الاتجاهات المفرطة في غرابتها تقدم من النظريات لتبرير ذاتها أكثر مما تقدم من الإنتاج الفني ذاته. والحق أننا نستطيع أن نقول إن قيمة المدارس الفنية تتناسب - إلا في حالة قليلة - تناسبا عكسيا مع مقدار ما يقدمه أصحابها لتبريرها من النظريات؛ ذلك لأن العمل الفني الرائع يبرر نفسه بنفسه، ولا يحتاج لتبريره إلى الكثير من الدفاع والمرافعة، أما العمل الهزيل فهو الذي يحتاج حقا إلى مدافعين ومحامين يقدمون إليه أساسا عقليا يعوض شيئا من تفاهته الفنية. ومن الأخطاء الشائعة التي يتعرض النقاد للوقوع فيها أنهم يخلطون في كثير من الأحيان بين الأساس النظري الذي تقدمه مدرسة فنية معينة لأعمالها وبين قيمة هذه الأعمال ذاتها، مع أن الأمرين منفصلان تماما؛ فقد يكون هذا الأساس النظري سليما متينا، وقد تكون الفلسفة الكامنة فيه عميقة كل العمق، ومع ذلك يظل العمل الفني المبني على هذا الأساس هزيلا من جميع الوجوه؛ ذلك لأن سلامة النظرية الجمالية التي يقوم عليها عمل فني ما، لا تضمن أبدا جمال هذا العمل ذاته، وإنما المعيار السليم الذي ينبغي الحكم على العمل الفني من خلاله هو معيار النقد الداخلي، والتذوق الجمالي من خلال تجربة فنية كاملة، لا من خلال التفكير النظري في الأسس التي قام عليها.
وهكذا نجد لهذه الاتجاهات الموسيقية فلسفة جمالية نستطيع أن نعدها سليمة إلى حد بعيد، وإن لم تكن مع ذلك قادرة على أن تبرر لأذواقنا ما يقوم على أساسها من أعمال فنية. وأقوى هذه المبررات النظرية هو الإهابة بتاريخ الفن الموسيقي لإثبات أن التجديدات الجريئة كانت مكروهة ومذمومة في عصورها في معظم الأحيان، ولكنها أصبحت في العصور التالية مقبولة ومستحبة، بل أصبحت تمثل التراث التقليدي الذي يدافع عنه معاصروه ضد موجة التجديد التالية. إن العالم اليوم يتخذ من موسيقى بيتهوفن مثالا واضحا للتراث الموسيقي النقي السليم، ولكن كيف كان معاصرو بيتهوفن ينظرون إليه؟ لقد وصف أحد النقاد المعاصرين له سيمفونيته الثانية - وهي من أقل أعماله جرأة وتجديدا - بأنها «أشبه بوحش مفترس، أو بأفعوان قبيح جريح يأبى أن يسلم الروح، ورغم أنه ينزف بغزارة في الحركة الأخيرة، فإن ذنبه يظل يضرب كل ما يوجد حوله بوحشية.»
وقال عنه ناقد آخر: «إن مؤلفاته تتخذ على الدوام طابع الإغراب المتعمد ... ومعظم ما ينتجه يصل في غموض تركيبه وامتلائه بالتوافقات الصوتية الغريبة والمنفرة حدا يحار معه الناقد بقدر ما يرتبك السامع.» هذان النقدان كتبا في عامي 1804م و1824م على التوالي، وهما إن دلا على شيء فإنما يدلان على أن من الأمور الشائعة أن يسخر الناس من أي شيء لا يوافق ذوق العصر؛ فقد ظن الناس أن بيتهوفن مجنون لأنه لا يكتب الموسيقى كما كتبها السابقون عليه، وكثيرا ما وجهت انتقادات مماثلة إلى برليوز وشوبان وفاجنر وغيرهم. وقد شاع استخدام لفظ «الضجيج» للدلالة على كل اتجاه موسيقي مجدد، وانتشر هذا اللفظ بين نقاد فاجنر وليست وديبوسي، حتى أصبح في نظر الكثيرين رمزا معبرا عن هذا النوع من الموسيقى. ومع ذلك فقد دخل هؤلاء كلهم التاريخ، وتمكنت الأجيال التالية من تذوق أعمالهم بسهولة، وأصبح ما كان يبدو ضجيجا، جزءا من تركيب الآذان الموسيقي، إن جاز هذا التعبير. ومن هذا يخلص الموسيقيون المستقبليون والعينيون والإلكترونيون إلى نتيجة هامة: هي أن المستقبل كفيل برد اعتبارهم وبتعويد آذان الناس على ما يبدو لها اليوم ضجيجا لا معنى له.
ويلجأ أنصار هذا النوع من التجديد الموسيقي إلى مبررات أخرى مستمدة من طبيعة العصر الذي نعيش فيه؛ ففي علم الطبيعة المعاصر، وفي فيزياء الكم على وجه الخصوص، يسود مبدأ «اللاتحدد»، وقد استعار هؤلاء المفكرون الموسيقيون هذا اللفظ، كما استعاروا لفظ «عدم القابلية للتنبؤ» من نفس المجال أو من نظريات علم الإحصاء؛ ليقدموا إلينا بناء على تفسير باطل لهذه الأفكار، موسيقى «عشوائية»، تتميز بعدم التحدد ، وبأنها لا تقبل التنبؤ بما يمكن أن يحدث فيها. وإذا كان من أوضح العيوب التي يوجهها النقاد إلى ملحن أنه يأتي بالألحان «كيفما اتفق»؛ فقد أصبحت «كيفما اتفق» هذه فضيلة في نظر هؤلاء الفنانين؛ فهم يرفضون مبدأ انتقاء الأصوات واختيار ما يلائم خاطرا محددا في ذهن الفنان، ويدعون إلى أن يقبل المؤلف الموسيقي الأصوات التي تحيط به من كل جانب، ويجمع بينها في عمله، بغض النظر عن كونها تؤلف كلا منسجما أم لا. ونستطيع أن نتصور الناتج النهائي إذا عدنا بأذهاننا إلى أصوات الفرقة الموسيقية قبل العزف، حين يتمرن كل عازف على حدة أو يضبط أوتار آلته. في هذه الفترة، التي تسبق العزف المنظم، توجد «موسيقى عشوائية» من ذلك النوع الذي يثير إلهام بعض الفنانين المعاصرين ويوحي إليهم بإمكانيات جديدة في عالم الأنغام، إمكانيات تتلاءم، على حد قولهم، مع طبيعة العصر الذي نعيش فيه، بما يتضمنه من نظريات تقوم على الصدفة واللاتحدد والعشوائية؛ فالعلم الحديث، كما يفهمونه، يفتح أمامنا أبوابا ينبغي ألا نتجاهلها، وإنما الواجب أن نستغلها بقدر استطاعتنا.
فما هي النتائج المحتملة لهذه التجديدات المتطرفة في الموسيقى، إذا نجحت بالفعل تلك الخطط الطموحة التي وضعها أصحابها؟ إن من نتائجها الممكنة أن تحل الآلات الكهربائية والإلكترونية محل الأدوات الموسيقية اليدوية الحالية. ومعنى ذلك أن يتضاءل بالتدريج دور القائم بالأداء في الموسيقى، بل يصبح مؤلف الموسيقى هو ذاته عازفها ومؤديها، وتغدو واسطة الموسيقى هي الشريط التسجيلي بإمكانياته اللامتناهية، بل إن البعض ليذهب إلى حد القول بأن نجاح الآلات الإلكترونية كفيل بجعلها أفضل وسيلة لأداء الموسيقى التقليدية بدورها؛ فمن الممكن محاكاة جميع الآلات الموسيقية المألوفة بدقة كاملة عن طريق الشريط التسجيلي. ويأتي بعض المتحمسين بأمثلة عديدة لضجر كبار المؤلفين الموسيقيين من عجز العازفين عن متابعة الأفكار العميقة والتعبير عنها بوضوح، فيؤكدون أن هذا كله سينتهي عهده عندما تحل الآلة الإلكترونية محل العازف في أداء أعمق الأعمال الموسيقية وأصعبها.
مثل هذه الموسيقى تلقي على المستمع مزيدا من الأعباء؛ فالإمكانيات الصوتية الجديدة تقتضي من الأذن مزيدا من الجهد النفسي والعضوي معا؛ حتى تستطيع أن تتابع التعقيدات النغمية الهائلة التي لم تألف لها من قبل مثيلا. والأهم من ذلك أنها تقتضي من السامع مزيدا من الفاعلية. صحيح أن الاستماع عملية خلاقة دائما، غير أن هذا العنصر الخلاق يتضاعف في حالة الأنواع الموسيقية المجددة؛ فعلى المستمع أن يجهد خياله ليكشف نواحي الجمال في إيقاعات الطبيعة وأصواتها المألوفة التي قد لا تثير في الأذن العادية أي اهتمام؛ أي أن عليه، بالاختصار، أن يشارك الفنان نفسه مجهوده الخلاق.
وقد يظن القارئ من هذا العرض الذي قدمته أنني من المؤمنين بهذا النوع من التأليف الموسيقي أو بمستقبله، ولكن الواقع أن هدفي الوحيد إنما هو التنبيه إلى بعض الاتجاهات الجديدة المفرطة في غرابتها. وفي اعتقادي أن عرض هذه الاتجاهات يكفي، في ذاته، لإيضاح مواطن الضعف فيها، ولإثبات استحالة انتهاء فن عظيم كالموسيقى إلى مثل هذا المصير.
ذلك لأن الموسيقى هي قبل كل شيء «اختيار» لأصوات معينة وسط ذلك العدد اللامتناهي من الأصوات الممكنة التي تحيط بالإنسان من كل جانب، والخطأ الأكبر في مثل هذه الفلسفات الجمالية المجددة أنها تظن الاختيار والتنظيم ضعفا، وتتوهم أن في توسيع مجال الأصوات كيفما اتفق إثراء لتجربة الإنسان الموسيقية. والواقع أن عنصر التنظيم والتهذيب والضبط ليس ضعفا على الإطلاق، وإنما هو مصدر الجمال في كل عمل فني، وهو الذي يحدد الخط الفاصل بين الفن واللافن - إذا أباح لنا القارئ استخدام هذا اللفظ الأخير.
وسأروي، في ختام هذا المقال، قصة برنامج إذاعي طريف استمعت إليه ذات مرة، وينطوي في ذاته على تفنيد حاسم لهذه الاتجاهات المفرطة في غرابتها؛ ففي أواخر عام 1961م استمعت إلى تسجيل إذاعي منقول عن «البرنامج الثالث» للإذاعة البريطانية، تضمن خدعة فنية طريفة قام بها ناقد موسيقي إنجليزي؛ فقد نشر هذا الناقد بين الأوساط الموسيقية خبرا عن قدوم موسيقي بولندي من أنصار ... الاتجاهات الحديثة المتطرفة اسمه بيوترزاك وقال ... إنه سيذيع قريبا قطعة من مؤلفاته مكتوبة لمجموعة آلات الإيقاع وجهاز التسجيل (وهو أمر لا يعد غريبا في مثل هذه الاتجاهات). وبعد بضعة أيام أذيعت القطعة ولم تكن في الواقع إلا قطعة زيفها مقدم البرنامج نفسه، ليس فيها عازف طبول ولا جهاز تسجيل، وكل ما فعله مقدم البرنامج هو أنه وضع الطبول أمامه وأخذ يتنقل من واحدة إلى الأخرى يركلها بقدميه أو يدفعها بيديه، كما أخذ يصطنع أصواتا أمام «الميكروفون»، فينفخ في السماعة أو ينقرها أو «يطرقع» أصابعه أمامها، وبمثل هذا العزف الخادع استمرت القطعة من بدايتها إلى نهايتها.
وبدأت خطابات المستمعين وتعليقات النقاد تتوالى؛ فأعرب معظم المستمعين عن عدم إعجابهم بالقطعة، وإن كان بعضهم قد ذكر أنها فتحت آفاقا جديدة، غير مطروقة، لآذانهم في عالم الصوت، وأنها كانت تجربة شيقة في عالم عذري من الأصوات التي لم تألفها الأذن من قبل (وهؤلاء بالطبع هم فئة المتحذلقين الذين يريدون إثبات سعة أفقهم بأي ثمن، وهم أسهل الناس وقوعا في مثل هذا الخطأ). أما النقاد المحترفون فقد أجمعوا تقريبا على أن القطعة ضئيلة القيمة من حيث هي عمل موسيقي، ولكن أحدا منهم لم يكتشف الخدعة أو يشك في وجودها. ثم كشف صاحب البرنامج عن سر الخدعة، ودعا اثنين من النقاد الذين كتبوا عن هذه القطعة إلى ندوة إذاعية، وكانت وجهة نظر هذين الأخيرين أن النقاد لم ينخدعوا؛ لأنهم أجمعوا على أنها عمل رديء. ولكن الاعتراض الحاسم الذي وجهه مقدم البرنامج إليهم هو أن النقاد قد رأوا في تلك القطعة «عملا فنيا» على أية حال، وأصدروا حكمهم على هذا الأساس. وهذه هي المشكلة الكبرى؛ فالموسيقى الحديثة قد وصلت، بفضل هذه الاتجاهات، إلى المرحلة التي أصبح من الممكن فيها أن ينظر إلى العمل اللافني على أنه عمل فني، وهذا أمر كان يستحيل حدوثه أيام موتسارت أو بيتهوفن. صحيح أن كل عصر كانت له موسيقاه الرديئة ، ولكن مثل هذه الخدعة كانت مستحيلة من قبل، ولم يكن من الممكن أن يأخذ النقاد مثل هذه الأعمال الخادعة مأخذ الجد، أو يصدروا حكمهم عليها بوصفها عملا فنيا.
وهذا في رأيي هو التفنيد الحاسم لمثل هذه الاتجاهات التجديدية المتطرفة في الموسيقى، بل في غيرها من الفنون أيضا؛ فقد تكون الفلسفة الجمالية التي يستند إليها أصحاب هذه المدارس مقنعة أو معقولة، ولكن يظل من الصحيح مع ذلك أن باب الخداع سيفتح فيها على مصراعيه. وقد يكون معظم هؤلاء الفنانين مخلصين لأفكارهم ولنظرياتهم، ولكن هذه النظريات والأفكار ذاتها لا تستطيع أن تحول دون تسرب الأفاقين والمخادعين إلى صفوف الفن، بحيث يظل المستمع أو المتفرج ذاته عاجزا عن إيجاد معيار قاطع يفصل بين العمل المخلص وبين الغش والخداع. وهكذا فإن إمكان تسرب الخداع، والعجز عن إيجاد معيار حاسم يفصل بين العمل الفني والعمل اللافني، هو في رأيي أقوى تفنيد لاتجاهات التطرف المعاصرة، وهو المبرر الكافي للعودة إلى النظرة السليمة إلى الفن بوصفه تنظيما وتهذيبا للتجربة، وانتقاء لعناصر معينة منها، لا مجرد التقاط عشوائي لأية عناصر صوتية أو لونية أو مادية تدخل في نطاق الإدراك الحسي للإنسان.
Bog aan la aqoon