3
وحدث أن وفد على كسرى قيس بن مسعود بن خالد بن ذي الجدين، وكان سيدا عربيا وجيها، فقال له الملك الفارسي: أجعل لك ولقومك مالا وإقطاعا تستعينون به على جدب أرضكم وقحط زمانكم، أفتكفيني غاراتكم على السواد؟ فرضي قيس، ولكنه لم ينجح في قطع الغارات إلا أمدا يسيرا.
فطفح صدر كسرى، واستشار إياس بن قبيصة الطائي في الحملة على بني بكر، فدعاه إياس إلى الصبر والملاينة، واتباع الحيلة، حتى يجد منهم غفلة وتفرقا، فيرميهم بفرسان من العجم، فلم تعجب كسرى نصيحة إياس وقال له: ما أراك إلا رجلا من العرب، وبنو بكر أخوالك، وإنك لتريد دفع العقاب عنهم.
وكان عند كسرى رجل تغلبي اسمه النعمان بن زرعة، قد طوى النفس على حزازات من حرب البسوس بين التغلبيين والبكريين، فقال للملك الفارسي: إني بنا معشر العرب لخبير، أشد ما يؤذينا القيظ، فلو أعددت العدة وارتقبت ميعاد القيظ لوجدت بني بكر يتهالكون على ماء يقال له ذو قار تهالك الفراش، فعاجلتهم بالجيش وأمكنتك منهم الفرصة، وإني مقيم عندك إلى أن يأزف الزحف، فأنطلق مع الحملة التي تأذن بتسييرها، فوافقه كسرى.
وجاءت أيام القيظ فقصد البكريون موضع ذي قار، حتى إذا علم الملك الفارسي أنهم باتوا منه على مسيرة ليلة، في المكان الذي يدعى حنو ذي قار، أخذ في تعبئة الحملة، فعقد لإياس بن قبيصة الطائي على الشهباء والدوسر (وهما كتيبتان جعلهما ملوك الفرس قوة عسكرية تابعة للمناذرة: رجال الشهباء من الفرس ورجال الدوسر من العرب التنوخيين على الأخص)، وعقد للنعمان بن زرعة على بني تغلب والنمر، وعقد للهامرز، وهو قائد فارسي كان يلي السواد، على ألف من الأساورة، وعقد لقائد فارسي، يدعى خنابزين، على ألف أيضا، وانتهز المناسبة، فسير معهم اللطيمة، وهي قافلة المتاع الذي كان يرسله إلى عامله باليمن. ومن هنا يبدو أن الملك الفارسي كان يرمي من الحملة إلى غرضين، أولهما: منع العرب من الاعتداء على تخوم مملكته، وثانيهما: تخويفهم من الاعتداء على قوافله، لتصبح الطريق آمنة بينه وبين اليمن البلد المحتل.
وزحف الجيش الكسروي حوالي خمسة آلاف من عرب وفرس، وليس هذا بالعدد القليل إذا نسب إلى الزمن والمحيط، وكان عتاده من أمتن العتاد وأوفره.
فلما شارف الجيش الأرض التي ينزلها بنو بكر، مضى النعمان بن زرعة إليهم فنزل بابن أخت له، ولقي القوم من بني شيبان ومعهم هانئ بن مسعود، فقال لهم: أتاكم ما لا طاقة لكم به من جنود كسرى، والشر بعضه أهون من بعض، فادفعوا إلى الملك رهنا منكم فلعله يعفو ويكف عنكم، ولأن يفتدي قليلكم كثيركم خير من أن تهلكوا جميعا.
فكان جوابهم: ننظر في أمرنا.
وبثوا الخبر في بني بكر، وأقاموا ببطحاء ذي قار ينتظرون وفود البكريين كلهم ليروا رأيا في ما يفعلون.
وقدم بنو بكر، قوم بعد قوم، حتى ظهر منهم بنو عجل وعليهم حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي، فلم يبق من لم يصح: هذا سيدنا ، وسألوه الرأي ، وقالوا له: هذا النعمان بن زرعة أنبأنا بما نوى كسرى من البطش، وهانئ بن مسعود أميل إلى ركوبنا الفلاة.
Bog aan la aqoon