Iyadoo Abi Cala Xabsiga Ku Jirta
مع أبي العلاء في سجنه
Noocyada
وما دمت أملي على كره مني، وعلى غير علم بما سأقول بعد حين وما سأدع، فلا أقل من أن أستقصي أمر هذه المصادفة ما وسعني استقصاؤه. فلم اصطحبت اللزوميات إلى فرنسا هذا العام؟ ولم أهملتها شهرا لا أنظر فيها، ولا أسمع لها، ثم أقبلت عليها لا أنصرف عنها، ولا أعدل بها شعرا ولا نثرا؟
أما اصطحابي اللزوميات فمصدره يسير جدا، فقد ظهر في هذا العام جزء من كتاب الفصول والغايات لأبي العلاء، وقرئت علي منه صحف، فخيل إلي أن من الجائز أن يكون بين هذا الكتاب وبين اللزوميات سبب قوي أو ضعيف في الألفاظ أو في المعاني. وكان صديقي الأستاذ ماسينيون قد افترض منذ ثلاثة أعوام أن بين أبي العلاء وبين الإسماعيلية صلة في المذهب واشتراكا في الرأي، وكنت قد أكبرت ذلك وأنكرته، واشتد فيه الحوار بين الأستاذ الصديق وبيني، فوعدته أن أعود إلى قراءة اللزوميات من أولها إلى آخرها؛ لأعلم علم هذا الأمر، ولا مطمع بالطبع في قراءة دقيقة متصلة لديوان ضخم كاللزوميات ، ومجلد ضخم كهذا الجزء الذي ظهر من الفصول والغايات أثناء العام الجامعي. فقلت لصاحبي حين أزمعت الرحلة: احمل لنا هذين الكتابين؛ فلعل الله أن يتيح لنا من الوقت بعض ما يحتاج تحقيق ما نريد تحقيقه.
وليس هذا كل شيء، فلم أكد أبلغ مدينة نابولي، وأنفق فيها يوما وبعض يوم حتى خرجت للتروض مع أسرتي على سواحل هذه المدينة، وبينما كانت زوجتي وابناي وصاحبي ينظرون إلى البحر والسماء، وإلى الجزر والربى، وإلى هذه المناظر الكثيرة المختلفة التي كانت تحدث لهم متعة، وتطلق ألسنتهم بالإعجاب، وتبهر نفوسهم وتسحر قلوبهم، كنت أحس هذه الطبيعة التي لم أكن أراها ولا أتصورها، ولا أعرف لها كنها تدنو مني قليلا قليلا، ثم تنفذ إلى نفسي، ثم تملأ قلبي رضا وأملا، وحبا للحياة. وبينما كانوا يتحدثون عما كانوا يرون، ويتواصفون ما كانوا يشهدون، كنت أنا أدير في نفسي حوارا بيني وبين أبي العلاء، موضوعه: الرضا عن الحياة، والسخط عليها، والابتسام لها، والضيق بها، وكنت أحدث أبا العلاء بأن تشاؤمه لا مصدر له في حقيقة الأمر إلا العجز عن ذوق الحياة، والقصور عن الشعور بما يمكن أن يكون فيها من جمال وبهجة، ومن نعيم ولذة. وكان أبو العلاء يقول لي: فإنك ترضى عما لا تعرف، وتعجب بما لا ترى. وكنت أقول له: إن لم أعرف كل شيء فقد عرفت بعض الأشياء، وإن لم أر الطبيعة فقد أحسستها. وكان أبو العلاء يقول لي: تبين إن استطعت حقيقة ما تعرف، فسترى معرفتك مشوهة، ولائم إن استطعت بين ما تحس من الطبيعة، وما يرى الناس منها، فلن تجد إلى هذه الملائمة سبيلا، واذكر ما أمليته على صاحبك منذ سبعة أعوام في ذلك الدفتر الصغير الذي أهملته إهمالا، وأبيت أن تسر إليه بذات نفسك. اذكر ما أمليته على صاحبك من أنك تعلم حق العلم أن لو ظهر المبصرون على ما تحصل نفسك من حقائق الأشياء ومظاهر الطبيعة لضحك منك الضاحكون، وأشفق عليك المشفقون، فما ابتهاجك بصور لا تصور شيئا، وما رضاك عن خيالات ليس بينها وبين مظاهر الأشياء - فضلا عن حقائقها - سبب قريب أو بعيد؟ وكنت أسأل أبا العلاء: أيهما خير: أن تلم بنا أسباب النعمة قوية أو ضعيفة، صحيحة أو كاذبة، فنتشبث بها، ونشد بها أيدينا وأنفسنا، ونأخذ ما تحمل إلينا من ألوان الراحة وضروب الأنس، أم أن تعرض لنا فنعرض عنها، وتقبل علينا فنمتنع عليها، ولا نحصل من الحياة إلا ما حصلت من خيبة الأمل، وكذب الرجاء، وظلمة اليأس، وحرقة القنوط؟ وكان أبو العلاء يجيبني ببيته المشهور:
ولم أعرض عن اللذات إلا
لأن خيارها عني خنسنه
وكنت أتهمه بالإسراف على نفسه وعلى الحياة، وأصمه بالكبرياء والغلو فيها، وأدعوه إلى شيء من التواضع والاعتدال في الرأي والسيرة جميعا. وأزعم له أنه يصور لنفسه أمر الحياة على غير وجهه، ويظن بلذات الحياة أكثر وأكبر مما ينبغي أن يظن بها، وأن المبصرين الذين يرون ما لا نرى، ويشهدون ما لا نشهد، ويستمتعون من جمال الدنيا بما لا نستمتع به، إنما يأخذون من أسباب هذا كله بأوهنها وأضعفها، وأنهم لو حققوا ما يرون - وأنى لهم ذلك؟ - لما وجدوا بين ما يرتسم في نفوسهم من الصور وبين الحقائق الواقعة إلا أيسر الأسباب، وأبعدها من المتانة والقوة، وعن الصدق والمطابقة. فحقائق الأشياء وجمال الطبيعة أبعد منالا مما يظن المبصرون وغير المبصرين. وما ينبغي للرجل الزاهد أن يستشعر الحسد، وأن يضيق بما يجد الناس من نعمة، وأن يسخط على الحياة؛ لأنه لا يبلغ أعماقها، ولا يصل إلى حقائقها، وأن يسخط على الأحياء؛ لأنه لا يشاركهم في كل ما يستمتعون به، وإنما يشاركهم في قليل منه، ويستأثرون من دونه بالكثير.
وكان الجو من حولي صافيا، مشرقا، عطرا، ولم تكن الطبيعة تتحدث إلي بلسان واحد أو لغة واحدة، وإنما كانت تتحدث إلي بألسن مختلفة، ولغات متباينة. كانت تتحدث إلي بعبيرها الذي كان يملأ الأرجاء، وبطيرها التي كانت تستقبل الليل بأعذب النغم وأشجاه، وبهذا الهدوء الشاحب الحزين الذي يلم بالحياة والأحياء إذا آذنت الشمس بالمغيب؛ وبابتهاج الناس لما يجدون من جمال، وبابتئاس الناس لما يشعرون به من حزن، وبما يعلن الناس به ابتهاجهم وابتئاسهم من الأصوات والحركات؛ ثم بكل هذه الحياة العاملة المنصرفة إلى تحقيق المنافع، وإرضاء الحاجات غير حافلة بجمال الطبيعة، وما يثير في النفوس من بهجة وغبطة، وما يفيض عليها من حزن وأسى.
وكنت أسمع هذه الأحاديث كلها فأشتد على أبي العلاء في اللوم، وأعنف عليه في العذل، وأقول له: إن أيسر هذا خليق أن يرضيك مهما يبلغك مشوها ممسوخا، وإن شيئا خير من لا شيء، وإن من الإثم أن تسمي الدنيا «أم دفر»، وهي التي تهدي إليك هذا العبير، وأن تصفها بالقسوة والغلظة وهي التي تمنحك هذه الرحمة وهذا اللين.
ويشتد علي هذا الحوار بيني وبين أبي العلاء حتى أبرم به وأفر منه، وأطلب إلى من حولي أن يدعوني إليهم، وأن يستنقذوني من هذه الحياة التي كنت أحياها في القرن الرابع للهجرة أو العاشر للمسيح!
ثم أصبح فأزور مع أسرتي جزيرة كابري، وأشهد ما كان يملؤهم من هذا الإعجاب الذي كان يخرجهم عن أطوارهم، وأقنع أنا مما يجدون بما يبلغني من رقة الهواء، ونقاء الجو وصفائه، وبما يحمله إلي النسيم من العرف، وبما يلقي في نفسي من أوصاف لا تحقق لها شيئا، ولكنها تثير فيها كثيرا من الخواطر والمعاني وضروب الخيال. وإذا الحوار يستأنف بين أبي العلاء وبيني متصلا عنيفا مختلفة ألوانه.
Bog aan la aqoon