Iyadoo Abi Cala Xabsiga Ku Jirta
مع أبي العلاء في سجنه
Noocyada
وإذن فالشاعر لم يعمل في معناه وحده، ولا في لفظه وحده، ولا في أسلوبه وحده، وإنما عمل فيها جميعا، ولقي شيئا من الجهد غير قليل في حملها على أن تلتقي وتأتلف، ويطمئن بعضها إلى بعض، ثم في تمكينها بعد ذلك من أن تلقى نفوسنا فتألفها وتمازجها، ولا تشق عليها.
ووفق أبو العلاء من ذلك إلى ما أحب، فنحن نحس جهده وعناءه، ولكننا لا نبغض هذا الجهد، ولا نضيق بهذا العناء، ولا ننكر ما انتهيا إليه من النتائج. وقد نحتاج إلى شيء من الجهد لنسيغ هذه الأبيات، ونلائم بينها وبين ذوقنا الفني، ولكن أبا العلاء نفسه يعيننا على هذا الجهد ويشاركنا فيه، يعيننا عليه بشيء أحسه إحساسا قويا، ولكني لا أجد يسرا في تحقيقه، ولا في تحديده، ولا في تعيين موضعه من هذا الشعر. أتراه في المعنى الذي لا نكاد ندنو منه حتى تتلقاه نفوسنا هشة له مستريحة إليه؛ أتراه في اللفظ الذي مهما يكن حظه من التكلف فإن له من الجزالة حظا يرضي ذوقنا؛ أتراه في الأسلوب الذي مهما يكن حظه من الالتواء فإن فيه ما يصور جهدا محببا إلى النفس، مثيرا لعطفها وإعجابها، لا لأعراضها وازورارها، أم تراه في هذا كله، وفي شيء آخر يضاف إليه وهو أن أبا العلاء كان خفيف الروح، حلو الشمائل، رضي النفس، سمح الطبع، يصدر عنه الشعر المتكلف الذي يستسمج من غيره، فإذا نحن نلقاه باسمين له، مستريحين إليه؟ لا أدري! ولكني أقرأ هذه الأبيات، وأشعر بما فيها من تكلف وجهد فلا أنكرها، ولا أضيق بها، وإنما أحبها وأستعيدها، ولا أدعها حتى أثبتها في نفسي.
وقف عند البيت الثاني، وانظر إلى قوله: «شدائد من أمثالها وجب الرعب»، فلو أني صادفت هذه الصيغة عند شاعر غير أبي العلاء، عند المتنبي مثلا ، أو أبي تمام لأشبعته لوما ونقدا وتأنيبا، ولكني حين صادفت هذه الصيغة في شعر أبي العلاء لم أزد على أن ابتسمت، ثم استعدت البيت فضحكت ضحكا خفيفا، ثم أحببت هذا الأسلوب في هذا الموضع، واطمأننت إليه. قل إني أوثر أبا العلاء وأحابيه، وأرضى منه أشياء لا أرضاها من غيره، فقد لا تخطئ ولا تبعد، وأظنني نبهتك إلى ذلك في أول هذا الحديث، وقلت غير مرة: إني لا أملي كتابا في البحث العلمي، ولا في النقد الأدبي، وإنما أسجل خواطر أثارتها في نفسي عشرة أبي العلاء في سجنه وقتا ما، واستماعي له وهو ينشد شعر اللزوميات.
وهذه الأبيات التي سمعت أبا العلاء ينشدها فأعجبتني من جميع وجوهها أغرتني بكثرة الاستماع للشيخ حين كان يملي شعره هذا على كتابه وطلابه، كما أغرتني بأن ألزم الشيخ في جميع أطوار يقظته العاملة حين كان يخلو إلى نفسه ما أقمت معه في سجنه، فقد كنت حريصا على أن أحصل لنفسي هذه اللذة الفنية العقلية بالاستماع لإملاء الشيخ، وبالفهم عنه، كما كنت حريصا على أن أشهد الشيخ وهو يعاني ألوان الجهد الفني والعقلي، ويصطنع ألوان الحيل ليجمع بها بين المعاني الفلسفية التي لم يألفها الشعر كثيرا في لغتنا العربية وبين الألفاظ القريبة والغريبة في هذا النظم العسير، وبهذه القافية الشاقة.
وكانت نتيجة لزومي للشيخ آناء الليل وأطراف النهار شهرا وبعض شهر هي هذه التي أريد أن أصورها لك، وأعرضها عليك.
الفصل السابع
وأول ما أواجهك به من ذلك وأنا أقدر أنك ستلقاه منكرا له ثائرا عليه، هو أن اللزوميات ليست نتيجة العمل، وإنما هي نتيجة الفراغ، وليست نتيجة الجد والكد، وإنما هي نتيجة العبث واللعب، وإن شئت فقل إنها نتيجة عمل دعا إليه الفراغ، ونتيجة جد جر إليه اللعب. ولأوضح ذلك بعض التوضيح فقد أهدئ من ثورتك، وأحول إنكارك إلى إقرار واعتراف.
فقد لزم أبو العلاء داره لا يبرحها نصف قرن، فقدر أنت نصف القرن هذا كم يكون من سنة، ومن شهر، ومن أسبوع، ومن يوم ، ومن ساعة. وقدر أنك اضطررت إلى أن تلزم سجنا من السجون، وليكن هذا السجن دارك التي رتبتها كما تريد وتهوى أثناء هذا الدهر الطويل. فهل تتصور احتمالك للإقامة في هذا السجن أثناء هذه الأعوام المتصلة في حياة مطردة مستوية، يشبه بعضها بعضا كما يشبه الماء الماء؟ وهل تقدر أن القوانين المدنية الحديثة حين أرادت أن تشق على المجرمين، وتلائم بين جرائمهم الشنيعة، وآثامهم القبيحة، وما تترك هذه الآثام، وتلك الجرائم في حياة الأفراد والجماعات من آثار ليست أقل منها شناعة وقبحا، وبين العقوبات المكافئة لها الرادعة لهم ولأمثالهم عنها وعن أمثالها، قد فرضت السجن مع الفراغ، أو مع العمل اليسير أو الشاق آمادا تختلف طولا وقصرا، ولكنها لا تبلغ نصف هذا الدهر الذي لزم فيه أبو العلاء سجنه، بل لعلها لا تتجاوز ثلثه في أكثر الأحيان. ومن الحق أن أبا العلاء لم يفرض عليه، ولم يفرض على نفسه الراحة المتصلة، والفراغ المطلق؛ فما أظنه كان يستطيع أن يحتمل ذلك، أو يصبر عليه، ولكنه كان يقرأ كثيرا، ويملي كثيرا، ويلقى التلاميذ والطلاب والزائرين، فيتحدث إليهم ويسمع منهم.
ولكن هذا كله على كثرته وتنوعه لا يستطيع أن يملأ وقت الشيخ، ولا أن يغير ما فيه من التشابه والاستواء والاطراد، ولم يكن أبو العلاء ينفق وقته كله مع الناس قارئا أو ممليا أو متحدثا، وإنما كان ينفق بعض هذا الوقت في هذه الأعمال، وينفق بعضه الآخر فارغا لنفسه خاليا إليها. ولعل الوقت الذي كان يفرغ فيه لنفسه، ويخلو فيه إليها أن يكون أكثر من الوقت الذي يلقى فيه الناس، أو أن يكون مساويا له، أو أن يكون أقل منه شيئا. وهو قد كان على كل حال وقتا طويلا يتكرر في كل يوم دون انقطاع، لا أثناء عام أو أعوام، بل أثناء عشرات الأعوام. ولم يكن أبو العلاء إذا خلا إلى نفسه شغل عنها بالحديث إلى زوجه أو بمداعبة بنيه، وما أحسبه كان يتحدث إلى خادمه فيطيل الحديث، وما أرى إلا أن خادمه كان ينصرف عنه إذا انصرف الناس بعد أن يرتب له من أمره ما يحتاج إلى الترتيب. ولم يكن أبو العلاء إذا خلا إلى نفسه يستطيع أن يقطع الوقت بالقراءة. فهو لم يكن يقرأ إلا إذا وجد قارئا؛ لأنه كان كما حدثنا مستطيعا بغيره، ولم يكن يكتب أيضا لنفس هذا السبب، وما أرى أنه عرف الكتابة والقراءة التي يعرفها أمثاله من المكفوفين وإن أشار إلى هذا النحو من القراءة في قوله:
كأن منجم الأقوام أعمى
Bog aan la aqoon