والاعتقاد بالله متأصل في نفوس الناس ينبع حينا بعد آخر حتى من أجدب النفوس وأقحلها، وكانت فكرة الاعتقاد بالله فكرة ساذجة في أول أمرها، درجت بين ما كان عند الإنسان الأول من أثرة وحب نفس ثم ترقت بمرور الأزمان، وكانت مجالا لنظريات مختلفة وآراء متباينة، نشأت فكرة سخيفة في عصر الهمجية اعتنقها المتوحشون الذين صاغوا معبودهم بأيديهم، وترقت إلى أن وصلت إلى شكل اعتنقه أمثال هجل ورنان ومكس مولر وغيرهم.
والمذهب القائل بوجود خالق لهذا العالم مدبر لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار يسمى بمذهب المؤلهة (القائلين بإله)، وهذا المذهب يرى وجود إلهة أو آلهة علويين فوق الطبيعة وفوق العالم، وهذا الاعتقاد أساس كل المعتقدات الدينية من عقيدة المتبربرين الذين لم يأخذوا من المدنية بحظ وافر إلى العقيدة الأثيرية التي وضعها شلر ماكر.
ومذهب المؤلهة إما أن يقول بإلهين أو آلهة عدة، وهذا هو أساس ديانات كثيرة - شرقية قديمة وحديثة - ويسمى مذهب الشرك، وإما أن يقول بإله واحد ويسمى مذهب التوحيد، وهذا أساس الديانات الثلاث العظمى: اليهودية، والنصرانية، والإسلام، ويقول مذهب المؤلهة: إنه لما كان العقل وحده لا يستطيع أن يدرك الاعتقاد بالله حق الإدراك، جاء الوحي لتفهيم الناس هذه الحقيقة.
ومذهب المؤلهة مذهب مشبه (يشبه الله بالإنسان) فينسب إلى الله فكرا ورأيا وصفات وأميالا وصورة كما للإنسان ذلك، إلا أنه يقر بأنه ما له من ذلك أكمل مما للإنسان.
وهناك مذهب يخالف مذهب المؤلهة فيقول أيضا بوجود إله علوي قوي عالم، إلا أنه لا يقول بوحي، ويسمى هذا المذهب مذهب العقليين، وهذا المذهب يؤيد القول بإله، ويرد على الملحدين المنكرين له، ولكنه ينكر أن الله هو الفعال على الدوام في حكم العالم وفي تدبيره، وفي إسعاد الناس وإشقائهم، ويرى أن العقل وحده لا بمعونة وحي وخوارق للعادة يستطيع أن يصل إلى معرفة الله، أو إلى علة العلل الذي نظم العماء، وأن هذه القوة (الله) ليست في حاجة إلى نظام ديني خاص، ولا إلى شكل من أشكال الصلاة، ولا إلى شعائر عبادة.
وتغالى أصحاب هذا المذهب في آرائهم، وتعمقوا في خيالاتهم، حتى ذهبوا إلى أن كل العقائد والأديان ستفقد خواصها المميزة لها بعد أمد مديد، وأن النصرانية واليهودية والإسلام ومذاهب الإشراك والتوحيد ليست إلا أمواجا قصيرة الأمد سائرة إلى الزوال في بحر الألوهية المحيط، وليست البوذية والزرادشتية والمانوية أشياء يعتد بها في الأفق الفسيح للمثل الإنسانية العليا. والعقليون ينكرون أيضا القول بأن الله خالق العالم من لا شيء، ويرون أن الله إنما نظم حالة المادة المشوشة وأخرجها من حالة العماء، أما المادة نفسها فقديمة، وكثيرا ما يسمى العقليون لهذا «ملحدين»، وقد سماهم بوشوت «الملحدين المتنكرين».
ويتفق مذهب المؤلهة ومذهب العقليين في القول بإله علوي فوق العالم يحكم العالم من عل، كأنه من منفصل عنه، ويذهب المؤلهون إلى أبعد من ذلك، فيعتقدون الله مستويا على العرش بيده الخير والشر، يثيب الناس ويعاقبهم جزاء بما كانوا يعملون، تهمه أعمال الإنسان، وتسره التضحية، وتسكن ثورة غضبه الصلاة، ويرى أيضا أن الله تعالى أعلى من أن تفهم عقولنا أعماله.
وتضاد هذه العقائد القائلة بأن لله وجودا مستقلا وأنه أعلى من مخلوقاته عقيدة أخرى ترى مذهب الحلول؛ أي إن الله في هذا العالم، وأنه كل شيء في كل شيء، وأن الله والقوة الداخلية الفاعلة في هذا العالم مترادفان؛ وإنه لمن الصعب تحديد مذهب الحلول حتى قال جوتيه: «لم أر إلى الآن من يفهم ما تدل عليه كلمة الحلول فهما صحيحا.» وتدل الكلمة على أن هذا المذهب يرى أن الله هو كل شيء، وأن كل شيء هو الله، وليس الله والعالم منفصلا بعضهما عن بعض، بل شيئا واحدا من عنصر واحد، ولا يرى أن الله قائم بذاته منفصل عن العالم كما يرى مذهب المؤلهة - المشبهين - ومذهب العقليين، بل ينزه الله عن كل أوصاف البشر، وينكر أن يكون الله مشخصا قائما بذاته، ويقول: لا فرق بين الله والعالم، وأن الله هو الخالق المدبر والعلة الفاعلة على الدوام، وهو روح فكرتها العالم، والعالم عندهم مظهر الله، والطبيعة شعاره؛ ذلك لأنه لو كان هناك شيء غير الله لكان محدودا ولما وجد في كل مكان، ولما كان قادرا على كل شيء، وعندهم أن الله حال في كل ذرة من ذرات العالم، وفي كل حبة من رمال الصحراء، وفي كل نبتة من نبات الحقول، وفي كل ورقة من أوراق الأشجار يلاعبها الهواء، وفي كل دابة تدب على الغبراء، قال شلي يخاطب الله:
إن أصغر ورقة من أوراق الأشجار التي يلاعبها النسيم ليست إلا بضعة منك (جزءا من أجزائك)، كلا ولا أحقر دودة تسكن القبور وتسمن من لحوم الموتى أقل مشاركة لك في حياتك السرمدية.
وقال: «إن هذه الروح التي توجد في كل مكان بها يحيا كل موجود، وهي هو.»
Bog aan la aqoon