أحدهما:
ميل اليهود إلى التوفيق بين معتقداتهم الدينية والعلم الغربي الذي كان متأثرا بالعلم اليوناني.
وثانيهما:
أن المفكرين الذين استمدوا آراءهم من الفلسفة اليونانية رأوا أن يوفقوا بين معتقداتهم الفلسفية والقضايا الدينية المحضة التي جاء بها المشارقة، ومن أي الجهتين نظرنا رأينا أن النتيجة كانت فلسفية دينية، لا هي فلسفة محضة ولا هي دين خالص.
العصر الثالث من عصور الفلسفة عصر القرون الوسطى، وبعبارة أدق الفلسفة النصرانية.
سقطت الدولة الرومانية في أيدي أمم الشمال المتبربرة فقوضت الحضارة الرومانية اليونانية القديمة، وطغى سيل القوط والبرجنديين والوندال والسويفيين والألنيين والكلتيين والسكسونيين، ولا سيما قبائل المغول والهون على الدولة الرومانية العتيقة الواسعة، وكانت قد بلغت من ضعفها الناتج من انحلالها الأخلاقي وانحطاطها الاجتماعي حدا أصبحت لا تستطيع معه مقاومة هذه الأمم القوية المتبدية.
وجاءت هذه الأمم المتبربرة بخصائص قومية وأفكار ونظم كانت شريفة راقية - وإن صدرت عن قوم بدو - استطاعت فيما بعد أن تنافس المدنية الراقية، وتسير معها جنبا إلى جنب، غير أنهم ما برحوا جفاة غلاظا سذجا، ومضت قرون طويلة قبل أن يأخذوا عن اليونان والرومان مدنيتهم ويمزجوها بأفكارهم ويكونوا منها المدنية الحديثة، لم يكن لهم لأول عهدهم علم بفنون اليونان ونظمها الفلسفية المحكمة، فكان عصرهم الأول عصر جهل وخشونة، أعقب عصر المدنية والحضارة والآداب ونضارة الفنون والعلوم التي كانت من مميزات العقول أيام الدولة اليونانية الرومانية، وقد كادت آثار العقل الإغريقي تضيع لولا أفراد قليلون من العلماء المسيحيين حفظوا بقايا المدنية القديمة - مع محاربة الكنيسة لهم - حتى وصل هؤلاء المتبربرون إلى درجة من الرقي العقلي أمكنهم معها أن ينتفعوا بتلك البقايا شاكرين لمن حفظها لهم.
كانت الكنيسة على العموم تضطهد آداب اليونان والرومان وعلومها، وتحارب من اشتغل بها، وتعارض نشر الحياة العقلية والمدنية القديمتين، وتحدد دائرة يجول فيها الفكر؛ ذلك لأنها اعتقدت أن الحقيقة قد وصلت إليها من الوحي المعصوم، فلا معنى بعد أن تسمح للناس بالبحث عنها؛ لذلك كانت الكنيسة عدوة الفلسفة والعلم فجمدت الحياة العقلية، ولم تسترد نشاطها إلا بعناء لما أن انبعثت أشعة «النهضة» ممتزجة بأشعة من الشرق؛ فأضاءت سماء القرون الوسطى المظلمة.
وإذا كان قد بقي شيء من الاحترام للعلم نشأ عنه المحافظة على شيء من الفلسفة القديمة، فإنما كان ذلك مقصورا على الجزء من المدنية القديمة الذي يندمج في تعاليم النصرانية، أما ما عدا هذا ، وخصوصا ما يعارض النصرانية، فقد كان ينبذ نبذا؛ وبذلك ظلت الفلسفة الغربية خادمة للدين جملة قرون، وكان غرضها الرئيسي تأييد العقائد الدينية وتحديدها وتنظيمها، وإظهار أن تلك العقائد التي نزلت من السماء تتفق أيضا مع العقل.
ويمكننا تقسيم سبيل النشوء الذي سلكته الفلسفة المسيحية إلى عصرين كبيرين؛ أولهما: ابتدأ من العصور المسيحية الأولى، وفيه كان كثير من آباء الكنيسة فلاسفة قبل أن يكونوا رجال دين، فرأوا من الضروري أن يؤيدوا أنفسهم وعقائدهم أمام الوثنيين، وقد ختم هذا العصر عمليا في الحقيقة بالأب أوغسطينوس 354-430م، غير أن بعض الكتاب الكنائسيين - الذين هم في المرتبة الثانية بعد الأولين - ساروا على هذا النمط إلى القرن التاسع، ويلقب هذا العصر «بعصر الآباء»، والعصر الثاني: يمتد من القرن التاسع إلى القرن الخامس عشر، ويلقب «بالعصر المدرسي»؛ لأن التعليم كان يقوم به جمعية الرهبان في مدارس الكنائس - وقد أنشأ شارلمان كثيرا من هذه المدارس في جميع أنحاء فرنسا - وكان مدرسوها من رجال الكنيسة، وكانوا يرمون إلى إلباس مآرب الكنيسة لباسا فلسفيا، ويطلق هذا الاسم على ذلك العصر من القرون الوسطى الذي كانت الفلسفة فيه تدرس تحت سلطان الدين، وكان القصد من دراستها تطبيق التعاليم المسيحية على العقل، وقد استمر هذا العصر من القرن التاسع إلى ظهور النهضة في القرن الخامس عشر.
Bog aan la aqoon