وبخيلا بخيره
فلا يروعني إلا ضحك يملأ الفضاء من حولنا، وإقبال على قدحه يصبه في فمه صبا، والرفاق يصنعون صنيعه، فيرتفع ضحكهم وتفرغ أقداحهم، ويضرب الطارئ يدا بيد، فإذا أقبل الخادم ألقى في يده شيئا من النقد، وقال: «أد حسابك واحتفظ بما يبقى.» ثم التفت إلي وقال: «شاعر حقا، ما في ذلك شك.» وأنا أنظر إليه وأريد أن أرد عليه، ولكن يده تمتد في سرعة إلى القدح أمامي فتخطفه اختطافا وتريق ما فيه على الأرض وترده مكانه فارغا كغيره من الأقداح، ثم ينهض قائما وهو يقول: «ليست هذه القهوة لنا بمجلس، هلموا.» ثم يقبل علي فيقيمني في قوة لا أملك لها مقاومة ويدفعني دفعا حتى يضعني في سيارته هذه الفخمة الوثيرة التي لم أقدر قط أن سيتاح لي الصعود إليها في يوم من الأيام، وقد جلس الرفاق من حولي واتخذ هو مكانه إلى جانب السائق وهو يقول له: «إلى القصر.»
منذ تلك الليلة لم أفارق هذا الصديق، رضيت عن نفسه الجامحة ورضي عن لساني الطويل، وأصبت في صحبته هذه الحياة الراضية التي كنت أتحدث عنها في شعري على أنها من هذه المثل العليا التي يتصل بها الأمل ويرقى إليها الخيال ولا يبلغها من الناس إلا الأقلون.
منذ تلك الليلة لم أفارق صديقي هذا، أقيم معه في قصره ذاك المنيف في العاصمة إن أحب المقام في العاصمة، وأصعد معه إلى قصره الشاهق على هذه الربوة الرائقة الشائقة إن أحب أن يتخفف من حياة العاصمة.
وقد مضت على صحبتنا هذه السنون الطوال، لم أنكر منه انحرافا عني أو انقباضا لي، ولم ينكر مني شيئا على طول العشرة واتصال الألفة واللقاء وجه النهار وآخره وشطرا من الليل، وقد صرفني عن حياتي تلك البائسة، وكاد يصرفني عن أصدقائي أولئك الذين كنت آلفهم في تلك الحياة، فأنا لا ألقاهم إلا حين يسعى إليهم أو يدعوهم إليه، قد أصبحت له ظلا، وأصبحت عشرته لي لازمة من هذه اللوازم التي لا أستطيع عنها انصرافا، وقد رضيت أخلاقه على علاتها، فأنا أتجنب غضبه وأتلمس رضاه؛ لأني أجد في ذلك راحة وروحا ولونا من ألوان السعادة لا أحب أن أصرفه عن نفسي ولا أحب أن يصرفه عني صارف، وأنا من أجل ذلك أحب الكذب حين يتيح لي إشراق نفسه ووجهه، وأكره الصدق حين يعرضني لغضبه علي أو ازوراره عني، وأنا مع ذلك أنتهز ساعات الرضى وأخلص له النصح وأحسن عليه المشورة، وهو يسمع لي كثيرا ويزور عني أحيانا.
أنا إذن خادم من خدمه أو موظف من موظفي قصره لا أستطيع أن أصرف نفسي عنه، وكل ما بيني وبين الخدم والموظفين من الفرق أنه لا يستطيع أن يصرف نفسه عني، على حين يستطيع أن يغير من خدمه وموظفيه من يضيق به أو يزهد منه!
أنا على كل حال خادم من خدمه، لا أيسر له ما يحتاج إليه في حياته المادية، ولكني أعينه على احتمال هذه الحياة، وأيسر له القليل الذي يحتاج إليه في حياته العقلية، وهو في الحق أقل من القليل! قد أقرأ له في كتاب بعض هذه الطرف والملح التي يحتاج إليها الفارغون، وقد أفسر له بعض ما يعسر عليه من الألفاظ حين أقرأ له، وقد أنشده بعض شعري فيفهم ويرضى حينا، ويعرض ويسخر في كثير من الأحيان حين لا يتاح له الفهم والذوق. وأبغض خصاله إلي وأشقها علي أنه - على ضآلة حظه من العلم وعجزه كل العجز عن الكتابة - يشتاق بين حين وحين إلى أن يشارك في بعض هذه المناقشات السخيفة التي تفيض بها أنهار الصحف، هنالك يشقي نفسه ويشقيني. فهو يحاول أن يكتب ما يريد فلا تستقيم له الكتابة، ولا يطاوعه القلم، فيدعو بالقهوة في أثر القهوة، وأنا أنظر إليه كالمعرض عنه، وألاحظه كالمنصرف عن ملاحظته إلى كتاب أنظر فيه، حتى إذا استيأس من بلوغ ما يريد، صاح بي مغضبا: «أين أنت؟» أو «ماذا تصنع؟! إنك لتراني أتكلف ما أتكلف ثم لا تصنع شيئا وإنما أنت جامد في مكانك كأنك الصنم!» فأجيبه متضاحكا: «ما علمت أن الأصنام تقرأ كتابا أو تخطه بيمينها!» ثم أسأله عما يريد فيفضي إلي بذات نفسه، فإذا ذات نفسه سخف لا ينقضي، ولكني أظهر له الرضى بما أسمع والإقبال على ما يحب، ثم أقبل على السيجارة والقهوة والقلم، وأقرأ عليه بعد ساعة ما عجز عن كتابته فيرضى كل الرضى ، وتمتلئ نفسه غبطة وابتهاجا وهو لا يشك أقل الشك في أنه هو الذي كتب ما قرأت عليه، ولكنه على ذلك ليس محمقا ولا غافلا، فهو يأخذ مني الصحف التي كتبتها ويخلو بها إلى نفسه ليكتبها بخطه، ثم يهرع إلى التليفون فيدعو صديقه في هذه الصحيفة أو تلك إلى الغداء أو إلى العشاء، فإذا أقبل وطعم وامتلأت يده بما شاء الله أن تمتلئ به، دفع إليه المقال في شيء من الدعاية والمزاح فأخذه راضيا وقرأه معجبا وانصرف شاكرا مشكورا، وأنا أشهد كل هذا العبث، وأشارك فيه، وأمقت نفسي أشد المقت وأزدريها أعظم الازدراء، مزمعا مع ذلك أن أعود إلى التمثيل حين يريد أن يعود إلي.
على ذلك جرت حياتي معه وجرت حياته معي، هي حياة السيد مع الخادم إلا أن فيها شيئا من العناية والإلطاف.
وما أعتذر عن شيء مما فعلت ومما أفعل، وإن كنت كارها لكل ما فعلت ولكل ما أفعل، فما أعرف أن عذرا يستقيم لي، وكل ما أعلمه هو أني أحب الحياة وأعلم علم يقين أن الحياة لا تحبني، فأنا آخذها قسرا وأنعم بها على كره منها دائما، وعلى كره مني في كثير من الأحيان.
ولو قد أحبتني الحياة كما أحبها ليسرتني لبعض العمل الذي يعصمني مما تورطت فيه أيام البؤس من تكفف الناس، ومما أتورط فيه الآن من العيش في ظل هذا السيد الصديق، مذعنا لما يريد هو، لا لما أريد أنا، كاسبا هذه العيشة الراضية التي تحلو وجه النهار، لتمر آخره بهذه الذلة التي تخيل إلى الناس أني سيد سعيد، وتقنعني كل الإقناع بأني عبد شقي.
Bog aan la aqoon