Ma Wara Adyan
ما وراء الأديان: أخلاقيات لعالم كامل
Noocyada
يمكن توضيح الدور الذي تؤديه عقولنا في تقرير سعادتنا بسهولة كبيرة. تخيل فردين قد شخصا بالمرض العضال نفسه، لنقل إنه شكل متقدم من أشكال السرطان غير القابل للعلاج. يتلقى أحدهما هذا الخبر بمشاعر الغضب والإشفاق على الذات، مع هوس بالتركيز على وضعه الظالم، بينما تلقاه الآخر بتقبل هادئ. في كلتا الحالتين، فإن الحالة المادية، من حيث الصحة البدنية والمعاناة، واحدة. غير أن الشخص الأول يتجرع مزيدا من الألم النفسي والعاطفي، أما الشخص الهادئ فهو أفضل استعدادا لمواصلة الحياة والاستمرار في الاستمتاع بالأشياء التي تجلب له الفرح، كالأسرة مثلا أو الإخلاص لقضية معينة، أو القراءة. والفرق الوحيد بينهما هو نفسية كل منهما.
مع المرونة الداخلية، يصبح من الممكن الحفاظ على درجة من السعادة حتى في الظروف الشديدة الصعوبة. ومن دون هذه القوة الداخلية، لا يمكن لأي قدر من الإشباع الحسي أن يجعلنا سعداء.
بالرغم من ذلك، إذا كان السلام النفسي هو خط دفاعنا الأول ضد المشقة والمعاناة، فثمة عوامل جوهرية أخرى تسهم هي أيضا بشكل كبير في مستوى سعادتنا وفرحنا الحقيقيين. تشير الأبحاث العلمية الحديثة إلى أن العامل الرئيسي من بينها هو الإحساس بالغاية الذي يتجاوز المصلحة الذاتية الضيقة والشعور بالتواصل مع الآخرين أو الانتماء إلى مجتمع ما. وأنا أعتقد أن أساس هذين العاملين هو الرأفة أو المودة، وذلك هو ما أنتقل إليه الآن.
الفصل الرابع
الرأفة: أساس الرفاهية
مثل جميع الثدييات الأخرى، نولد - نحن البشر - من أمهاتنا، ونظل لبعض الوقت بعد الميلاد معتمدين اعتمادا تاما على اهتمام أمهاتنا أو غيرهن من مقدمي الرعاية البالغين. لمدة تسعة أشهر نتغذى في أرحام
لنا ولا قوة. لا يمكننا الجلوس أو الزحف، فضلا عن الوقوف أو المشي، فلا يمكننا البقاء على قيد الحياة من دون عناية الآخرين واهتمامهم بنا. وفي حالة الضعف المطلق تلك، يكون أول عمل لنا كأطفال حديثي الولادة هو الرضاعة من أثداء أمهاتنا. وبلبنهن نتغذى ونحصل على القوة. والواقع أن فترة الاعتمادية لدى صغار البشر طويلة على نحو خاص. وينطبق هذا علينا جميعا، بما في ذلك حتى أسوأ المجرمين. فلولا الرعاية المحبة التي نتلقاها من الآخرين، لما عاش شخص منا أكثر من بضعة أيام. ونتيجة لهذه الحاجة الشديدة إلى الآخرين في المرحلة المبكرة من نمونا، فإن النزعة نحو العاطفة جزء من تكويننا البيولوجي.
تلك سمة نتشارك فيها مع العديد من الثدييات الأخرى، ومع الطيور أيضا؛ أي مع كل تلك الكائنات التي يعتمد بقاؤها في مراحل النمو المبكرة على تلقي الرعاية من الآخرين. ومن الجلي أن جميع هذه الحيوانات تعرف شكلا من أشكال الشعور بالاتصال أو الترابط. حتى إذا كنا لا نستطيع أن نسمي هذا الشعور بالعاطفة على نحو صريح، فجميع هذه الكائنات تتمتع بشكل ما من مشاعر القرب. وفي المقابل، نختلف نحن عن السلاحف أو الفراشات، التي تضع بيضها ثم تتركه ولا ترى نسلها بعد ذلك أبدا. لا توجد لهذه الحيوانات فترة تنشئة، ولهذا فإنني أتساءل إن كان بإمكانها إدراك العاطفة أم لا. منذ عهد قريب خلال حديث في جامعة أكسفورد، اقترحت بشيء من المزاح أن يجري العلماء الحاضرون بعض الأبحاث في هذا الشأن. هل تتعرف تلك الحيوانات التي لا تتطلب أي فترة للتنشئة على والديها، على سبيل المثال؟ أشك في ذلك نوعا ما. وهو شيء سأكون مهتما للغاية برصده.
أما بالنسبة إلى البشر، فمن الجلي مع فترة تنشئتنا الطويلة أن اهتمام الآخرين وعاطفتهم يؤدي دورا جوهريا لبقائنا ورفاهيتنا. إن الأبحاث الطبية الحديثة توضح أن الاتصال الجسدي من الأم أو من الشخص المقدم الرعاية خلال فترة الطفولة المبكرة يمثل عاملا جوهريا في زيادة حجم الدماغ. ويؤكد علم النفس الحديث أن الرعاية التي نتلقاها في سن الرضاعة والطفولة تترك أثرا عميقا في تطورنا العاطفي والنفسي. يشير هذا البحث أيضا إلى أن الأشخاص الذين يفتقرون إلى العاطفة في فترة الطفولة أكثر عرضة لأن ينتابهم في الحياة بعد ذلك شعور مترسخ بانعدام الأمان.
ثمة برنامج سمعت عنه منذ بضع سنوات يعمل على تحسين الرعاية التي تقدمها دور الأيتام في بعض الأماكن المضطربة في أمريكا اللاتينية. وبالرغم من أن التدابير التي يدعمها هذا البرنامج هي ثمار أبحاث علمية ونفسية مهمة، فهي أيضا أمور بسيطة للغاية وتدركها الفطرة السليمة؛ إذ تعكس جميعها الدور الجوهري للدفء البشري والعاطفة في تطورنا النفسي والبدني. تتضمن هذه التدابير، على سبيل المثال، إسكان الأطفال في مهاجع أصغر وأكثر حميمية، وتوزيعهم في مجموعات صغيرة على أفراد مقدمي الرعاية؛ حتى تتاح لهم الفرصة لتطوير علاقة شبيهة بالعلاقات الأسرية الطبيعية. وفي حالة الرضع، يحث مقدمو الرعاية على ممارسة المزيد من الاتصال الجسدي والتحدث مع الأطفال والنظر في عيونهم أثناء تغيير حفاضاتهم وما إلى ذلك من الأعمال. وهذه التدابير، على الرغم من بساطتها، يمكن أن تحدث تأثيرا يدوم مدى الحياة.
Bog aan la aqoon