لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور * فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل * ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور (سورة سبأ الآيات من 15 إلى 17).
وغني عن البيان أن القرآن الكريم في هذه الآيات يشير إلى تصدع واحد من التصدعات التي أصابت السد أكثر من مرة، فيما بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن السادس بعده، وكان منها ذلك الذي حدث سنة 115ق.م، والذي حدث سنة 450م، وسنة 540م، ولا نعلم علم اليقين إلى أيها يشير القرآن الكريم.
وكتب الهمداني في كتاب «الإكليل» منذ عشرة قرون عن السد ما ملخصه: «سبأ كثيرة العجائب، والجنتان عن يمين السد ويساره، وهما اليوم غامرتان، وإنما عفتا لما اندحق السد، أما مقاسم الماء من مداخر السد فيما بين الضياع فقائمة كأن صانعها فرغ من عملها بالأمس.» ولقد ظل الناس في شك من أمر السد بعد رواية الهمداني حتى تمكن المستشرق الفرنسي أرنو من الوصول إلى مأرب سنة 1843م، وشاهد آثاره ورسم له خريطة ووصفه وصفا جاء مطابقا في مجموعة لما قاله الهمداني.
ورد في الجزء الثاني من «رحلة إلى بلاد العرب السعيدة» للأستاذ نزيه العظم آخر من زاروا مأرب ما خلاصته:
على مسافة 145 كيلومتر تقريبا إلى الشرق الشمالي من صنعاء، تجتمع سيول اليمن الغربية مع السيل الذي يأتي من الشمال، والسيل الذي يأتي من الجنوب، وتؤلف جميع هذه السيول شبه بحيرة كبيرة مستديرة ومرتفعة من جهة الغرب والشمال والجنوب، ومنخفضة من جهة الشرق حيث تسير جميعها شرقا في مجرى سيل واحد يطلق عليه اسم أكبرها أي اسم ذنه «إذنه» وتدخل جميعها في واد كبير في جبل يقال له: بلق، فنقسمه إلى جبلين؛ الشمالي ويقال له: بلق الأيسر، والجنوبي ويطلق عليه: بلق الأيمن؛ لأنه واقع على يمين الآتي إلى مأرب، ويزداد اتساع الوادي بين البلقين كلما سار الإنسان إلى جهة الشرق إلى أن يبلغ عرضه 500 متر، ثم يأخذ في الضيق إلى أن يبلغ نحو 175 مترا في مخرجه بآخر الجبلين بمكان يقال له مربط الدم، وهو المكان الذي بني فيه سد العرم، ولم يبق سيل للعرم للسد ههنا أثرا غير مخرج الماء، وهو كناية عن جدار مبني بالتوازي إلى جانب جبل بلق الأيمن، وفيه مخرج واحد للماء قائم إلى جانب الجبل وعرضه أربعة أمتار ونصف تقريبا، وجداره الواحد هو عبارة عن صخرة عظيمة في جانب الجبل عليها بعض الكتابة الحميرية الآتي نص ترجمتها: «يثعمر بين بن سمهعلي ينوف حاكم سبأ، ثقب الحجر الرخامي في حوض حبايض في الجهة الشمالية.»
هذا خلاصة بعض ما كتبه آخر رائد، استطاع أن يظفر من إمام اليمن بتصريح بزيارة مأرب في سنة 1936. (7-1) وصف السد والغرض منه وتصدعه
ليست ببلاد اليمن أنهار دائمة الجريان، ولكن تنزل بها أمطار غزيرة في فصل واحد من فصول السنة هو الصيف، فتخلف الأمطار سيول عظيمة تنساب في الأودية بين الجبال، فيجري بعضها إلى البحر، وينساب بعضها في الصحاري، وتكون في بعض الأحيان هذه الأمطار بغزارة حتى تكون خطرا على الزراعة، فإذا ولى فصل المطر ظمئ القوم وجفت زروعهم، فدفعتهم الحاجة - وهي أم الاختراع كما يقولون - إلى اتقاء خطر الغريق وخطر الحريق فأقاموا الخزانات لضبط المياه واختزانها ورفعها إلى سفوح الجبال وتوزيعها على قدر الحاجة. وقد ذكر الهمداني أسماء عدة لسدود كان أهمها سد مأرب، وسد مأرب عبارة عن حائط ضخم أقيم في عرض وادي أذنه، ويبلغ طوله 800 ذراع وعرضه من أسفل 150 ذراعا، وارتفاعه بضعة عشر ذراعا، وكان ينتهي من أعلى بسطحين مائلين على زاوية منفرجة، تكسوهما طبقة من الحصى، والظاهر أنه بني بالتراب والحجارة، وكانت به منافذ ينصرف منها الماء إلى الجنتين اليمنى واليسرى، وكانوا يقفلونها بعوارض ضخمة من الخشب أو الحديد ويفتحونها متى شاءوا.
وتقع مدينة مأرب إلى الشمال الشرقي من السد، وبينها وبينه متسع من الأرض تبلغ مساحته 300 ميل مربع كان قفرا قاحلا، فأصبح بعد تدبير الماء بالسد غياضا وبساتين هي المعبر عنها بالجنتين اليمنى واليسرى.
وقد اختلف مؤرخو العرب فيمن بنى السد؛ فقيل: بنته بلقيس. وقيل: حمير. وقيل: سبأ. وقد أشرنا في الفقرة السابقة إلى ترجمة النقش الذي نقله الأستاذ نزيه العظم، ومنه يستنتج أن يثعمر بين بن سمعهلي ينوف اشترك في بناء السد، وقد ترجم الأستاذ مولر نقشا وجد على الجانب الأيسر نص ترجمته «أن سمهعلي ينوف بن زمر على مكارب سبأ اخترق بلق وبنى رحب لتسهيل الري.» وسمهعلي هذا هو والد يثعمر المذكور، ويستنتج أن كلا منهما بنى حائطا، وكلاهما من ملوك القرن الثامن قبل الميلاد، ولعلهما أول من قام ببناء السد، ولكنهما لم يتمكنا من إتمامه، فأتمه أخلافهما الذين ذكرت أسماء بعضهم في أماكن متعددة من السد، وإذن نستطيع أن نقرر أن السد لم يتم في عهد ملك واحد، شأن كل مشيدة ضخمة، وليس لروايات العرب في ضوء هذه النقوش نصيب من الصحة.
أما تصدع السد فالظاهر - كما قال الأستاذ الخضري في الجزء الأول من تاريخ الأمم الإسلامية - أنه لما تطاولت الأزمان على ذلك السد أهمل من شأنه فتصدعت جوانبه، ولم يحمل هجمات السيول المتواردة عليه والمياه المحجوزة خلفه فانكسر، وفاضت المياه على ما أمامه من القرى والمزارع فأتلفتها، وكان ذلك حوالي سنة 115 أو 120 قبل الميلاد كما قاله العالم سيديو؛ أي قبل الهجرة بسبعة قرون ونصف قرن تقريبا، وكان تصدعه الحد الفاصل بين سقوط سبأ وقيام دولة حمير، وقد أثبتت الكشوف الحديثة أن السد رمم بعد ذلك التصدع المشهور عدة مرات، بدليل أنهم حصلوا على نقش بين أنقاض ذلك السد يرجع إلى عهد أبرهة الحبشي في منتصف القرن السادس الميلادي في سنة 542م أو 543م، وخلاصته أن أبرهة جاءه النبأ بتهدم السد فبعث إلى القبائل بإيفاد الحجارة والأخشاب والرصاص لترميمه، فرمم واستغرق العمل في ذلك زهاء السنة.
Bog aan la aqoon