Ma Bacd Hadatha: Muqaddima Qasira Jid ahaan
ما بعد الحداثة: مقدمة قصيرة جدا
Noocyada
لقد وجد بالتأكيد أسلوب عالمي محدد من الكتابة، ساد بين رجال النخبة الأوروبيين ممن تمتعوا بنفس نمط الحياة الموسر، لكن هذه الميزة التواصلية العظيمة القيمة للغة الفرنسية اقتصرت على أعضاء تلك الطبقة ليس إلا، فلم تمتد قط خارجها؛ أي لم تصل مطلقا إلى قلب الجماهير.
رولان بارت، «الأعمال الكاملة»، المجلد الأول (1942-1965)
فضل ما بعد الحداثيين تلاعبا بألفاظ ذات إيحاءات على منطق بطيء التطور ومشبوه سياسيا؛ مما أسفر عن نشأة نظرية أدبية أكثر منها فلسفية، نادرا ما توصلت إلى استنتاجات واضحة أو قابلة للاختبار في إطار تجريبي، لا لشيء إلا لصعوبة التأكد من معناها. أدى ذلك إلى تحمل أتباع أساتذة هذه النظرية لعبء مقبول من جانبهم؛ ألا وهو تقديم الترجمة التفسيرية للنظرية والدفاع عنها؛ إذ كتب الأساتذة الفرنسيون بأسلوب طليعي راسخ يعادي الوضوح المميز لتراثهم القومي. وقد كانت آلاف الأصداء والاقتباسات - والتفسيرات الخاطئة المتوقعة - المستقاة من كتاباتهم الغامضة هي ما شكلت العقلية الجمعية المدعية والمشوشة غالبا لدى أنصار ما بعد الحداثة.
نقدم هنا مثالا على جملة تتجاوز بمراحل مفهوم اللانموذجية، وقد فازت بالمركز الثاني في مسابقة الكتابة الرديئة التي أعلنت عنها مجلة «فيلوسفي آند ليترتشر» العلمية. ربما تتضح الجملة للقارئ مع نهاية هذا الكتاب وربما لا، وهي مقتبسة من كتاب هومي بابا «موقع الثقافة» (1994) الذي كثيرا ما يشار إليه:
إذا كان من الممكن - لفترة زمنية قصيرة - إحصاء حيل الرغبة لأغراض تتعلق بالانضباط، فسرعان ما قد ينظر إلى تكرار الذنب، والتبرير، والنظريات العلمية الزائفة، والخرافة، والسلطات غير الشرعية والتصنيف الكاذب؛ على أنه جهد يائس من أجل الوصول عادة إلى «تطبيع» الاضطراب الكائن في خطاب الانشقاق الذي ينتهك المزاعم التنويرية العقلانية المرتبطة بصياغته الواضحة.
لذا، نلاحظ تناقضا وتوترا قويا بين ما بعد الحداثة المستقاة من المثقفين الفرنسيين، وبين الفكر الفلسفي الليبرالي الأنجلو أمريكي السائد في هذه الحقبة؛ إذ يتسم الاتجاه الأخير بتشككه البالغ - في إطار ما بعد أورويلي - في اللغة الاصطلاحية، والتركيب الفخم، و«الأيديولوجية» المستقاة من الفكر الماركسي. وفي فترة الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين، كان هذا الاتجاه شديد التمسك بمناهج مختلفة للغاية، ولا سيما بفكرة أن على الفلسفة استخدام «لغة عادية» يفهمها الجميع، وأن تهدف إلى تقديم أعلى درجة من الوضوح حتى إن كانت متخصصة. وهكذا استخدمت الأعمال الفلسفية النموذجية المكتوبة بالإنجليزية - بدءا من «مفهوم العقل» (1949) لجيلبرت رايل، وانتهاء ب «نظرية العدالة» (1971) لجون راولز - تلك المناهج التماسا لمنهج توافقي وتعاوني في الأساس، وطلبا لمزيد من التوضيح والتصحيح التدريجي من قبل جموع المشتغلين بالفلسفة (التي قد تستجيب لها السلطة الأصلية جيدا بالتأكيد، كما فعل راولز في كتابه اللاحق «الليبرالية السياسية»، 1993). تأثر ذلك الاتجاه الفكري في هذا المجال تأثرا كبيرا بنموذج التعاون العلمي مثلما تأثر بالمناهج السقراطية. لكن أفكار ما بعد الحداثة - على الرغم من انتماءاتها الماركسية وطموحاتها السياسية - لم تعتزم قط التلاؤم مع أي إطار تعاوني وتوافقي من هذا النوع؛ إذ آمن الكثير من أتباع ما بعد الحداثة أن هذا المنهج سيؤدي ببساطة إلى إعادة إنتاج رؤية برجوازية للعالم، وبأنه يهدف إلى تحقيق قبول عالمي غير مبرر. إن ما بعد الحداثة الفرنسية تبدو من ناحية الوريث الشرعي للحركة السريالية التي حاولت كذلك تعطيل الطرق «الطبيعية» المفترضة لرؤية الأشياء.
في رأي الكثير من أتباع ما بعد الحداثة، يكمن الخطر - والهدف كذلك - من دمج حوارات فلسفية ونظرية في ثنايا لغة أدبية منمقة في أن يصبح النص بهذه الطريقة مفتوحا لشتى صور التفسيرات. يوجد - كما سنرى لاحقا - لاعقلانية متوغلة في قلب ما بعد الحداثة - نوع من فقدان الأمل في وظائف المنطق العامة المستقاة من عصر التنوير - لا نجدها في أي من المناهج الفكرية الأخرى في أواخر القرن العشرين (على سبيل المثال، فيما يتعلق بتأثير علم الإدراك على اللغويات أو استخدام النماذج الداروينية لتفسير التطور العقلي). غالبا ما يروج الناشرون الكتب التي تحمل آراء ما بعد حداثية، لا على أساس ما تطرحه من فرضيات أو نقاشات محفزة، بل بسبب «استخدامها للنظرية»، وبسبب «آرائها المستبصرة»، و«مداخلاتها»، والأسئلة التي «تعالجها» (لا الإجابات التي تقدمها).
فيما يلي نعرض بعض الفروق العامة بين فلسفة وأخلاقيات ما بعد الحداثة وما تتضمنه من جماليات وتطبيقات لعلم الاجتماع السياسي. تختلف مقاييس الانتماء لما بعد الحداثة اختلافا كبيرا في المجالات الثلاثة كافة؛ إذ إن مصطلح «ما بعد حداثي» في حد ذاته يجذب الانتباه إلى حقبة تاريخية وتضمينات أيديولوجية في آن واحد. إن زعم كون أي عمل فني أو عقلية مفكر أو ممارسة اجتماعية تجسد مبادئ ما بعد الحداثة، أو تشخص بدقة «الحالة الاجتماعية للمذهب ما بعد الحداثي»؛ ستعتمد إذن على المعايير المتنوعة للغاية التي تسيطر على أذهان معظم المعلقين على هذا الموضوع، وأنا منهم. إلا أنني آمل أن أقدم فيما يلي رؤية عامة توافقية لما بعد الحداثة.
سوف أقدم الأفكار الأهم من بين مجموعة الأفكار الضخمة المرتبطة بالموضوع، لكني لن أستطيع - في المساحة المتاحة لي - أن أبدي عناية كبيرة بالاختلافات المثيرة للاهتمام بينها. وسأركز على ما يبدو لي معبرا عن أطول أفكار ما بعد الحداثة عمرا وأكثرها قابلية للتطبيق، لا سيما تلك التي قد تساعدنا في تمييز الفن المبتكر والممارسات الثقافية السائدة منذ منتصف الستينيات واستيعابها.
علينا توقع اعتبار الكثير من أفكار ما بعد الحداثة مؤثرة ومثيرة للغاية، وتحتل مكانة رئيسية في بعض الأعمال الفنية التجريبية الجيدة، لكنها في أفضل حالاتها مشوشة وفي أسوأها غير صادقة؛ وهو أمر عادي؛ إذ إن الأفكار الرئيسية الرائدة في العديد من العصور الثقافية عرضة لهذا النقد نفسه. فما إن تكتشف تلك الأفكار حتى يعاد تفسيرها (مثل فكرة الخيال في الحركة الرومانسية)، أو تئول إلى الزوال (مثل فكرة التنويم المغناطيسي في الطب). نجد هذه السمة في جميع الحركات الفكرية المتطرفة، ومن بينها ما بعد الحداثة. لا أحد الآن يلتزم تماما بالرؤية الرومانسية للخيال، مع أن وظائف الخيال لا تزال أحد الموضوعات المحورية والدائمة، كذلك يختلف التنويم المغناطيسي في القرن الثامن عشر اختلافا كبيرا عن الشكل الذي صار عليه في القرن العشرين. بوجه عام، أدت نشأة الأفكار المتطرفة (وكذلك الأحزاب السياسية المتطرفة) في القرن العشرين إلى حالة تحرر من الوهم تلتها عملية تعديل، وهو ما يبدو بالفعل المصير الذي واجهته ما بعد الحداثة، في الفترة من ستينيات إلى تسعينيات القرن العشرين. وفي النهاية، فقد استمرت زمنا يعادل فترة الحداثة العليا في الحقبة السابقة على الحرب، التي تعتبر ما بعد الحداثة - في أعين مناصريها - بديلها التقدمي على المستوى السياسي، بينما يرى معارضوها أنها نزعها الأخير.
Bog aan la aqoon