Ma Bacd Hadatha: Muqaddima Qasira Jid ahaan
ما بعد الحداثة: مقدمة قصيرة جدا
Noocyada
موسيقى ما بعد الحداثة
لا يفرد هذا الكتاب الكثير من صفحاته للموسيقى، وهو ما يرجع جزئيا إلى تخلي الكثير من المؤلفين الموسيقيين بالفعل - قبل الحقبة التي نتناولها بزمن طويل - عن الأعراف السابقة الشبيهة بما هاجمته حركة ما بعد الحداثة؛ إذ نبذوا - على سبيل المثال - الترتيب السردي اللحني التقليدي في العمل الموسيقي، ونزعوا كذلك إلى رفض تأثير المفكرين السابقين (المهيمنين) ممن سعوا إلى تنظيم المقطوعة الموسيقية تنظيما كليا؛ بدءا من شونبرج وأسلوب الاثنتي عشرة نغمة، وانتهاء بأسلوب المجموعات المنظمة كليا الذي نادى به بوليز وغيره في فترة الستينيات من القرن العشرين. فلم يعد الالتزام بتلك الأساليب الشكلية الحداثية يسيطر على الاهتمام. بالطبع، نزع الكثير من المؤلفين الموسيقيين قبل ذلك إلى ترك المواصفات النظرية، التي تميز الأساليب الجذابة، تملي أوامرها على أعمالهم. لكن مع أواخر الستينيات، تخلى الكثير من المؤلفين الموسيقيين عن حلم التنظيم الدقيق نظريا للنغمات، وتبنوا نطاقا كاملا من الاستراتيجيات التي تتوافق مع تعددية فكر ما بعد الحداثة، حتى وإن لم تكن مصدر إلهام كبيرا لهم.
رغم ذلك، توجد بعض الألحان التي تتشابه تشابها كبيرا إلى حد ما مع غيرها من أعمال ما بعد الحداثة الفنية، أو تلك الأعمال التي تأثرت بها. على سبيل المثال، توظف الحركة الثانية من مقطوعة «سيمفونية» (1968) للمؤلف الموسيقي لوتشيانو بيريو الادعاء الأكبر المتمثل في الجزء المحوري من اللحن الموسيقي المرح في سيمفونية مالر الثانية - الذي يتحكم تقريبا في الحركة الإيقاعية للسيمفونية - لكنها تحلله أو تفككه بعد ذلك في أجزائها التالية. بالإضافة إلى ذلك، جمع بيريو اقتباسات من شتى أنواع المصادر الموسيقية - أجزاء من ألحان باخ وشونبرج وديبوسي («مقطوعة البحر»)، ورافيل («رقصة الفالس») وغيرها - فيما يشبه كولاجا ساخرا يعج بالتداخل النصي، ثم مزج ذلك مع أداء لسطور مقتبسة من رواية بيكيت «اللامسمى»، وشعارات من «أحداث مايو 1968» في فرنسا، واقتباسات من ليفي شتراوس ومارتن لوثر كينج وغيرهما. (وقد أضاف فيما بعد حركة خامسة إلى السيمفونية بهدف تقديم تعليق فوقي ما بعد حداثي نموذجي يتسم بالوعي الذاتي على الحركات السابقة.) وفي وسع المرء الجزم بأن مقطوعته «الأنشودة 1» (1972) تجسد تيار الوعي لدى مغنية الأوبرا التي تنشدها كما تنشد الملاحم؛ إذ تعج بأجزاء متناثرة من مجموعة الأدوار التي أدتها على المسرح؛ مما يوضح أن ذاتيتها قد شيدت أو «شكلت» جزئيا على يد المجتمع من خلال النصوص الموسيقية التي تتردد في عقلها.
نلاحظ كذلك هذا الكولاج الانتقائي المتناص من الاقتباسات - الذي يذكرنا من خلال افتقاره للتسلسل المنطقي بالكثير من لوحات ما بعد الحداثة (مثل أعمال سال أو شنوبل) - في أعمال ألفريد شنيتكه وتورو تاكيميتسو (كما نجد في مقطوعته «اقتباسات من حلم» المتأثرة بأسلوب ديبوسي) والكثير غيرهم. تعكس فنون الكولاج المتعدد الأساليب لدى شنيتكه استخداما لا مباليا للمصادر الموسيقية «الراقية» و«المبتذلة»؛ ومن ثم يتضمن عمله الموسيقي «الكونشيرتو الكبير رقم 1» (1977) - حسب وصف مقدمة المقطوعة الموسيقية - «صيغا وأشكالا من موسيقى الباروك، وكروماتية حرة، وفواصل مفرطة الصغر، إلى جانب موسيقى رائجة مبتذلة تقتحم المقطوعة وكأنها قادمة من خارجها محدثة تأثيرا هداما.»
لكن معظم الإنتاج الموسيقي في هذه الفترة يضم أعمالا تدين بالفضل - على نحو معقد - إلى الماضي، أو تتنافس معه مباشرة، أو تتبع أسلوبا تعدديا يهدف إلى دمج الأساليب المتاحة، لكن هذا يعكس رغم ذلك الطابع المستقل تماما الذي يميز الموسيقى الكلاسيكية التقليدية، كما نجد - على سبيل المثال - في مقطوعة ليجيتي الرائعة «كونشيرتو الكمان» (1990 / 1992). لقد قدم المؤلفون الموسيقيون المعاصرون إبداعا رائعا في مجال ابتكار لغات جديدة (مثل استخدام ليجيتي المتتابعات الإيقاعية المتعددة الأوزان البالغة التعقيد، واستغلال النشاز الناتج عن النغمات التوافقية الطبيعية وغيرها من الأساليب ). إن السبب الرئيسي في بعد هذا النوع من الموسيقى التجريبية الأصيلة عن مفهوم ما بعد الحداثة يكمن في صعوبة تأليف موسيقى دون أن تؤدي الكلمات دور النص أو تنقل تلك الرسائل المفاهيمية المتناقضة الحاسمة التي نجدها في الأشكال الأخرى من فن ما بعد الحداثة. أما استثناءات هذه القاعدة - مثل مقطوعة البيانو الصامتة الشهيرة للمؤلف الموسيقي كاديج، التي تحمل عنوان «4 دقائق و33 ثانية» (1952) - فهي تثبتها ليس إلا، ولم تستمر طويلا في قاعات الحفلات وحل محلها الفن الأدائي في المعارض الفنية. فمن الصعب للغاية أن تولد الموسيقى وحدها أي نوع من التأثير السياسي إلا من خلال جدلية الارتباط المجازي الشديدة الالتباس لدى المستمع، كما يتضح في المجادلات العقيمة حول وجود تعبيرات ساخرة معادية لستالين في سيمفونيات شوستاكوفيتش.
إن الأوبرا والموسيقى الغنائية هي المجالات التي قد نتوقع اقترابها نسبيا من التزامات ما بعد الحداثة، لكن حتى هنا نلاحظ على ما يبدو إخلاصا لعالم مستقر نسبيا ووجوديا يتسم بالترابط المنطقي، كما يتضح - على سبيل المثال - في أوبرا «يوناني» (1988) للموسيقار تيرنيدج، أو «قناع أورفيوس» (1973-1983) للموسيقار بيرتويسل، أو «أحمر خدود» (1994-1995) للموسيقار أديس، أو «نيكسون في الصين» (1987) للموسيقار آدامز. تختلف تلك الأمثلة اختلافا كبيرا عن النصوص السردية الخيالية التي عرضناها سابقا. يستثنى من هذا الاتجاه أوبرا «أينشتاين على الشاطئ» (1976) للمؤلف الموسيقي فيليب جلاس - وهي عمل مشترك مع الفنان التبسيطي روبرت ويلسون - وتخلو من أي شكل من أشكال السرد المترابط منطقيا. تتوافق المبادئ السياسية داخل الكثير من المؤلفات الموسيقية في هذه الحقبة مع التصورات اليسارية لما بعد الحداثة، كما نجد - على سبيل المثال - في أعمال المؤلفين نونو وهينزي، لكن لا يبدو عموما أن أيا من المؤلفين الموسيقيين الكبار قد احتاج إلى تبني أي من التعهدات التي يتجلى انتماؤها لنظرية ما بعد الحداثة. إن أقصى ما يستطيع المرء قوله هو أن المؤلفين الموسيقيين - مثل أتباع ما بعد الحداثة - كانوا مهووسين غالبا بطبيعة اللغة ووظيفتها، وما تحتويه من تفكك واستغلال للتناقضات النغمية-الحرة، وبنى خفية تتحكم فيها الأعراف تحكما كليا ، وبطرق استخدام هذه اللغة لتفكيك الأنماط والعمليات السابقة.
لكن هذه الأمثلة تجمعها علاقة فضفاضة بالتفكيكية حسب مفهومها في نظرية ما بعد الحداثة؛ ففي وسع المرء أن يزعم (كما فعل الكثيرون) أن المدرسة التكعيبية «فككت» المدرسة الانطباعية وما بعد الانطباعية. لكن هذه العبارة ليست سوى مقارنة ولا تدعي أي معرفة بالنيات التاريخية لدى بيكاسو وبراك. لم ينشغل سوى عدد قليل من المؤلفين الموسيقيين في هذه الحقبة بمعايرة من سبقوهم ب «تناقضاتهم الداخلية». وحتى بيير بوليز - الذي ندد بالماضي قبل ذلك في عبارته «لقد مات شونبرج» - يقود حاليا أوركسترا فيينا الموسيقية مقدما ألحان بروكنر. وعلى أقل تقدير، تجنبت الكثير من المؤلفات الموسيقية منذ عام 1970 - لا سيما من خلال استعدادها الاستثنائي لمزج أساليب المؤلفين الموسيقيين الشباب - بعضا من المعارك الجدلية التي سادت في الماضي، والتي وضعت شونبرج في مواجهة سترافينسكي، والموسيقى التسلسلية النظرية في مواجهة الموسيقى العفوية في فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. وفي هذا الصدد، فإنها تدين بالكثير إلى مناخ الأفكار الذي خلقته حركة ما بعد الحداثة.
الفن والنظرية
كما حاولت أن أوضح، فإن الاتحاد بين الفن والنظرية هو الدليل الأبرز على تأثير ما بعد الحداثة، وهو ما يطور - في هذا السياق - الخط النظري («العلم»، القاعدة الفنية أو «القانون») الذي يتمتع بالفعل بتأثير كبير ويوجد في أجزاء من الحداثة العليا، كما نلاحظ في مدرسة باوهاوس الفنية، وموسيقى الاثنتي عشرة نغمة، وأعمال المعماري لو كوربوزييه، وحتى في الحركة السريالية وإن كان على نحو أقل دقة وأقل التزاما بالأسس العلمية بمراحل. قدمت نظرية ما بعد الحداثة فيضا من الأعمال الفنية التي يتمتع مبدعوها ونقادها بوعي ذاتي عميق حيال علاقتهم باللغة عموما، وبلغات الفن المقبولة في السابق تحديدا. ومع نشأة ما بعد الحداثة الأكاديمية والتأثير المتزايد للمواقف السياسية في فترة الستينيات من القرن العشرين (ظهر كلاهما، في الواقع، بعدما أرست الحركة الطليعية التجريبية في فترة ما بعد الحرب العديد من الأساليب الجديدة في مجالات الفنون)؛ أبدى كثير من الفنانين تركيزا ملحوظا على موقفهم النظري والسياسي، وطالبوا القارئ والمشاهد بأن يعي لغة معرفة ما بعد الحداثة، التي كثيرا ما دعت الحاجة إليها كي تضيف الأعمال الفنية البسيطة والمملة غالبا، وتكملها وتخلع عليها هالة نقدية زائفة، مثلما رأينا في كومة الطوب التي بدأنا بها الكتاب.
إن الكثير من الأعمال الحداثية كان يهدف إلى بلوغ نوع من الاستقلال الواضح (على سبيل المثال، كل ما تحتاجه لفهم مجموعة قصائد «الرباعيات الأربع» على وجه التحديد للشاعر تي إس إليوت هو الانكباب على معانيها الداخلية ... والتمتع بأكبر قدر ممكن من المعرفة «الحياتية»، بما في ذلك المعرفة باللاهوت والتاريخ)، لكن أعمال ما بعد الحداثة لا تكتمل دون المناقشات النقدية التي يفترض أن تحيط بها. ويعتبر هذا «الانعكاس الذاتي التصوري» في أغلب الأحيان علامة على الانتماء إلى فكر ما بعد الحداثة؛ إذ يرى بعد الحداثيين أن الإبداع الفني يستلزم قدرا كبيرا من الوعي الذاتي النقدي يتجاوز مدرسة الحداثة (وهو الرأي الذي أدى - رغم ذلك - إلى بدايات هذا التزاوج المنذر بكارثة بين الفن والنخبوية الأكاديمية). ومن ثم، يتواطأ كل من الفنان والناقد من أجل المطالبة بالعلاقة «السليمة» بين العمل والفكرة، كما يعرضها الفنان، وكما يستجيب لها الجمهور.
Bog aan la aqoon