وينتهي مؤتمر أكسفورد وتبدأ عطلة الصيف عام 1928، ويقضي طه حسين وأسرته جانبا منها على ضفة بحيرة صغيرة في منطقة جبال الألب، يريد هو أن ينقطع فيها كل الانقطاع إلى القراءة والدرس، وتأبى أسرته إلا أن تخرجه قليلا للرياضة، يسيرون جميعا في الغابة يتتبعون مجرى غدير فيها، فيقول لزوجته إنه يجد في مصاحبة ذلك الغدير أنسا ولذة عظيمين، فتقول له: «كم تستطيع أن تجد من الأنس لو أرحت نفسك من بحوثك ومن فلسفة ليبنتز!» فيقول لها: «ولكنك تعلمين يا صاحبتي أن ليس إلى هذا من سبيل!»
وتقترب عطلة الصيف من نهايتها، وطه حسين يتطلع إلى العودة، فإنها سوف تتيح له أن يرى تلاميذه وزملاءه وأصدقاءه، ومنهم لطفي السيد وعبد الخالق ثروت، ولكن الصحف الفرنسية تقرأ عليه ذات صباح، فيعلم منها أن عبد الخالق ثروت باشا قد مات الليلة البارحة، في باريس.
في خلال السنوات التسع التي مضت منذ قدمه عبد الخالق ثروت باشا إلى طلابه في الجامعة، قامت بين الرجلين صلة قوية قوامها الإعجاب والمودة الصادقة، ولم يكن طه حسين يرى في ثروت زعيما من أصدق الزعماء حبا لوطنه ومقدرة على خدمته فحسب، بل كان يعده صديقا من أشرف الأصدقاء وأقربهم إلى قلبه، رجلا من أوفى الرجال وأجدرهم بالمحبة. وطه حسين يحس الآن أن الموت اختطف ثروت من مصر ومنه هو اختطافا، اختطفه الموت الذي اختطف من قبل أخته نفيسة وأخاه محمودا، يقول: «الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة لا غناء فيها ولا ثقة بها ولا معتمد، تبينت ذلك ولما أتجاوز الصبا، وتبينته مرة ومرة ومرة»، ويذكر كيف سمع نعي ثروت فلم يطق البقاء في المنزل، بل خرج هائما «لا أدري إلى أين أذهب، ولا أعرف ماذا أريد، وأنا أمشي على ساحل البحيرة لا أكاد أسمع اصطخاب أمواجها ولا أكاد أحس هذه الريح التي تعصف من حولي؛ لأني مغرق فيما أنا فيه من التفكير في ثروت، وفي الموت.»
ويجيء موعد السفر، ويصعد مع أسرته سلم الباخرة التي ستعود بهم إلى الإسكندرية، فيعلم أن السفينة تقل رفات ثروت، إنه إذن يعبر البحر معه ويرافق شخصه لآخر مرة. «مات ثروت ... والناس يقولون إن موته كارثة آلمت مصر كثيرا، وأفقدتها كثيرا، وأنا أعلم ذلك وأقدره، ولكني إنما أفكر في ثروت الصديق ... تعيش الأمم قبل الزعماء وتعيش الأمم بعد الزعماء، ولكن الصديق لا يعيش حقا إذا فقد الصديق، إنه يفقد جزءا من نفسه وقطعة من قلبه.»
يفكر طه حسين في زوجة ثروت التي كانت ترافق جثمانه: «لله زوج ثروت! سجينة في غرفتها على السفينة، منحدرة الدمع حتى لا تجد في عينيها دمعا، مؤرقة الليل لا تأوي إلى مضجع، منغصة النهار لا تطمئن إلى شيء ولا إلى أحد ...» وتصل الباخرة إلى الإسكندرية ويهبط منها جثمان ثروت، «ولله مصر كلها! إذ تستقبل عظيمها لتشيعه إلى حيث أراد الله أن يستقر إلى آخر الدهر.» •••
عندما تصل الأسرة إلى منزلها في مصر الجديدة، يعدو «مؤنس» وهو الآن في السابعة من عمره إلى الحديقة، يريد أن يرى كيف أصبحت بعد الغيبة عنها شهور الصيف، كيف صارت أشجار البوانسيانس الأربع التي يجلس في ظلها أبوه، هل نمت منذ فارقوا الدار؟ وهل أورقت؟ هل ازدهر الزهر عليها وتألق؟ يتلكأ في تلبية الدعوة المتكررة لدخول البيت، لأنه يريد أن يصف حال الحديقة بعد انقضاء الصيف لأبيه، على أنه لا بد الآن أن يأوي إلى الفراش، لا بد أن يستعد هو وأخته للعودة إلى مدرستيهما في الصباح، ولا بد للوالد كذلك أن يستأنف في الغد نشاطه في الجامعة. •••
القاهرة في خريف 1928 هي عاصمة غير التي تركها طه حسين أول الصيف، فقد نشرت بعض الصحف وثائق قيل إنها تمس نزاهة مصطفى النحاس المحامي
10
وسارع الملك فؤاد بإقالة النحاس باشا رئيس الوزراء، وعين لرياسة الوزارة أحد الوزيرين اللذين كانا يمثلان حزب الأحرار الدستوريين في وزارته، واستصدر الرئيس الجديد محمد محمود باشا، بسرعة، أمرا ملكيا بحل البرلمان وبوقفه عن الاجتماع مدة ثلاث سنوات على الأقل، وأعلن أنه ينوي أن يحكم البلاد بيد من حديد، بغير دستور، ولا تمثيل للشعب، ولا برلمان.
وطه حسين ساخط لهذه النكسة في حياة البلاد الدستورية، يؤكد للشيخ مصطفى عبد الرازق - الذي كان يسأله ألا يرى لوزارة محمد محمود أي مزايا - أنه لا توجد أبدا أي مزية تسوغ قيام الحكم الديكتاتوري، وأنه هو صديق شخصي لمحمد باشا محمود، ولكنه لا يقبل الديكتاتورية أبدا، ويستنكر أشد الاستنكار تعطيل الدستور الذي جاهدت الأمة لإصداره، مقررا أنها هي مصدر كل سلطة . •••
Bog aan la aqoon