إنه لا يستطيع إلا أن يكون صادقا مع نفسه، صادقا في عمله، صادقا في خدمة بلده وشبابه وثقافته بقدر ما يستطيع، فقد وهبه بلده الحياة، ووهبه العلم والنور، وفرضت عليه بذلك زكاة لن يتطهر إلا بأدائها، فإن على من تعلم أن يعلم غيره، وعلى من تنور أن ينشر النور من حوله، وعلى من أوتي فضيلة الصدق أن يحارب جهده رذيلة النفاق.
إنه يعود بخياله إلى أرض الصعيد الرطبة على شواطئ النيل، إلى مديرية المنيا وعزبة الكيلو والكتاب الذي كان يحفظ القرآن الكريم فيه، يعود فيذكر الفتاة الصغيرة الضريرة الذكية وغيرها من زملاء الكتاب الذين ضيعهم وأضاعهم على مصر الجهل والفقر. يتذكر ذلك كله، وتتوارد صورة حية على ذاكرته وهو مقيم في تلك القرية في إقليم سافوا في فرنسا، فيبدأ في إملاء هذه السطور:
لا يذكر لهذا اليوم اسما، ولا يستطيع أن يضعه حيث وضعه الله من الشهر والسنة، بل لا يستطيع أن يذكر من هذا اليوم وقتا بعينه، وإنما يقرب ذلك تقريبا، وأكبر ظنه أن هذا الوقت كان يقع من ذلك اليوم في فجره أو في عشائه، ويرجح ذلك لأنه يذكر أن وجهة تلقى في ذلك الوقت هواء فيه شيء من البرد الخفيف الذي لم تذهب به حرارة الشمس، ويرجح ذلك لأنه على جهله حقيقة النور والظلمة يكاد يذكر أنه تلقى حين خرج من البيت نورا هادئا خفيفا لطيفا، كأن الظلمة تغشى بعض حواشيه ...
ويستمر طه حسين في إملائه لا يتوقف، تتدفق الصفحات فينتهي بعد تسعة أيام من إملاء الجزء الأول من كتاب الأيام.
ويقبل خريف 1926 ويعود طه حسين إلى القاهرة لتواجهه النيابة يوم 19 أكتوبر 1926 بما اتهم به في بلاغ الأستاذ عبد الحميد البنان، فينتهي هذا التحقيق بأن «تحفظ أوراقه إداريا لأن القصد الجنائي غير متوفر ... والعبارات الماسة التي أوردها في بعض المواضع من كتابه إنما قد أوردها في سبيل البحث العلمي مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها.»
ويعود الأستاذ إلى كتابه يرفع منه فصلا ويضيف إليه فصولا ويصدره بعنوان جديد.
وتفتتح الدورة النيابية الجديدة في نوفمبر عام 1926، والنواب يثيرون فيها موضوعات جدية مفيدة خطيرة، إن الحكومة مستمرة في دفع حصة من نفقات الجيش في السودان بعد طرد الجيش المصري من هناك، فكيف تقبل الحكومة المصرية هذا الاستمرار؟! ومصر المستقلة ما زال للأجانب فيها امتيازات تعصمهم من المثول أمام القضاء المصري، وكيف تحتمل الحكومة المصرية هذا الوضع؟
وطه حسين سعيد لأن البرلمان والحكومة يأخذان عملهما مأخذ الجد، مستبشر بمستقبل الحياة البرلمانية في مصر رغم كل شيء. •••
وفي صيف 1927 يعقد مؤتمر الآثار في لبنان والشام وفلسطين، وتدعى إليه الجامعة المصرية التي ترشح طه حسين لتمثيلها فيه، ويقبل هو هذا الترشيح راضيا خاصة لأن أعضاء المؤتمر سوف يزورون القدس الشريف، وهو شديد الشوق لزيارتها.
وينتهي المؤتمر، ويقضي طه حسين جانبا من الصيف في لبنان في أحد الفنادق، يقابل فيه الممثل الكبير الأستاذ جورج أبيض وزوجته السيدة دولت، وكانت قد قرأت وحفظت رواية إليكترا التي عربها طه حسين، فألقت أمامه فقرات من ترجمته، وطه حسين يعجب بإلقائها، وفهمها، ويتمنى أن تتهيأ الفرصة لتمثل الرواية في مصر أمام الجمهور، ويتمنى أن تعنى مصر حكومة وشعبا بالمسرح وفنونه وأن تنشئ يوما معهدا خاصا لدراسة التمثيل وفنون المسرح، فإنه شديد الإيمان بما للمسرح من أهمية في تطور الأدب ورقيه.
Bog aan la aqoon