ويصمت عزام مرة أخرى، ويعود وجدان إلى العجب، ومن أين له أن يعلم هذه الهاجسة التي تلح في نفس أبيه؛ أن يكون ياسر هو الوجه الآخر له الذي عاش عمره يحن إليه ويقمعه حتى نجح في محوه من حياته؟ من أين لوجدان أن يعرف ماضي أبيه مع نرمين وحنين أبيه في هذه السنوات الطويلة إلى هذه الأيام العربيدة في حياته ، هذا الحنين الذي ينتهي دائما بأن يصبح عدما مع ذكريات كثيرة وآمال فاسقة وأفكار رعناء كلها حمق تراود النفس الإنسانية الدائمة التقلب ثم ما تلبث أن تمحى، ومضة من خاطر ما لاح حتى اختفى.
فإذا طال صمت عزام قال له وجدان: إن ياسر ابنك. ولا بد أن يكون ابنك شريفا.
وتصيب الكلمة عزام في المكان الذي يخشاه. وكم كرر وجدان المسكين هذه الكلمة وهو يظن أنها تسعد أباه ولا يدري أنه بها يزيد أباه خوفا على ابنه. فلم يكن أحد يعلم أن عزام كان في وقت ما شخصين في شخص، وضميرين في ضمير، وإقبالا وإحجاما في وقت معا، وعربدة وتعبدا في لحظة واحدة.
ويقول عزام: ماذا ترى مفهوم الشرف عندك؟ - نقاء النفس وتوافق العمل مع الضمير. - لقد ضيقت على نفسك وعلى الناس. كان الله في عونك. - فماذا تراه أنت؟ - ربما أكون أنا الجاني عليك يا بني يا وجدان، فأنا أيضا أراه كما تراه. ولكن هناك كثيرون يرون أن الدوران حول الحياة، وقبول الحيلة، والبحث عن الأحسن من الناحية المادية؛ هو الحياة. ويطمئنون أنفسهم أنهم ما داموا هم لا يسرقون ولا يرتشون ولا يرتكبون ما يحرمه القانون فهم شرفاء، وأنهم أذكى الناس في هذه الحياة، وأنهم فهموها في حين جهلها مثلك ومثلي. - وماذا ترى في هؤلاء؟ - لو عرضت علي قضاياهم في محكمة القانون برأتهم، ولو عرضت علي قضاياهم في دنيا الضمير حكمت عليهم بالعقاب. •••
كان ياسر قد تخرج في كلية التجارة وأدى الخدمة العسكرية، وقد استطاع بصداقته مع رؤسائه من الضباط والجنود أن يجعلها خدمة هينة لا تعب فيها ولا نصب. وكان يبيت أغلب الليالي في بيته. وكان وهو في الخدمة العسكرية يخطط لمصيره. وانتهى به الرأي أن خير مكان له بنك من البنوك الأجنبية الجديدة، ولن يجد عسرا في العمل به بما له من أبوة، فليس المستشار وظيفة هينة في الحياة، وبما يملك أيضا من لغة أجنبية يتقنها كل الإتقان.
وصح ما توقعه، وتسلم عمله في البنك البريطاني الدولي فور انتهائه من الخدمة.
البنك الأجنبي حياة مستقلة عن الحياة في مصر. المرتبات خيالية، ولكنهم يأخذون من الموظف عملا أكثر بكثير من مرتباتهم الهائلة، فالمواعيد محددة، والعمل طوال اليوم. لا يجد الموظف لحظة خالية، فهم حين قدروا مرتباتهم كانوا يعلمون أنهم الكاسبون. وهم يختارون لوظائفهم في حرية مطلقة، وبطبيعة الحال كثيرا ما تكون للوساطة يد في هذا الاختيار. ولكن البنك أيضا يقدر أن يكون صاحب هذه الوساطة شخصا يستطيع أن يستفيد منه البنك الفائدة المرجوة. ••• - فإذا أودع شخص ما - مثلا - مليون جنيه في البنك، وطلب أن يعين ابنه أو ابنته في البنك، فكيف يجرؤ البنك أن يرفض له مطلبه؟!
وهكذا كان زملاء ياسر من نوع خاص، يستحيل أن يجتمعوا في مكان واحد، فكلهم هناك صاحب شفيع، إن لم يكن شفيعا من مال فهو شفيع من منصب. والمال دائما يكون مالا جما. والمنصب غالبا ما يكون منصبا ذا خطر. وهكذا وجد ياسر نفسه محاطا بقوم أغلبهم أغنى منه مئات إن لم يكن آلاف المرات، أو هو محاط بمن آباؤهم لا يقلون عن أبيه مكانة وخطر شأن.
الفصل السادس
الحاج خليل المعلاوي نشأ في قرية منشأة البكري في محافظة الغربية، والعجيب في شأنه أنه نفر من الفلاحة مع أن أباه ترك له فدانين وست قراريط باعها وفتح في طنطا محلا لقطع غيار سيارات الحرث. وهو عمل نادرا ما يقبل عليه فلاح؛ لأنه يحتاج إلى خبرة ميكانيكية. ولكن يبدو أن الحاج خليل كان هاويا لسيارات الحرث في صغره. وكان يمشي مع السائقين أينما حرثوا، فعرف هذه القطع واتخذ خطوته الجريئة هذه دون أن يستشير أحدا وفتح المحل. ودهش أبناء القرية جميعا حين وجدوا أن خليل المعلاوي الذي أصبح الحاج خليل نجح في عمله نجاحا باهرا وعادت عليه هذه التجارة بالمال الموفور.
Bog aan la aqoon