وتكرر هذا الحوار القصير فوجد وجدان نفسه يقول لإسماعيل بعد أن طلب إليه أن يترك قضية حاول أن يناقشه فيها: أتراك يا أستاذ إسماعيل تعاملني معاملة خاصة، لأن أبي صديقك؟ - مطلقا، أنا لا أعاملك معاملة خاصة. - إذن فلماذا لا تناقشني في القضايا التي أعرضها عليك؟ - هذه هي أصول العمل. - هذه هي الأصول؟ - أولا: أنت في أول عهدك بالمحاماة، ولا بد أن تقتنع كل الاقتناع بالقضية التي تترافع فيها، حتى ولو كانت المرافعة مكتوبة. - ولماذا لا تحاول أن تقنعني أنت؟ فلا بد أنك وأنت من أكبر المحامين في مصر قبلت هذه القضية لأسباب قانونية تجعلها مرجحة الكسب. - هذه هي الخطوة التالية. حين تتقن كتابة المذكرات من ناحية الشكل، وأجد مذكراتك قد أحاطت بكل النقاط القوية في القضية، وردت على مواطن الضعف فيها بالنسبة لنا، تأتي مرحلة مناقشتك. - أشكرك، أنا فعلا اقتنعت. - إن كونك ابن صديقي سيجعلني أضغط عليك بما لا أفعل مع المحامين الآخرين الذين يعملون معي، فلا تخف. - شكرا.
استراح وجدان لما قاله له أستاذه، ووجده معقولا يتمشى مع منطق الأمور. وهكذا أصبح يكتب المذكرات التي يطمئن فيها إلى العدالة المطلقة، فسعد بأيامه هذه سعادة لا مثيل لها. واطمأن بها ضميره لا ينازعه ولا يثير عليه ثائرة من شك. •••
كان وجدان جالسا في مكتبه المخصص له في مكتب الأستاذ إسماعيل العدوي حين طرق الباب ودخل عبد السميع وكيل المكتب: أهلا عبد السميع. - أهلا بك يا سعادة البك. بالخارج آنسة عندها قضية في الإصلاح الزراعي، استأذنت لها البك فأمر أن تقابلها أنت. - عجيبة. - لا عجب هناك. - لماذا؟ - يبدو أن والدها كان صديق البك، ويبدو أن المكتب سيطلع بالقضية بلا شيء. - بلاش. - آه من القضايا التي نسميها قضية مكتب. - وهل هذا يعني ألا يقابلها الأستاذ إسماعيل؟ - هو عادة يقابل للاتفاق على الأتعاب. والقضية هذه بلا أتعاب، ففيم المقابلة ووجع القلب؟ - ألم تقل إن أباها صديقه؟ - أقول كان صديقه. - يعني ... - يعني أبوها تعيش انت. - ما زلت لا أرى معنى ألا يقابلها، بل لعل مقابلتها أصبحت أكثر وجوبا. - هذا عند المحامين الطيبين أمثالك. - تقصد تقول السذج أمثالي. - العفو يا سعادة البك. - وبلا عفو أيضا. عبد السميع، لا بد أن أرى الأستاذ أولا قبل أن أقابل الآنسة التي تنتظر. فأنا لا أتصور أن أقابل زبائن، فهذا من شأن صاحب المكتب وحده في المقابلة الأولى، وأخشى أن تكون أنت قد فهمت خطأ.
وابتسم عبد السميع ابتسامة ساخرة مستخفة وحاول أن يخفيها وقال: أنا يا وجدان بك وكيل محام من أكثر من عشرين سنة، ومثلي لا يخطئ الفهم أبدا. وعلى كل حال سعادتك تفضل قابل البك.
وقصد وجدان إلى مكتب إسماعيل: مساء الخير، أهلا وجدان. هيه، هل قابلت الآنسة ميرفت؟ - إذن فعبد السميع لم يخطئ. - ولماذا تصورت أنه أخطأ؟
وقال وجدان في تردد: موكل جديد، وطبيعي أن تقابله حضرتك. - عجيبة، إنك مع حداثة عملك في المحاماة تعرف آداب المهنة هذه المعرفة. على كل حال أشكرك، أولا: أنت إنسان شريف غاية الشرف، بل لعلك مبالغ بعض الشيء في الشرف، ولا يمكن أن يحاول مثلك أن يأخذ موكلا من المكتب لحسابه الخاص مثلما يفعل بعض المحامين تحت التمرين، وثانيا: والد الآنسة ميرفت رحمة الله عليه كان صديقي، وقد كلمتني والدتها أمس واتفقت معها أن تأتي ميرفت إليك وتسلمك أوراق القضية. والمكتب لن يتقاضى أتعابا على القضية. - حسنا، سأذهب لمقابلتها إذن. - اقرأ الملف وأخبرني عن رأيك فيه .
وخرج وجدان من مكتب الأستاذ إسماعيل وقصد إلى مكتب عبد السميع، وبهره وهو على عتبة الباب وجه ملاك يشع فيه نور فيه مصالحة مع الحياة وتملكته نورانية شفيفة وردد في نفسه: سبحان الخلاق العظيم. وأوشك أن يلحظ الجالسون جميعا ما ارتسم على وجهه من بهر. أما عبد السميع فقد أدرك في اللحظة الأولى ما أصاب الأستاذ، ووقف عبد السميع، ومرت لحظات قبل أن يقول وجدان: عبد السميع. - أفندم يا وجدان بك. - الآنسة ميرفت تتفضل في مكتبي.
واستقر به المقام في الكرسي، ولكن ذرات كيانه جميعا كانت مشغولة بهذا الجمال الذي رآه عند عبد السميع، والذي لا يعرف عنه شيئا، والذي منعه مكانه في المكتب وحياؤه أن يحاول التعرف به.
وطرق الباب ودلفت ميرفت إلى حجرة المكتب. إنها ... - أنت؟! - أتعرفني؟
وتلعثم لحظات ثم قال: لا، أبدا، مطلقا! ولكن الحقيقة يا آنسة أنت حين رأيتك الآن في مكتب عبد السميع لم أتمالك نفسي من الإعجاب والتسبيح بصنع الله جل جلاله. أنا لم أقل هذا الكلام لأحد قط. ولا أظن أنني سأقوله لأحد أبدا؛ ولذلك أرجوك أن تنسيه وتعتبريه مجرد إبداء رأي لا شك أنك سمعت مثله كثيرا.
Bog aan la aqoon