بسم الله الرحمن الرحيم
وحسبنا الله ونعم الوكيل
... الحمد لله الذي شرف من فقه بالعلم والعمل ، وزينه بالهداية المقدرة في الأزل ، والصلاة والسلام على أشرف من خلقه الله عز وجل ، وعلى أصحابه المنزهين عن الفاحشة والسفاهة والزلل ، وبعد ...
Bogga 19
... فهذه رسالة مشتملة على بيان شروط تعليم العلوم ، وتعلمها المضطرة ، وعلى حصر أنواعها ، وبيان حدودها ، وفوائدها المشتهرة المحررة ، وسميتها باللؤلؤ النظيم ، في روم التعلم والتعليم .
... أما شروط تعلمها وتعليمها فاثنا عشر (¬1) :
أحدها : أن يقصد به ما وضع ذلك العلم له ، فلا يقصد به غير ذلك ، كاكتساب مال وجاه ، أو مغالبة خصم ، أو مكاثرة .
ثانيها ... : أن يقصد العلم الذي يتعلمه طباعه (¬2) ، إذ ليس كل أحد يصلح لتعلم العلوم ، ولا كل من يصلح لتعلمها يصلح / لجميعها ، ولا كل من يصلح لتعليمها يصلح 2ب لجميعها ، بل كل ميسر لما خلق له .
ثالثها ... : أن يعلم غاية ذلك العلم ؛ ليكون على ثقة من أمره .
رابعها ... : أن يستوعب ذلك العلم من أوله إلى آخره ، تصويرا وتصديقا .
خامسها ... : أن يقصد فيه الكتب الجيدة ، المستوعبة لجملة الفن .
وسادسها ... : أن يقرأ على شيخ مرشد أمين ناصح ، ولا يستبد بنفسه ، وذكائه .
سابعها ... : أن يذكر به الأقران والأنظار ؛ طلبا للتحقيق ، لا للمغالبة على الإفادة والاستفادة .
ثامنها ... : أنه إذا حصل ذلك العلم لا يضيعه بإهماله ، ولا يمنعه مستحقه ، لخبر (¬3) ( من علم علما نافعا وكتمه ، ألجمه الله تعالى يوم القيامة بلجام من نار ) ولا يؤتيه غير مستحقه ؛ لما جاء في كلام النبوة : لا تعلقوا الدر في رقاب الخنازير ، أي تؤثروا العلوم غير أهلها .
Bogga 20
تاسعها ... : أن يثبت ما استنبطه بفكره مما لم يسبق إليه لمن أتى بعده ، كما فعل من قبله، فمواهب الله تعالى لا تقف عند حد .
عاشرها ... : أن لا يعتقد في علم أنه حصل منه مقدارا لا يمكن الزيادة عليه ، فذلك نقص وحرمان .
حادي عشرها : أن يعلم أن لكل علم حدا ، فلا يتجاوزه ، ولا ينقص عنه .
ثاني عشرها : أن لا يدخل علما في علم آخر ، لا في تعلم ولا في مناظرة ؛ لأن ذلك يشوش الفكر .
ثالث عشرها : أن يراعي كل من المتعلم والمعلم الآخر ، خصوصا الأول ؛ لأن معلمه كالأب ، بل أعظم؛ لأن أباه أخرجه إلى دار الفناء ، ومعلمه دله إلى دار البقاء .
... واعلم أن للاشتغال بالعلم آفات كثيرة ، عدمها في الحقيقة له شروط ، فمنها :
الوقوف بالزمن المستقبل ، فيترك التعلم حالا ؛ لأن اليوم في التعلم والتعليم أنفع ، وأفضل من غدا وأفضل منه أمس ، والإنسان كلما كبر/ كثرت عوائقه . ... ... 3 أومنها الوقوف بالذكاء ، فكثير من فاته العلم بركونه إلى ذكائه، وتسويفه أيام الاشتغال.
ومنها التنقل من علم قبل إتقانه إلى آخر، ومن شيخ إلى آخر قبل إتقان ما بدأ به عليه ، فإنه هدم لما قد بني .
ومنها طلب الدنيا ، والتردد إلى أهلها ، والوقوف على أبوابهم .
ومنها ولاية المناصب ؛ فإنها شاغلة مانعة ، كما أن ضيق الحال أيضا مانع .
Bogga 21
... وأما حصر أنواع العلم فهي سبعة وأربعون علما (¬1) ، وهي :
إما شرعية ، وهي ثلاثة : الفقه ، والتفسير ، والحديث .
وإما أدبية ، وهي أربعة عشر : علم اللغة ، وعلم الاشتقاق ، وعلم التصريف ، وعلم النحو ، وعلم المعاني ، وعلم البيان ، وعلم البديع ، وعلم العروض ، وعلم القوافي ، وعلم قريض الشعر ، وعلم إنشاء النثر ، وعلم الكتابة ، وعلم القراءات ، وعلم المحاضرات ، ومنه التواريخ .
وإما رياضة ، وهي عشرة : علم التصوف ، وعلم الهندسة ، وعلم الهيئة ، والعلم التعليمي ، وعلم الحساب ، وعلم الجبر والمقابلة ، وعلم الموسيقى ، وعلم السياسة ، وعلم الأخلاق ، وعلم تدبير المنزل .
وإمأ عقلية ، وهي عشرون : علم المنطق ، وعلم الجدل ، وعلم أصول الفقه ، وعلم أصول الدين ، والعلم الإلهي والطبيعي ، وعلم الطب ، وعلم الميقات ، وعلم النواميس ، وعلم الفلسفة ، وعلم الكيمياء ، وعلم الأرتماطيقي ، وعلم المساحة ، وعلم البيطرة، وعلم الفلاحة ، وعلم السحر ، وعلم الطلسمات ، وعلم الفراسة ، وعلم أحكام النجوم .
... وأما بيان حدودها وفوائدها :
... فعلم الفقه علم بحكم شرعي عملي مكتسب من دليل تفصيلي ، وفائدته امتثال أوامر الله ونواهيه .
... وعلم التفسير هو علم يعرف به معاني كلام الله تعالى من الأوامر والنواهي ، وغيرهما ، وفائدته الاطلاع على عجائب / كلامه تعالى ، وامتثال أوامره ونواهيه .
... وعلم الحديث رواية علم يشتمل على نقل ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولا ، أو فعلا ، أو تقريرا ، أو صفة ، وفائدته الاحتراز عن الخطأ في نقل ذلك .
... وعلم الحديث دراية علم يعرف به حال الرواية والمروي من حيث القبول والرد ، وفائدته معرفة (¬1) ما يقبل وما يرد من ذلك .
... وعلم اللغة علم يعرف به أبنية الكلم ، ويقال : علم بنقل الألفاظ الدالة على المعاني المفردة ، وفائدته الإحاطة بها؛ لمخاطبة أهل اللسان، وللتمكن من إنشاء الخطب والرسائل .
Bogga 23
... وعلم الاشتقاق علم يعرف به أصل الكلم وفرعه ، وفائدته التمييز بين المشتق والمشتق منه .
... وعلم التصريف علم بأصول يعرف به أحوال أبنية الكلم التي ليست بإعراب ، وفائدته الاحتراز عن الخطأ في اللسان ، والتمكن في الفصاحة والبلاغة .
... وعلم النحو علم بأصول يعرف به أحوال أواخر الكلم إعرابا وبناء ، وفائدته الاحتراز عن الخطأ في اللسان .
... وعلم المعاني علم يعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق مقتضى الحال ، وفائدته التمكن من مخاطبة أهل اللسان بذلك .
... وعلم البديع علم يعرف به وجوه تحسين الكلام ، بعد رعاية المطابقة ، ووضوح الدلالة ، وفائدته معرفة أحوال الشعر ، وما يدخل فيه من المحسنات ، وغيرها .
... وعلم العروض علم بأصول يعرف بها صحيح أوزان الشعر وفاسدها ، وفائدته لذي الطبع السليم أن يأمن اختلاط بعض البحور ببعضها ، وأن يعلم أن الشعر المأتي به أجازته العرب ، أو لم تجزه ، والهداية إلى الفرق بين الأوزان الصحيحة والفاسدة في النظم .
... وعلم القوافي علم يعرف به أحوال أواخر الأبيات / الشعرية من حركة وسكون 4 أولزوم وجواز ، وفصيح وقبيح ، ونحوها ، وفائدته الاحتراز عن الخطأ في القافية .
... وعلم قريض الشعر علم يعرف به كيفية النظم وترتيبه ، وفائدته كيفية إنشاء القريض السالم من العيوب .
... وعلم إنشاء النثر علم يعرف به كيفية إنشائه ، وفائدته الاحتراز عن الخطأ في الإنشاء .
... وعلم الكتابة علم يعرف به أحوال الحروف في وصفها ، وكيفية تركيبها ، وفائدته الاحتراز عن الخطأ في الكتابة .
... وعلم القراءات علم بأصول يعرف بها أحوال ألفاظ القراءات من حيث النطق بها ، وفائدته معرفة ما يقرأ به كل من أئمة القراء ، والقرآن كلام الله تعالى المنزل على نبيه ، المكتوب بين دفتي المصحف ، وفائدته سعادة الدارين .
Bogga 24
... وعلم التصوف علم بأصول يعرف به صلاح القلب ، وسائر الحواس ، وفائدته صلاح أحوال الإنسان .
... وعلم الهندسة علم يعرف به خواص المقادير، الخط ، والسطح ، والجسم التعليمي ، ولواحقها وأوضاعها ، وفائدته معرفة كمية مقادير الأشياء .
... وعلم الهيئة علم يعرف به الأجرام البسيطة من حيث كميتها ، وكيفياتها ، وأوضاعها ، وحركاتها اللازمة لها ، وفائدته معرفة أعيان تلك الأجرام ، وكميتها ، وكمية كل مقدار منها ، وما يلحقها .
... والعلم التعليمي ما يبحث فيه عن (¬1) أشياء موجودة في مادة كالمقادير والأشكال والحركات ، وفائدته معرفة أعيان تلك الأشياء ، وكميتها ، وكمية كل مقدار منها ، وما يلحقها .
... وعلم الحساب علم بأصول يتوصل به إلى استخراج المجهولات العددية ، وفائدته صيرورة ذلك العدد من الحيثية المذكورة معلوما ؛ باستعمال قوانينه .
... وعلم الجبر علم بأصول يعرف بها ؛ لاستخراج كمية المجهول بمقدمات معلوماته ، وفائدته صيرورة تلك المقادير / المجهولة معلومة باستعمال قوانينها . ... ... 4 ب
... وعلم الموسيقى علم بأصول يعرف بها النغم ، وكيفية تأليف الألحان بعضها من بعض ، وفائدته بسطة الأرواح وقبضها ، ولهذا يستعمل في الأفراح ، وفي الحروب ، وعلاج المرضى .
... وعلم السياسة علم بأصول يعرف بها أنواع الرئاسات ، والسياسات الدنيوية وأحوالها ، وفائدته معرفة السياسات المدنية الفاصلة بين المظلومين ، والإنصاف بينهم .
... وعلم الأخلاق علم بأصول يعرف به أنواع الفضائل ، وكيفية اكتسابها ، وأنواع الرذائل ، وكيفية اجتنابها ، وفائدته الاتصاف بأنواع الفضائل ، واجتناب أضدادها .
... وعلم تدبير المنزل علم بأصول يعرف به الأحوال المشتركة بين الرجل وزوجته وولده وخدمه ، وفائدته انتظام أحوال الإنسان في منزله ؛ ليتمكن من كسب السعادة للآجلة والعاجلة .
Bogga 25
... وعلم المنطق علم بأصول تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الذكر ، وفائدته الاحتراز عن الخطأ في الفكر .
... علم الجدل علم بأصول يعرف به كيفية تقدير الأدلة، ورفع الشبهة عنها ، وفائدته معرفة تحرير المباحث الفقهية والأصولية ، ويستميل الفكر .
... وعلم أصول الفقه علم بأصول يعرف بها أدلة الفقه الإجمالية ، وطرق استفادة جزئياتها ، وحال مستفيدها ، وقبيل معرفتها ، وفائدته نصب أدلة على مدلولها ، ومعرفة كيفية الاستنباط .
... وعلم أصول الدين علم بالعقائد الدينية عن الأدلة التعيينية ، وفائدته معرفة ما يطلب اعتقاده .
... والعلم الإلهي علم بأصول يعرف به أحواله الموجودة ، وما يعرض لها ، وفائدته ظهور المعتقدات الحقة ، والمعتقدات الباطلة .
... والعلم الطبيعي علم يبحث فيه عن / أحوال الجسم المحسوس من حيث أنه 5 أمعرض للتغيير ، وفائدته معرفة الأجسام الطبيعية البسيطة والمركبة ، وأحوالها ، ويقال علم الكلام بأنه مبني على أصول الفلسفة من أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد ، وأن الواحد لا يكون قابلا وفاعلا معا ، وأن العادة ممتنعة ، وأن الوحي ، ونزول الملك محالان ، ونحو ذلك .
... وأما علم الكلام فمبني على أصول الإسلام من كتاب الله تعالى ، وسنة نبيه ورسوله ، والإجماع والعقول الذي لا يخالفها .
... وعلم الطب علم يعرف به أحوال بدن الإنسان من صحة ومرض ، ومزاج وأخلاط ، وغيرها مع أسبابها من المأكل وغيرها ، وفائدته استعمال أسباب الصحة ، والإعلام بها .
... وعلم الميقات علم يعرف به أزمنة الأيام ، والليالي وأحوالها ، وفائدته معرفة أوقات العبادات ، وتوخي جهتها .
... وعلم النواميس علم يعرف به أحوال حقيقة النبوة وأحوالها ، ووجه الحاجة إليها ، والناموس يقال للوحي ، وللملك النازل ، وللسنة ، وفائدته بيان وجوب النبوة ، وحاجة الإنسان إليها في حياته ومعاده .
Bogga 26
... وعلم الفلسفة ، ويسمى عند بعضهم علم الأخلاق وتدبير المنزل علم بأصول يعرف به حقائق الأشياء والعمل بما هو أصله ، وفائدته العمل بما ارتضاه العقلاء من حسن وقبيح .
... وعلم الكيمياء علم بأصول يعرف به معدن الذهب والفضة ، وفائدته الانتفاع بما يستخرج منها ويتفرع عن علم ذلك علم آخر .
علم الأرتماطيقي علم بأصول يعرف بها أنواع العدد ، وأحواله ، وكيفية تولد بعضه من بعض ، أي من حيث أنه زوج أو فرد ، أو زوج زوج ، وفرد فرد ، ونحوها ، وفائدته ارتباط / الذهن بالنظر في المجرد من المادة ولواحقها . ... ... ... ... ... 5ب
وعلم المساحة علم يعرف به استخراج مقدار أرض معلومة بنسبة زرع أو غيره ، وفائدته العلم بمقدارها .
وعلم البيطرة علم بأصول يعرف بها أحوال الدواب من صحة أو مرض ، وفائدته استعمال ما يصلح لها .
وعلم الفلاحة علم يعرف به أحوال النبات من تنميته ، والقي والعلاج ، وفائدته معرفة حاله من نمو وغيره .
وعلم السحر والطلسمات علم بكيفية استعدادات تقدر بها النفوس البشرية ، وعلم ظهور التأثير في عالم العناصر إما بلا معين ، أو بمعين سماوي ، فالأول السحر ، والثاني الطلسمات ، وفائدتهما تغير الشيء من حال إلى حال .
وعلم الفراسة معاينة المغيبات بالأنوار الربانية ، بسبب تفرس آثار الصور ، وفائدته الإخبار بما ظهر بالتفرس .
وعلم التعبير ، الرؤيا علم يعرف به الاستدلال من المخيلات الحكمية على ما شاهدته النفس حال النوم من عالم الغيب ، فخيلته القوة المخيلة بمثال يدل عليه في عالم الشهادة ، وفائدته الإخبار بما ظهر بالاستدلال بما ذكر .
وعلم أحكام النجوم علم يعرف به الاستدلال بالتشكلات الفلكية على الحوادث السفلية ، وفائدته العمل بما ظهر بالاستدلال بما ذكر .
Bogga 27
واعلم أن بعض العلوم المذكورة قد يدخل في بعض منها ، ولا تنافي ، فإن علم الفرائض وإن كان داخلا في الفقه ، قد أفرد على حدته ، وكعلم الأرتماطيقي وإن كان داخلا في العلم التعليمي ، قد أفرد على حدة .
والله تعالى أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب .
قال المؤلف رضي الله عنه ورحمه آمين ،
آمين
/ وافق الفراغ من تأليفه ثامن جماد الآخر، سنة 910 من الهجرة النبوية 6 على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ، والحمد لله رب العالمين .
تم الكتاب ، وكان الفراغ من كتابة هذا الكتاب ليلة الأربعاء المبارك الموافق إلى خمسة من شهر محرم سنة 1259 على يد كاتبه الفقير محمد بن أحمد ، غفر الله له ، وللمسلمين ، آمين .
...
Bogga 28