Xujada Cishtar
لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة
Noocyada
28
وانتهت حجرية ضخمة تسكن المعابد الكبرى. وعندما تعلم الإنسان الكتابة أخبرنا بأسمائها، وقدمتها لنا فنونه التشكيلية في صور شتى ترمز كل منها إلى خصيصة من خصائصها أو جانب من جوانبها؛ فنراها في هيئة امرأة حبلى، أو أم تضم إلى صدرها طفلها الصغير، أو عارية الصدر تمسك ثدييها بكفيها في وضع عطاء، أو ترفع بيديها باقة من سنابل القمح، أو باسطة ذراعيها في وضع من يستعد لاحتواء العالم، أو ممسكة بزوج من الأفاعي، أو معتلية ظهور الحيوانات الكاسرة.
ولقد لعبت المكانة الاجتماعية للمرأة في تلك العصور، والصورة المرسومة لها في ضمير الجماعة، دورا كبيرا في رسم التصور الديني والغيبي الأول وفي ولادة الأسطورة الأولى. كانت المرأة بالنسبة لإنسان العصر الباليوليتي موضع حب ورغبة، وموضع خوف ورهبة في آن معا؛ فمن جسدها تنشأ حياة جديدة، ومن صدرها ينبع حليب الحياة، ودورتها الشهرية المنتظمة في ثمانية أو تسعة وعشرين يوما تتبع دورة القمر، وخصبها وما تفيض به على أطفالها هو خصب الطبيعة التي تهب العشب معاشا لقطعان الصيد، وثمار الشجر غذاء للبشر. وعندما تعلم الإنسان الزراعة وجد في الأرض صنوا للمرأة؛ فهي تحبل بالبذور وتطلق من رحمها الزرع الجديد. لقد كانت المرأة سرا أصغر مرتبطا بسر أكبر؛ سر كامن خلف كل التبديات في الطبيعة والأكوان؛ فوراء كل ذلك أنثى كونية عظمى، هي منشأ الأشياء ومردها، عنها تصدر الموجودات، وإلى رحمها يئول كل شيء كما صدر.
غير أن الأنظمة الدينية النيوليتية تتزعزع مع بزوغ عصر الكتابة، وظهور المدن الكبيرة ذات التنظيمات المدنية والسياسية والاقتصادية المعقدة، التي عكست واقعها على الحياة الدينية الجديدة. فمع انتقال السلطة في المجتمع إلى الرجل، وتكوين دولة المدينة ذات النظام المركزي، والهرم السلطوي والطبقي التسلسلي الصارم، الذي قام على أنقاض النظام الزراعي البسيط، يظهر الآلهة الذكور ويتشكل مجمع الآلهة برئاسة الإله الأكبر، ذلك المجتمع الذي يعكس تشعب الاختصاصات وتقسيم العمل في المجتمع الجديد وتمركز السلطة في يد الملك. هنا تجد الإلهة الكبرى للعصر النيوليتي نفسها وقد غدت إحدى آلهة المجمع، بعد أن كانت الإلهة الواحدة لا يشاركها في السطات سوى ابنها، الذي نشأ عنها، وكان مقدمة لظهور بقية الآلهة الذكور. غير أن هذا التحول في مكانة الأم الكبرى، لم يتم إلا على النطاق الرسمي؛ بينما بقيت مكانتها القديمة على حالها في ضمير الناس عامة ممن لم يتوجهوا إلا إليها عند الخوف واليأس وأزمنة الشدة.
ومن ناحية أخرى فإن الكتابة التي ابتكرها الإنسان في مطلع العصر المديني، وراح يدون بها أساطيره الموروثة عن أسلافه البسطاء، قد ساهمت في تظليل صورة الأم الأولى، وإسدال حجب سميكة أمام وجهها. فالكهنة المتفرغون ممن ساعد الرفاه الاقتصادي في المجتمع الجديد على تفرغهم كلية للنشاط الديني، والذين كانوا أول من استعمل الكتابة وحفظ أسرارها المقدسة، قد راحوا يدونون أساطير الأمس بلغة اليوم الشعرية، التي ابتعدت عن أصلها الطبيعي المباشر متجهة أكثر فأكثر نحو المجاز والرمز، وانتشت نفوسهم بهذه الأداة الجديدة، فأخذوا يطلقون على الأم الكبرى أسماء متعددة يشير كل منها لوظيفة من وظائفها أو خصيصة من خصائصها. ثم استقلت الأسماء فصارت ذوات منفصلة بتأثير التوجه الديني الجديد، ولكن دون أن يفقد الإنسان إحساسه بالوحدة الصميمية لهذه الذوات وتطابقها، وبكونها تنبع عن وتصب في ذات واحدة؛ فالفكر الأسطوري لا يهمه أن يعبر عن الحقيقة بطريقة مباشرة كما هو شأن الفكر الفلسفي والعلمي اللاحقين، بل إنه يسعى إلى التعبير بلغة المجاز والخيال والرمز، وإيصال رسالته إلى القلوب والمشاعر لا إلى العقول والأذهان. فالأسطورة، والحالة هذه، ليست عين شكلها وما ترويه من قصص وأحداث، بل هي كالحلم الذي يبدو غامضا متنافر الوقائع؛ ولكنه غني بكل معنى ودلالة. إن منطقها ليس أن: «آ» هو «آ» وليس «ب» كما هو الحال عند أرسطو، بل منطق أن: «آ» هو عين «ب» إذا كان الاثنان يشفان عن حقيقة واحدة، ويظهران كتبد لمبدأ واحد. إن آخر مأرب للأسطورة أن تؤخذ بحرفيتها وشكلها ونصها؛ لأنها إشارة وإيماءة، لا دوغما جامدة.
من الأسماء التي استقرت فصارت ذواتا، نجد في سومر الإلهة «نمو» الإلهة البدئية والمياه الأولى، و«إنانا» إلهة الطبيعة والخصب والدورة الزراعية. وفي بابل نجد «ننخرساج» الأم - الأرض، وعشتار المقابلة لإنانا. وفي كنعان «عناة» و«عشتارت»، وفي مصر «نوت» و«إيزيس» و«هاتور» و«سيخمت»، وعند الإغريق «ديمتر» و«جايا» و«رحيا» و«أرتميس» و «أفروديت». وفي فرجيا بآسيا الصغرى «سيبيل». وفي روما «سيريس» و«ديانا» و«فينوس». وفي جزيرة العرب «اللات » و«العزى» و«مناة»، وفي الهند «كالي»، وفي حضارة السلت الأوروبية «دانو» و«بريجيت». أسماء متنوعة لإلهة كانت واحدة قولا وفعلا في العصر النيوليتي، فصارت متعددة قولا وواحدة فعلا في عصور الكتابة. وإني لأدعوها في هذا الكتاب باسمها البابلي «عشتار»، عيش الأرض.
قد يعجب من تعود قراءة الكتب الأكاديمية في الأسطورة، مما نقول به من تطابق بين إلهات عرفهن كلا على حدة؛ إلا أن أحد أهدافنا الرئيسية في هذا الكتاب هو البحث عن التطابق في التباعد وعن الوحدة في الشتات. ولسوف يتفتح اللغز تدريجيا وبشكل تلقائي عبر الفصول القادمة. وها هي «إيزيس» تقدم لنا منذ البداية بعض المعونة؛ إذ تقول عن نفسها في أحد النصوص من الفترة الرومانية: «أنا أم الأشياء جميعا، سيدة العناصر وبادئة العوالم، حاكمة ما في السماوات من فوق وما في الجحيم من تحت، مركز القوة الربانية. أنا الحقيقة الكامنة وراء الآلهة والإلهات، عندي يجتمعون في شكل واحد وهيئة واحدة، بيدي أقدار أجرام السماء وريح البحر وصمت الجحيم، يعبدني العالم بطرق شتى وتحت أسماء شتى، أما اسمي الحقيقي فهو «إيزيس»، به توجهوا إلي بالدعاء».
29
لا يقتصر لغز عشتار على تعدد الأسماء وتنوع التجليات، بل يتعدى ذلك إلى كل ما يتعلق بها من خصائص ووظائف وطقوس وأساطير وتراتيل. ولعل في لغز عشتار البابلية نموذجا لألغاز شبيهاتها عشتارت الثقافات الأخرى؛ فكل سر من أسرارها يفضي إلى سر آخر، ولا نكاد نمسك بها في صورة حتى تنحل إلى أخرى، أو نقبض عليها في هيئة حتى تنقلب إلى نقيضها. هي ربة الحياة وخصب الطبيعة، وهي الهلاك والدمار وربة الحرب. في الليل عاشقة وفي النهار مقاتلة ترعى المواقع وتغشى المذابح. هي الأم الحانية، راعية الحوامل والمرضعات الحاضرة أبدا قرب سرير الميلاد، وهي البوابة المظلمة الفاغرة لالتهام جثث البشر. هي ربة الجنس وسرير اللذة، وهي من يسلب الرجال ذكورتهم ويخصى تحت قدميها الأبطال. هي القمر المنير ، وهي كوكب الزهرة. هي النور ورمزها الشعلة الأبدية، وهي العتم والظلمة وما يخفى. هي القاتلة، وهي الشافية . هي العذراء الأبدية، وهي الأم المنجية. هي البتول، وهي البغي المقدسة. هي ربة الحكمة، وهي سيدة الجنون. هي الإشراق بالعرفان، وهي غيبوبة الحواس وسباتها. التقت عندها المتناقضات وتصالحت المتنافرات.
إن بحثنا في لغز عشتار هو في الوقت ذاته بحث عن الأسطورة الأولى، والديانة المركزية الأولى والطقوس الأولى. إنه بحث عن أصول الديانات البشرية ومردها، عن مبدأ الحياة الروحية والغايات التي تسعى إليها. عدتنا في هذه المغامرة: أداة ... وخيال. أما الأداة فهي ما تركه لنا الأقدمون من أساطير ونصوص طقسية وصلوات، وما كشفت عنه الحفريات من رسوم ونقوش ومنحوتات. وأما الخيال، فليس خيالا جامحا فوق الحد والقيد، بل هو الخيال اللازم لأي معرفة ومغامرة فكر. سيساعدنا الخيال على تخطي صرامة الفكر الحديث، الذي يحاكم تركه الماضي بأطر العصر ومنطقه وعلومه الوضعية، فنلبس لبوس الإنسان القديم وننظر إلى العالم بعينه، ونفكر بطريقته ومن خلال منطق أسطورته. سننظر إلى الأسطورة من داخلها، ونهبط إلى مستوياتها السرانية الباطنية منحدرين من شكلها الخارجي إلى أعماقها الحقيقية، مما يظن فكرنا المنطقي العلمي الفلسفي أنها تقول إلى ما تريد فعلا أن تقول.
Bog aan la aqoon