الآن فقط يحس بها كلها، بآلامه، ويحس بها أبشع حتى من آلام فهمي وأوجاعه .. كل الفرق أنه ليس له الحق في التوجع مثله، لن يصدقه أحد إذا صرخ وترك أعماقه تعبر عن نفسها المكتومة الوارمة المضغوطة، ألم بلا آهات. أضعاف أضعاف الألم.
الآن وهو وحيد مع نفسه وموجوع مثله وأعماقه مفتحة الأبواب أمامه يستطيع أن يسأل نفسه: ماذا يؤلمه؟ إنه فوق القمة، كل الخط العريض الذي رسمه لحياته تحقق؛ زوج ورب أسرة وسعيد محوط بالرعاية والحب والاحترام أنى يكون، فمن أين تجيئه الآلام التي لا تطاق، حتى إنه ليحسد فهمي على حالته.
ترى ماذا كان يفعل ويشعر لو حدث له ما حدث لفهمي وبدلا من التعليم المتواصل الذي هيأه له أبوه الصراف الذي كانوا يتندرون عليه ويسألونك وأنت ذاهب لتدفع المال: مال الحكومة واللا مال الصراف، بدلا من هذا أخرجه أبوه من المدرسة واشتغل فلاحا كان هذا مصيره. أي إنسان في مكانه لا بد أن كان يقبل يده ظاهرا وباطنا، أين هو وأين فهمي؟ هو الذي لا بد تختاره إذا طلب إليك أن تختار مائة يمثلون الصفوة في هذا البلد. المتمتع بكامل صحته وحياته، لا حق من حقوقه مهضوم ولا شعرة ظلم تمسه أو تمس مركزه، أين هو من إنسان كفهمي تكفل الفقر بالقضاء على عقله وأحاله إلى واحد آخر من ملايين الفلاحين السذج، وتكفلت البلهارسيا بالقضاء على جسده .. فالمفروض أنه الآن ميت، وعمره مسألة أيام، وحياته كانت أبأس حياة، وشقاؤه كان من نوع يضرب به المثل .. لو كان قد حدث له هذا .. تراه ماذا كان يقول عن «ألمه» المزعوم وأوجاعه؟
قال الحديدي لنفسه بلا تردد: كنت أكون أسعد.
كيف؟ المسألة ليست فقرا وغنى أو تعليما وجهلا، السؤال هو: هل أنت حي أم ميت؟ فهمي رغم كل شيء حي وعاش. أما أنا فلم أحي، والحياة أي حياة، أروع ملايين المرات من الموت، أي موت، حتى لو كان الميت مكفنا في ملابس أنيقة، محتلا أرقى المناصب، سعيدا في حياته الزوجية.
ولكنك حي. أنا ميت، إنه ليس تلاعبا بالألفاظ، إنها حقيقة، المقياس الوحيد للحياة أن تشعر بها، وأنا لم أشعر ولا أشعر بها، إنني أقضي حياتي كعملية حسابية دقيقة هدفها الوصول .. وحين أصل لا أسعد لأن أمامي يكون ثمة وصول آخر.
إن فهمي قد عانى من الفقر، والبؤس، ولكنه كان يعمل مع الرجال يضحكون سويا، ويتشاورون في مشاكل العمل، ويستمتعون بمشوارهم إلى السوق، يفرحون لعود الفجل إذا أضيف إلى الأكلة، ولا أحد منهم يأكل بمفرده؛ إذ الطعام ليس أن تجوع وتملأ بطنك. الأكل عندهم أن يحل موعد الطعام ويلتفون حوله في ترحيب. ويتعازمون ويهزرون ويحسون أنهم يقومون باحتفال إنساني صغير، إنهم يفعلون هذا دون إدراك لكنهه ولكنههم به، بهذه الأشياء الصغيرة المتناثرة في طريق حياتهم يمتلئ كل منهم بإحساس يومي متجدد، إنه حي، وإن الحياة مهما صعبت حلوة.
أنا قضيت حياتي أجري وألهث، لكي أصل إلى القمة كما تسمى .. كان علي أن أظل أصعد ولهذا كنت أصادق أو تضمني المجموعة، لا لكي أستمتع بصداقتي ورفاقيتي لها، وإنما على أساس سرعتها وعلى اعتبار أنها أسرع من المجموعة التي هجرتها، وأظل سائرا معهم ما داموا يسيرون بنفس السرعة التي أريدها، حتى إذا أحسست أنني بحاجة إلى سرعة أكبر هجرتهم إلى مجموعة أخرى، أو سرت بمفردي كي لا يعوقني معوق. وما توقفت مرة كي أواسي مختلفا أو آخذ بيد أعرج، معتبرا أن ليس الذنب ذنبي أنه تخلف أو أنه خلق أعرج. ولقد ظللت أسرع وأسرع لكي أبدأ الحياة حين أصل ولكن لم يكن للوصول نهاية. بعد التخرج قلت العمل، بعد العمل الدكتوراه، بعدها الأستاذية، وحين أحسست أنها تستلزم الانتظار هجرتها إلى الشركات، قلت .. بعد الزواج، وحين تزوجت قلت .. نبدأ الحياة مع الأولاد، وحين خلفت قلت الأوفق حين يكبرون، وها أنا ذا لا أزال أجري مسرعا، وقد أصبح هدفي ليس الوصول إلى أي شيء، وإنما الإسراع في حد ذاته، تماما مثل الذي يبدأ حياته بتوفير النقود كي يحسن مركزه المالي ويبدأ يحيا بعد الألف الأولى، وحين يصل إلى الأولى هدفه الثانية فالثالثة، إلى أن ينسى الهدف تماما، ويتحول إلى بخيل مقتر هدفه جمع المال ليس إلا.
ياني ياني ياني ياني يا بوي.
أحس بتوجع فهمي يريحه راحة بدأت تصبح عظمى، وكأن فهمي يتوجع لكليهما أو أكثر من هذا، كأنه هو الذي أتيح له أخيرا أن يتوجع كما يريد وبكل قدرة استطاعته، إنه الألم المتراكم عبر السنين .. ألم الحزن الدفين والاكتئاب. إن الإنسان جهز بتركيبه وأحاسيسه لحياة خاصة تسمى الحياة الجديرة بالإنسان، وهو لا يستطيع أن يخرج عليها ويحياها حياة من صنعه هو ومن ابتكاره إلا وهو يتألم وآلامه تتضاعف، ولقد قسا العمر كله على طبيعته وكتم نداءات الأعماق المطالبة بمتع الحياة الصغيرة الكثيرة العادية التي تعطيها طعم الحياة. قسا عليها ليجبرها أن تحيا بمفردها.
Bog aan la aqoon