كان هذا الصوت الثاني مزعجا حقا حتى إنه، مع علمه هذه المرة وتأكده من مصدره، لم يستطع كبح جماح ارتجافته، ليس خوفا منه، وإنما من الشيء المجهول المروع الذي يختفي لا بد وراءه ويحدثه. مزعجا ومحيرا إلى درجة لم يلحظ معها أن رفيقة الفراش قد اعتدلت نصف اعتدالة والتفتت إليه قائلة بهستريا مفاجئة: إيه ده؟ قول لي بسرعة وحياتك إيه ده! وحياتك بسرعة بسرعة بسرعة.
وقبل أن يفكر فيما يقول انخلعت عنه، ناظرة إليه بشك متوحش: اوعى يكون هوه؟
وقبل أن يفتح فمه أردفت: أنا مش قلت. أنا مش قلت. اتفضل بقى. اتفضل بقى. أنا مش قلت.
وحقيقة لقد قالت وعارضت وكل ما حدث كان رغم قولها وإرادتها، هي وبالتأكيد الآن بسبيلها إلى إعادة ما قالته. وعليه أن يتذرع بالصبر، ويقول لها كلاما مطمئنا كثيرا .. إنها مجرد آهة .. آهة ستمر، ويعود كل شيء إلى سابق عهده.
أكان معقولا أن يعود أي شيء ليلتها إلى سابق عهده؟ الكلام نفسه وربما الألفاظ نفسها.
وما فائدة الكلام، والكلام الذي دار كثير، وقد كان ممكنا، مادام الوضع هكذا. زوجة حلوة قوامها كقوام المانيكان، وساقاها حتى في الظلام يظهران من قميص النوم في إغراء لا جمهور له، وحتى هناك تواليت وماكياج للنوم وعناية خاصة بالشعر، ودهان مخصوص للبشرة، وزوج هناك دائما بينه وبين لحظة النوم مشاكل لا بد لها من حل، زوج امتلأت روحه بالتجاعيد، مثلما فقد رأسه الكثير من الشعر وعيناه القدرة على الرؤية .. ما دام الوضع هكذا. فقد كان ممكنا أن يدور الكلام نفسه وربما الألفاظ نفسها حول أي موضوع، كالعادة، لا تلتقي عنده وجهات النظر. المهم أنهم أصبحا بشيء من التحدي ينتظران الصرخة الثالثة، التي لن تجيء، كما يؤكد الزوج. والتي لا بد أن تأتي، كما تصرخ الزوجة. ومن المطبخ، هذه المرة كان المصدر واضحا ولا شك في أمره، انطلق مواء كمواء القطط، يحاول صاحبه كبته وخنقه فيخرج مضغوطا ثاقبا إرادته فيبدو كما لو كان رجل قد قرر بجماع ما يمتلكه من قوة، وبسبق إصرار، أن يتأوه كما يريد، ولتقم القيامة بعدها، انطلق صفير معذب متألم متظلم باك غاضب كافر مستغيث بائس مؤلم زاهد .. آي، آي، آي، آي، طويلة وقصيرة، ممدودة ومبتورة، عالية بكل قواه يرفعها، منخفضة بجماع إرادته يخسفها، مجروحة دامية، لاسعة كالنار في العين، كاوية كصبغة اليود في الحلق .. حارقة كآثار الحامض المركز.
فتحت الزوجة فمها تصرخ في هوس من تأكد قولها، وانتظرت أن تنتهي الصرخة لتطلق صرختها هي، ولكن انتظارها طال، وبدأت رغما عنها تسمع، ومن الذهول استمر فمها مفتوحا وأذناها - بأمر قوة قاهرة - تصغيان، ثم بدأت ترتجف وتقترب من زوجها وتمسك بيده لتوقف الرجفة، ونفس اللحظة التي كانت قد قررت فيها أن تطلق لفزعها العنان وتستغيث صارخة، انتهت الصرخة فجأة، وكأنما انكسر الجهاز الذي يصدرها.
وكان الصمت الذي حل تاما ساحرا كالدواء الشافي المعجز لو لم يحل، وفي اللحظة التي حل فيها، وعلى تلك الصورة الكاملة، لفقد أحد أو الجميع عقولهم.
قالت الزوجة بعد جرعة صمت سخية: كدة يا حديدي؟ كدة؟
وأجاب بهمس، مناه ألا يصدر: أرجوك يا عفت .. أرجوك!
Bog aan la aqoon