Schack ، فينوء ذهنه بما يطبق عليه من النسق المتفق المتواتر! خصور كالأغصان تنبثق من آكام الرمال، أو شاعر يشبه نفسه بالطير الذي أثقل ندى الممدوح جناحيه فأعياه أن يطير، أو برق يومض بين الغمام كأنه ضرام العشق في قلب الشاعر، يتوهج من خلل دموعه، ونصفها - أو أكثر من نصفها - قوالب منقولة يحيكها النظامون من وحي الذاكرة.
هذا الخطأ الذريع في الحكم على الشعر العربي شائع غالب على أقوال المستشرقين، نفهمه ولا نرى صعوبة في فهمه إذا ذكرنا «أولا» أن الغالب على هؤلاء المستشرقين أنهم من زمرة الحفاظ، يشتغلون بجانب الحفظ في الأدب، ولا يشتغلون بلباب الأدب في لغاتهم، ولا في لغات غيرهم من المشارقة أو المغاربة، فهم لا يحسنون الحكم على شاعر من أبناء جلدتهم، وأحرى بهم ألا يحسنوا الحكم على الشعراء من أبناء اللغات التي تخالف لغاتهم في تراكيبها ومصطلحاتها، ومن أبناء الأمم التي تخالف أممهم في أمزجتها وعاداتها، وقد ينظر الكثيرون منهم إلى القصيدة الرائعة، فيقفون عند مجازاتها، ويشعرون بالربكة التي يشعر بها عندنا من يقول مثلا: «هات الأسطوانة!» فيحضر له السامع قرصا من أقراص الغناء المسجل، فيختلط عليه الأمر بين ما توقعه من لفظ الكلمة، وما رآه بعد ذلك من حقيقة المسمى.
وكذلك يشعر المستشرق بالربكة حين يتوقف بذهنه عند مجازات التشبيه، فيحسبها مقصودة لذاتها ويتقيد بقشورها اللفظية دون ثمراتها وبذورها، ولا يدري كيف يطرب العربي لهذا الشعر، ولا يحاول أن يرجع بالعجب إلى نفسه قبل أن يتهم أمة كاملة بضلال الحس وسوء التعبير، وهي - فيما يعلم - من الأمم التي تفخر بلسانها، وتنكر العجمة في ألفاظها ومعانيها.
ولقد كان من أقرب التفسيرات إلينا أن نرجع بأخطاء المستشرقين في فهم الشعر العربي إلى الفارق الأبدي المزعوم بين أذواق الشعراء في لغتنا، وأذواق الشعراء في لغاتهم على تباينها، وكنا نستغرب ذلك التفسير لولا أننا نعلم أن قراءنا يتذوقون شعرهم، كما يتذوقون شعرنا، وأن الفوارق الكلامية لا تحول دون ظهور المعاني الإنسانية لمن يلتمسها في مواطنها، ويتحرى أن يزنها بموازينها، وأن ينفذ إلى بواطنها، فليس بين الأذواق الإنسانية من فاصل في تمييز فنون البلاغة الخالدة، وإنما هو الفاصل بين الحفظ والذوق، يضاف إليه الفاصل بين المجاز في صورته الحسية والمجاز في معناه، فيحول دون الفهم الصحيح في اللغة الواحدة فضلا عن اللغات المتعددة، وهذا هو الفاصل بين المستشرقين الحفاظ، وبين محاسن الشعر العربي في ظواهره وخفاياه، وفي ألفاظه ومعانيه. (7) الفصاحة العلمية
للأمم في تنافسها بالمناقب والمزايا ألوان من المفاخرة بلغاتها يضيق بها نطاق البحث في بضعة سطور، فمنها التي تفخر بوضوح عباراتها وعذوبة جرسها، ومنها التي تفخر بوفرة كلماتها واتساع ثروتها من ألفاظ الأسماء والأوصاف والأفعال، ومنها التي تفخر بثرائها الأدبي وذخيرتها الفنية، ومنها التي يزعم أبناؤها أنهم هم الناطقون المبينون ومن عداهم متبربرون، لا يبينون عن أنفسهم ولا يحسنون فهم البيان من الآخرين.
ومعظم هذه المفاخر دعوى لا دليل عليها، أو دعوى لها أدلتها التي تتشابه وتتقابل، ولا ترجح فيها الكفة مرة حتى تقابلها الكفة الأخرى برجحان مثله، فلا تنهض فيها حجة بينة، ولا يزال الناس من شتى الأمم ينظرون إليها نظرتهم إلى العادات الشائعة بين الناس في مناظراتهم ومفاخراتهم، وحجتها الكبرى «أنانية» قومية تشبه «أنانية» الفرد في حبه لنفسه، وإيثاره لصفاته بغير حاجة إلى دليل، أو مع القناعة بأيسر دليل.
ولكن الفصاحة العربية في دعوى أهلها مفخرة لا تشبه هذه المفاخر في جملتها؛ لأن دليلها العلمي حاضر لا يتعسر العلم به، والتثبيت منه على ناطق بلسان من الألسنة، ولا حاجة له في هذا الدليل إلى غير النطق وحسن الاستماع.
إن اللفظ الفصيح هو اللفظ الصريح الذي لا لبس فيه ولا اختلاط في أدواته، وهذا هو «اللفظ العربي» بدليله العلمي الذي لا تعتمد دعواه على «أنانية» قومية، ولا على نزعة عاطفية، تقابلها نزعات مثلها عند غير العرب من الناطقين بلغات الحضارة.
فلا لبس بين مخارج الحروف في اللغة العربية، ولا إهمال لمخرج منها، ولا حاجة فيه إلى تكرار النطق من مخرج واحد، تتوارد منه الحروف التي لا تتميز بغير التثقيل أو التخفيف.
وجميع المخارج الصوتية في اللسان العربي مستعملة متميزة بأصواتها، ولو لم يكن بينها غير فرق يسير في حركة الأجهزة الصوتية.
Bog aan la aqoon