وكل ما ورد في كتب العهد القديم والعهد الجديد من التراتيل والأناشيد، فهو على أسلوب كهذا الأسلوب، يتردد فيه الإيقاع بغير وزن وبغير قافية، ويعتمدون فيه على حركات الغناء، ولا يستقل فيه الشعر بأوزانه المقسمة وقوافيه الملتزمة، وعلاماته التي يجمعها فن العروض، وتقبل التجديد والتنويع تفريعا على هذه الأصول إلى غير انتهاء.
فالعرب لم يبدعوا فن الشعر؛ لأنهم سلالة سامية؛ ولم يبدعوه لأنهم سلكوا فيه مسلك الأمم الأخرى مبتكرين أو مقلدين، ولكنهم تفردوا بفنهم الذي لا نظير له بين أمم العالم لأسباب كثيرة ذكرنا بعضها فيما تقدم، ونضيف إليها عماد هذه الأسباب في هذا المقال.
ذكرنا في المقالات السابقة خاصة الفن الموسيقي في مخارج الحروف العربية، وذكرنا خاصة الأوزان والحركات على حسب معاني المشتقات، ثم ذكرنا خاصة الإعراب وارتباط قواعده بالحركات، ودلالة هذه الحركات على معانيه دلالة تسمح بالتقديم والتأخير، ووضع الكلمة في الموضع الذي يناسب مبنى البيت ولا يخل بمعناه.
أما السبب الذي نحسبه عماد هذه الأسباب جميعا في اختصاص الشعر العربي بفنون الوزن والقافية فهو الحداء.
إن الحداء غناء مفرد موقع على نغمة ثابتة، وهي حركة الجمل في حالتي الإسراع والإبطاء.
ولا بد للغناء المفرد من القافية؛ لأنها هي التي تنبه السامع إلى المقاطع والنهايات خلافا للغناء المجتمع، الذي يشترك فيه الكثيرون فيعرفون من سياقه أين يكون الوقوف وأين يكون الاسترسال.
ولا بد للغناء الملازم لحركة واحدة من اطراد الحركة ومجاراتها في إيقاعها، وبخاصة حين تكون الحركة الطبيعية نمطا لا يقع فيه الخطأ والاختلاف، كحركة الإبل في السرعة والإبطاء، فإنها لا تجري على صناعة تتفاوت في الإتقان، ولكنها تنساق إليها بالفطرة، وتعود إليها فتعيدها بجميع أجزائها.
ومن المشاهد أن هذا الفن المطبوع كان قدوة للفنون المصنوعة في نظم الشعر بين أبناء اللغات الآرية، كما كان قدوة لهذه الفنون المصنوعة بين أبناء اللغات السامية، فإن شعراء الفرس اقتبسوا أوزان العروض العربية، وفضلوها على الأوزان التي اخترعها لهم الموسيقيون، مع قدم الآلات الموسيقية عندهم، وطول العهد بها في حضارتهم قبل الإسلام بعدة قرون.
وكذلك اقتبس شعراء اللغة العبرية أوزان العروض العربية بعد اتصالهم بالعرب والمغرب، ولم يكن للعبريين شعر موزون قبل ذاك.
على أن كلمة «الشعر» مع تحريفاتها الكثيرة ترجع في اللغات السامية إلى أصلها العربي كما يرى الثقات من اللغويين المحدثين، فكلمة (شيرو) في الأكدية القديمة تدل على هتاف الأناشيد في الهياكل، ومنها انتقلت إلى العبرية التي تأتي فيها كلمة (شير) بمعنى «أنشد»، وإلى الآرامية التي تترادف فيها كلمة «شور»، وكلمات الترنم والترتيل، ويسمى كتاب نشيد الإنشاد بالعبرية «شيرهشيريم» بهذا المعنى.
Bog aan la aqoon