ويقال عكس ذلك في الألفاظ الدالة على محاصيل بلاد العرب أو حيواناتها، كالقهوة مثلا فإنها موجودة في الفارسية وفي كل لغات أوروبا، فالأرجح أنها عربية الأصل لأن هذه اللفظة كانت عند العرب قبل اصطناع القهوة اسما من أسماء الخمر، فأطلقوها على قهوة البن. ومثل ذلك أسماء الجمل والزرافة والغزال وغيرها من أسماء الحيوانات العربية، وربما كان بعضها مأخوذا في الأصل من لغة غير عربية.
وإذا كانت اللفظة المشتركة بين لغتين من قبيل المصنوعات، فإلحاقها بأصحاب تلك الصناعة من الأمتين أولى، فقد اختلط العرب بالفرس وخاصة بعد الإسلام وأخذوا منهم كثيرا من الملابس والأنسجة، ولم ينقلوها إلى لسانهم بل عربوها وأبقوها على ما هي، كالسراويل والقباء (ومنها الجبة) والتبان والجورب والديباج والأرجوان والسرموج والقفطان والطربوش والبابوج، كما فعل أهل هذا العصر بأسماء الملابس الإفرنجية التي اقتبسوها من الإفرنج في تمدنهم الأخير كالبنطلون والجاكت واللستيك وغيرها. •••
واقتبس العرب من الفرس كثيرا من ألوان الأطعمة وأنواع الأسلحة والفرش والأدوات وأبقوها على لفظها الأعجمي، وهي كثيرة يضيق هذا المقام عن ذكرها، ومنها الجلاب والجلنار والبنفسج والخشاف والخوذة والدسكرة والدولاب والدهقان والسرجين والسرداب والطنبور والفرسخ وغيرها كثير، فإلحاقها بلغاتها الأصلية يسوغه أولا التاريخ لأنه يدلنا على أن العرب اقتبسوا تلك المواد من الفرس، فإذا تأيد ذلك بالاشتقاق اللغوي كان الدليل أثبت، مثل: «جلاب» فإنها مؤلفة في الأصل الفارسي من «كل آب» أي ماء الزهر، و«خشاف» من «خوش آب»، و«سرداب» من «سرد آب»، أو «سردابه» بيت الثلج من «سرد» أي بارد و«آب» ماء، والطربوش من «سربوش» أي غطاء الرأس، والبابوج من «بابوش» أي غطاء القدم.
وكثيرا ما يكفي الاشتقاق اللغوي وحده في معرفة أصل اللفظة بشرط ملاحظة مقابلة اللغات، فإذا وجدنا لفظة في العربية ومثلها في الفارسية أو اللاتينية أو اليونانية مثلا ولم يساعدنا التاريخ على معرفة حقيقة أصلها، عمدنا إلى اشتقاقها وصيغتها. فإذا لم يكن لها مجانس في أخوات العربية وكان لها ذلك في أخوات الفارسية أو اللاتينية أو اليونانية، نرجح أنها من إحدى هذه اللغات، مثل «البلاط» بمعنى «قصر الملك» فقد عدها العرب عربية وشقوها من البلاط المعروف لأن القصور تفرش به، ولكن هذه اللفظة في اللاتينية
palaffum
ومعناها قصر الملك. فإذا ادعى مدع أنها عربية الأصل وأن الرومان اقتبسوها من العرب، قلنا إن الرومان يرجعون بأصلها إلى تل كان في رومية بهذا الاسم، نزل عليه أوغسطس قيصر وأقام فيه فسمي قصره به. وإذا أعجزنا الدليل التاريخي عمدنا إلى الاشتقاق، فإن
pala
في السنسكريتية معناها الحامي أو المدافع، وكان الملوك القدماء إنما يبنون القصور للتحصن بها.
وقد لا يهدينا التاريخ مطلقا، كما في لفظ «جاموس» فإن التاريخ لا يساعدنا على معرفة أصلها هل هي عربية أو فارسية، فإذا رجعنا إلى الاشتقاق لم نر لها اشتقاقا في العربية، أما في الفارسية فإنها مركبة من لفظين : «كاو» ثور أو بقرة، و«ميش» كبش، ولكن الجاموس هندي الأصل ومعنى «جاوميشا» في السنسكريتية «البقرة الكاذبة». (2) عود
وبالجملة فقد دخل العربية ألفاظ كثيرة من معظم اللغات التي كانت شائعة في التاريخ القديم، ممن خالط العرب كالمصريين القدماء والحيثيين والفينيقيين والكلدان والهنود والفرس، حتى الزنوج والنوبة وغيرهم مما لم يعد تمييز أصله ممكنا لتقادم عهده واختلاف شكله.
Bog aan la aqoon