وأفرغ سعيد كأسه دفعة واحدة على حين تناول رءوف رشفة ثم سأله: وكيف حال بنتك؟ أوووه، نسيت أسألك: لم بت ليلتك عند الشيخ علي؟
إنه لم يدر شيئا، ولكنه ما زال يذكر أنه أنجب بنتا، وفي إيجاز بارد وقاس سرد له تاريخ مأساته حتى قال: أمس زرت عطفة الصيرفي فوجدت مخبرا في انتظاري كما توقعت، وأنكرتني ابنتي وصرخت في وجهي!
وملأ كأسا أخرى دون استئذان، فقال رءوف: حكاية مؤسفة، أما بنتك فمعذورة أنها لا تتذكرك، وسوف تعرفك وتحبك ... - لم تعد لي ثقة في جنسها كله! - هكذا أنت الآن، أما غدا فمن يدري؟ ستغير رأيك بنفسك، وهذا هو حال الدنيا!
ورن جرس التليفون فقام رءوف إليه وتناول السماعة، ثم أصغى قليلا، وسرعان ما ابتهج وجهه بابتسامة عريضة، فرفعه ومضى به إلى الفراندا، تابعه سعيد من أول الأمر بعينيه الحادتين، امرأة؟! هذه الابتسامة وهذه الرحلة إلى الظلام لا تكونان إلا لامرأة، ترى أما زال أعزب؟ ها هما يجلسان جنبا إلى جنب، يتبادلان الشراب والحديث، ولكن ثمة شعور كالإحساس الخفي المنذر باكتشاف دمل يوسوس له بأن معاودة هذا اللقاء شيء عسير حقا، لا يدري لماذا يطبق عليه؟ وهو يصدقه كإنسان يعتمد كثيرا على غرائزه الملهمة، إنه اليوم من أهل الطريق الذي لم يعتد زيارته إلا معتديا، ولعله تورط في الترحيب به مضطرا، ولعله تغير حقا فلم يبق من الشخص القديم إلا ظل صورته، وجلجلت ضحكة في الفراندا فازداد تشاؤما، وتناول تفاحة بهدوء ومضى يقضمها، ما حياته إلا امتداد لأفكار هذا الرجل الضاحك في التليفون فإذا كان قد خانها فالويل له، وأخيرا عاد رءوف علوان من الفراندا، فوضع التليفون على حامله، ثم جلس وهو يبدو راضيا تماما: مباركة عليك الحرية، هي كنز ثمين يعزي عن فقد أي شيء مهما غلا!
فتناول قطعة من البسطرمة وهو يهز رأسه بالإيجاب، ولكن دون اهتمام جدي: وها أنت تخرج من السجن لتجد دنيا جديدة!
وملأ كأسين ومضى سعيد يلتهم ألوان الطعام بشراهة، وحانت منه نظرة إلى صاحبه فابتسم هذا بسرعة ليغطي على نظرة امتعاض! أنت مجنون إن تصورت أنه يرحب بك من قلبه، ما هي إلا مجاملة بنت حياء، ولن يلبث أن يتبخر هذا الحياء، كل خيانة تهون إلا هذه، يا للفراغ الذي سيلتهم الدنيا. ومد رءوف يده إلى علبة سجائر محلاة بنقوش صينية في تجويف بالعامود المضيء فتناول سيجارة وهو يقول: يا عم سعيد، زال تماما جميع ما كان ينغص علينا صفو الحياة!
فقال سعيد من فم مكتظ: طالما هزتنا الأنباء في السجن، من كان يحلم بشيء كهذا؟!
ثم وهو يحدجه بنظرة باسمة: لا حرب الآن! - لتكن هدنة! ولكل جهاد ميدان!
وألقى سعيد نظرة فيما حوله قائلا: وهذا البهو الرائع كالميدان.
وأسف على إفلات هذه الملاحظة، ولمح في عيني صاحبه نظرة باردة، ألا يعرف لسانك ما الأدب! وتساءل رءوف بهدوء غاضب: أي وجه شبه بين هذا البهو والميدان؟
Bog aan la aqoon