254

Lessons by Sheikh Yasser Burhami

دروس للشيخ ياسر برهامي

Noocyada

حكمة الابتلاء للمؤمنين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﵌.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ﵌، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فإن طريق الدعوة إلى الله ﷾ والعمل للإسلام، والعمل من أجل نصرة الإسلام طريق مملوء بالآلام والمحن، وكلما ازدادت المحن وكثرت الجراح، وعظمت الآلام؛ ظهر من آثار أنوار الإيمان في قلوب عباد الله المؤمنين ما لم يكن موجودًا قبل ذلك، وإن من العلم بالله ﷾ -وهو حقيقة الإيمان أو أصل الإيمان- أن يعلم العبد أسماء الله ﷿ وصفاته، وأن يعلم سنته ﷾ في خلقه، لماذا خلق الله ﷿ الخلق؟ ولماذا أوجد ﷾ في الأرض الخير والشر، والإيمان والكفر مع قدرته ﷿ على جعل الناس أمة واحدة على الإيمان لو شاء كما قال تعالى: ﴿فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأنعام:١٤٩]؟.
إن العلم بالله ﷾، وتحقيق الإيمان بأسمائه وصفاته، ومعرفة سنة الله ﷾ التي مضت في الأولين وتمضي كذلك في الآخرين؛ لهي من أعظم الفوائد التي تحصل للمؤمنين في سيرهم في هذا الطريق عندما تصيبهم الجراح والآلام والمحن، وقد قدر الله ﷾ وجود الحياة أصلًا لكي يرى ﷾ من عباده المؤمنين ما يحب.
من أجلك أيها المؤمن! من أجل أن تؤمن وترجو وتخاف وتحب وتبذل وتضحي، من أجل أن تعبد الله ﷾ أوجد الله ﷿ إبليس والشياطين والكفرة والملحدين والمنافقين، وكان في قدرته ﷿ -ولم يزل- أن يجعل: ﴿مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ﴾ [الزخرف:٦٠]، بدلًا من هؤلاء، لكنه ﷾ هو العليم الحكيم، وهو ﷾ القدير، يحب ظهور عبوديته في وسط أنواع الكفر والضلال، وهذه عبودية خاصة، عبودية تختلف عن عبودية الرخاء، وعن عبودية سائر الكائنات، نعلم أن كل الكائنات تسبح لله ﷿ وتعبده، قال تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء:٤٤]، وقال ﷿: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الحديد:١]، وقال: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التغابن:١]، وغير ذلك من الآيات التي تؤكد عبودية الكائنات كلها.
والملائكة تعبد الله ﷿ ليل نهار كما قال تعالى: ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء:٢٠]، ومع أن الله خلق الخلق أصلًا لعبادته فإنه ﷾ أوجد النوع الإنساني وكذلك الجن، وخلقهم ﷾ لتوجد منهم عبودية أخرى، وهي عبودية الضراء والشدة، عبودية الخوف من الله دون من سواه، والتوكل على الله ﷿ دون من سواه، عبودية الرجاء في وسط أجواء اليأس فيما يبدو للناس، هذه العبودية من أجلها قدر الله ما يكرهه؛ لأن هذه العبودية أحب إليه ﷾ مما يكره، ومما لو قدر الله ﷾ عدم وجود الكفر والنفاق والظلم والفساد، فيكون الناس كلهم أمة واحدة، ولكن ظهور هذه العبودية التي فيها مقاومة ومنازعة ومجاهدة، وفيها هجرة وبذل وتضحية، وغير ذلك من أنواع العبودية التي تحصل لأهل الإيمان؛ أحب إلى الله مما لو كانوا جميعًا على طاعته، دون أن يكون بعضهم على معصيته، فافهم حكمة العزيز الحكيم الذي له الملك وله الحمد، ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الحديد:٢]، فهو ﷾ العزيز الذي لا يغالب ولا يمانع، ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ [الأنعام:١٨]، وهو غالب على أمره، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف:١٨٧].
وليس لنقص العزة هزم أولياؤه في المعارك، ولا لعجزه -تعالى الله عن ذلك- قتل من قتل من أوليائه ورسله، وجرح من جرح منهم، واستضعفوا في الأرض، ونيل منهم أنواع النيل، وابتلوا وسجنوا وعذبوا، ليس هذا لعجزه ﷿، فهو العزيز ﷾، وهو القدير، له ملك السماوات والأرض، وهو الذي بيده الموت والحياة، قال تعالى: ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الحديد:٢]، ومع ذلك كله بحكمته ﷾ قدر أن يوجد هذا البلاء وهذه المحن التي تجعل من لا يعلم صفات ربه ﷾ ييئس ويبتئس، وربما يترك الطريق والالتزام بدين الله ﷿، أو ربما يترك العمل من أجل نصرة الدين فيأثم من ترك هذه النصرة، ويقول: ماذا نصنع والأمور كلها ضدنا والعالم كله ضدنا؟! نقول: لابد أن تعلم أن الله ﷿ هو العليم الحكيم، وهو العزيز الحكيم، وأن حكمته اقتضت ذلك؛ لأنه يحب أن يرى منك كما رأى قبل ذلك من أنبيائه ما يحب، فانظر هل يرى الله منك ما يحب؟! قال ﷿: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ [محمد:٣١]، (ولنبلونكم حتى نعلم) قال ابن عباس: حتى نرى، حتى يعلم الله هذه الأمور علمًا يحاسب العباد عليه، يعلم الجهاد والصبر من عباده المؤمنين علمًا يحاسبهم عليه، ويثيبهم على ما صدر منهم بفضله وتوفيقه وإعانته ﷾.

22 / 2