الآخرة خير وأبقى
إن وظيفة العبادة جعلت في القلب حاجة شديدة لها؛ لأنه إذا كانت حياة البدن ستين سنة أو سبعين أو مائة، فقد فقدَ هذه الحياة بضياع لذات متقطعة خلال ستين أو سبعين سنة، ثلثها نائم، وخمسة عشر سنة منها وهو صغير لا يفهم شيئًا، ومن خمسين إلى سبعين أو ثمانين أمراض كثيرة بدأت تدب إلى الجسد، وفيما بين ذلك لذات في لذات، أكل في اليوم لمدة نصف ساعة ثلاث مرات، هذا إذا كان يأكل لحمًا ودجاجًا وكل شيء لذيذ، فتراه مع هذا يضيق منه مرة، فينتقل إلى أكل يحبه مرة، وساعات يقضيها في أكلة شهية، هذه هي لذة الطعام ولذة الشراب، ومع هذا لا يشرب دائمًا أشياء باردة وجميلة وحلوة وعصائر وكل ما يشتهي.
كذلك لذة الجنس ثوان معدودة، وبعدها يجد رغبة إلى هذا الأمر كل يوم أو يومين أو ثلاثة أو كل أسبوع، حتى يفقد الإنسان حياته الدنيوية، فتنقطع حياة البدن ولذاته، وإذا فقد حياة قلبه وحياة روحه فقد النعيم إلى الأبد، فيفقد لذات الروح والبدن معًا، ويفقد القرب من الله ﷿، ويحصل له عذاب أبدي غير متصور، قال رسول الله ﷺ: (ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم قالوا: يا رسول الله! إن كانت لكافية، قال: فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا كلهن مثل حرها)، نعوذ بالله من النار، هكذا أخبر النبي ﵊.
فلو تأمل الإنسان أن موت القلب أخطر من موت البدن بما لا وجه للمقارنة سوف يهتم بحياة القلب، ولو مرض القلب لاهتم بإصلاحه وعلاجه، والبحث عن الطبيب، وأخذ الدواء بانتظام؛ لأن هناك خطورة بالغة على حياة قلبه، فالإنسان حين يفكر في حياته يفكر في الستين والسبعين، وما يلقاه في قبره أعظم، والناس من أيام سيدنا نوح ﵇ سكنى في القبور سنين لا يعلمها إلا الله، فمن أيام النبي ﵊ أكثر من ألف وأربعمائة سنة، والله أعلم كم سيكون بعد ذلك؟ وربما يبقى الإنسان في قبره أضعاف أضعاف أضعاف ما عاشه على ظهر الأرض، وبعدما يقوم من القبر يقوم إلى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، يا سبحان الله! إن يوم القيامة يوم الحساب خمسون ألف سنة، يقف الناس فيه شاخصة أبصارهم ينتظرون فصل القضاء، ومنهم من يقف أربعمائة سنة، ومنهم أربعين، وهناك من يشعر بهذا اليوم كأنه نصف يوم، قال تعالى: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا﴾ [الفرقان:٢٤]، والمقيل: هو وقت القيلولة الذي يكون في نصف النهار أو قبل نصف النهار، يعني: أهل الجنة قبل نصف نهار يكونون قد دخلوا الجنة واستراحوا في أحسن مقيل، واستراحوا من الهموم، والناس الآخرون في حر شمس تدنو من الرءوس قدر ميل، يعرقون عرقًا شديدًا، منهم من يأخذه العرق إلى كعبيه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه إلى حقويه وإلى نصفه، ومنهم من يبلغ ترقوته، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا كما قال النبي ﷺ، ونسأل الله العافية.
هذا الأمر لخمسين ألف سنة في يوم القيامة فقط، ثم بعد ذلك يكون هناك نعيم أبدي أو عذاب أبدي.
إذًا: العقل يقتضي ويوجب على الإنسان أن يهتم بحياة قلبه؛ لأن ضياع حياة القلب معناه: ضياع كل الخير في هذه المدة، وحصول كل الشر في هذه المدة الهائلة التي بلا نهاية، وأي شيء بالنسبة إلى النهاية تساوي صفرًا، مهما كانت الدنيا من أولها إلى آخرها لذات، ثم يكون مصير الإنسان إلى النار أبد الآبدين يقسم بالله صادقًا فيقول: لا والله ما مر بي نعيم قط، فعندما يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيغمس في النار غمسة واحدة فيقال: هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله ما مر بي نعيم قط، ونعوذ بالله من ذلك، ويغمس أبأس أهل الدنيا من أهل الجنة في الجنة غمسة واحدة فيقال له: هل مر بك بؤس قط؟ هل مر بك شقاء قط؟ فيقول: لا والله ما مر بي شقاء قط.
فالعقل يقتضي أن يبحث الإنسان عن سبب حياة قلبه، والقلب يحيا ويموت ويمرض وهذا في كتاب الله ﷿، قال تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ [الأنعام:١٢٢]، وقال ﷿: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ [فاطر:١٩ - ٢٢].
قوله: (من في القبور) أي: الكفار، قبورهم هي أجسادهم دفنت فيها القلوب، وماتت القلوب.
13 / 3