223

Lessons by Sheikh Al-Albani

دروس للشيخ الألباني

Noocyada

شرح حديث: (. إذا أنا مت فأحرقوني) حديثنا في هذه الليلة يبدأ بالحديث الرابع من باب الترغيب في الخوف وفضله، والحديث صحيح كما سيدلكم تخريجه. قال المؤلف ﵀: وعن أبي هريرة ﵁ أن النبي ﵌ قال: (كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اطحنوني، ثم ذروني في الريح، فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا، فلما مات فُعل به ذلك، فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك. ففعلت، فإذا هو قائم، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك يا رب، أو قال: مخافتك، فغُفر له) . وفي رواية: أن رسول الله ﵌ قال: (قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله: إذا مت فحرقوه، ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين، فلما مات الرجل فعلوا به ما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب وأنت أعلم، فغفر الله تعالى له) رواه البخاري ومسلم، ورواه مالك والنسائي بنحوه. هذا الحديث يتضمن من غرائب الحوادث والوصايا التي كانت تقع في الزمن السابق ما قبل الرسول ﵌، فكان يقع فيه من الغرائب والعجائب التي إما أنه لم يعد يقع مثلها بعد الرسول ﷺ لحكمةٍ أرادها الله، وإما أنه قد يقع شيء منها ولكن لا يبلغنا خبرها؛ لأنه ليس لنا هناك من يستقصي هذه الأخبار إلا الخالق لأصحابها وأصحاب العلاقات بها، ثم هو يوحي بها إلى نبينا المعصوم ﵊، ثم هو يبلغها أمته موعظةً وذكرى. من أجل ذلك أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ﵄، قال: قال رسول الله ﷺ: (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) . الشاهد هو الفقرة الوسطى من هذا الحديث، ألا وهي قوله ﵇: (وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) وإن من خير ما يحدث به أحدنا اليوم عن بني إسرائيل هو ما حدثنا به رسول الله ﷺ، مما صحت الأسانيد بذلك عنه ﵊. فهذا الحديث -كما سمعتم- فيه عجيبة من تلك العجائب، فالرسول ﵌ يقول: (كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضره الموت) في رواية أخرى: (لم يعمل خيرًا قط) وفي هذه الرواية الأولى استمر في إسرافه على نفسه، وظلمه لها، حتى حضره الموت، أي: لم يكن من أولئك الذين يقضون شطرًا من حياتهم في الإسراف في الفسق والفجور، ثم قبيل وفاتهم يرجعون إلى الله ﵎ ويتوبون إليه، هذا الإنسان لم يكن كذلك، وإنما استمر في إسرافه وفي ظلمه لنفسه ومعصيته لربه حتى حضره الموت، لكنه لم يكن من أولئك الناس المغرورين الذين يسيئون العمل ثم يرجون من الله ﵎ المغفرة، هكذا كثير من المسلمين اليوم مع الأسف الشديد، يتواكلون على مغفرة الله ﷿، ولا يتعاطون من الأعمال الصالحات ما بها يستحقون مغفرة الله ﵎، فهذا الرجل كان معترفًا بتقصيره وبجنايته على نفسه، ومع ذلك فيبدو من هذه القصة العجيبة أنه كان إيمانه لا يزال حيًا في قلبه، وكان لا يزال فيه شيء استحق به أن ينال مغفرة الله ﵎، مع أنه سلك سبيلًا ربما لم يسلكه أحدٌ قبله ولا أحدٌ بعده، ذلك أنه أوصى بهذه الوصية الجائرة، حيث قال ﵊: (فلما حضره الموت، قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني) ولم يقنع بهذا، ثم قال: (اطحنوني) تصورًا منه أن الحرق قد لا يأتي على عظامه كلها، فيبقى هناك شيء قائم من هذه العظام، فتأكيدًا لما خيل له من وسيلة للنجاة من عذاب الله ﷿، قال لهم: (اطحنوني) وهذا باعتبار ما كان، كان إنسانًا قويًا، فمات فأمرهم بأن يحرقوه بالنار، ثم أكد لهم ذلك بأن يطحنوه، ثم يأخذوا الحاصل من ذلك الحرق والطحن وهو أن يصبح رميمًا، قال: (ثم ذروني في الريح) . وفي رواية أخرى فيها توضيح كما سمعتم وسيأتي أيضًا: أنه أمر بأن يذَرُّوا، أو يذْروا -روايتان- نصف الرماد هذا في البر ونصفه في البحر، مبالغة في أن يضيع على الله ﷿ في زعمه الضال، قال: (ثم ذروني في الريح) لماذا أوصى بهذه الوصية الجائرة الغريبة؟ حلف وبين فقال: (فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا) أي: من المسرفين على أنفسهم، (فلما مات فعل به) وهنا يظهر نوع من الطاعة من الأولاد للآباء، طاعة متناهية، ولكن يظهر أنه لم يكن عندهم في شرعهم أن مثل هذه الوصية هي وصيةٌ جائرة لا يجوز الإيصاء بها، وإذا ما أوصى بها جائرٌ كهذا فلا يجوز للموصى له أن ينفذها؛ لأنها مخالفة لشريعة الله ﷿، فتنفيذ هؤلاء الأبناء لوصية أبيهم هذا يحمل على وجه من وجهين: الأول: أنه ربما لم يكن في شرعهم أن هذا لا يجوز. الوجه الآخر: أنه إذا كان ذلك في شرعهم فهؤلاء لم يكونوا على علم بذلك، ولذلك بادروا فنفذوا وصية أبيهم هذه. قال ﵊ في تمام الحديث: (فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك) بعد أن تفرقت ذرات هذا الإنسان المحرق بالنار والمذرو في الريح وفي البحر، قال لكل من البحر والأرض اليابسة: اجمعي ذرات فلان، وقال لها: كوني فلانًا، فكانت بشرًا سويًا، فقال ﷾ مخاطبًا لهذا الإنسان بعد أن أعاده كما كان: (ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك يا رب، أو قال: مخافتك، فغفر له) وفي رواية: أن رسول الله ﷺ قال: (قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله: إذا مت فحرقوه) انتقل من الخطاب إلى الغائب، قال: (إذا مت فحرقوه، ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين، فلما مات الرجل فعلوا به ما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب وأنت أعلم، فغفر الله تعالى له) .

17 / 8