Lessons by Sheikh Al-Albani
دروس للشيخ الألباني
Noocyada
الشرع أساس التحسين والتقبيح
هنا يأتي
السؤال
ما هو سبيل معرفة السنة الحسنة والسنة السيئة؟ أهو العقل والرأي المحض أم هو الشرع؟
الجواب
ما أظن أن قائلًا يقول: هو العقل والرأي، وإلا ألحق نفسه -ولا أقول نلحقه- بـ المعتزلة الذين يقولون بالتحسين والتقبيح العقليين! هؤلاء المعتزلة هم الذين عرفوا منذ أن ذروا قرنهم وأشاعوا فتنتهم بقولهم: إن العقل هو الحكم، فما استحسنه العقل فهو الحسن، وما استقبحه العقل فهو القبيح.
أما رد أهل السنة والجماعة بحق فإنما هو على النقيض من ذلك، فالحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع.
إذًا حينما قال ﵊: (من سن في الإسلام سنة حسنة) أي: شرعًا، (ومن سن في الإسلام سنة سيئة) أي: شرعًا، فالشرع هو الحكم في أن نعرف أن هذه سنة حسنة، وهذه سنة سيئة، إذا كان الأمر كذلك حينئذٍ لم يبق مجال للقول بأن معنى الحديث: من سن في الإسلام سنة حسنة، أن المعنى: بدعة حسنة، فنقول: هذه بدعة لكنها حسنة، ما يدريك أنها حسنة؟ إن جئت بالدليل الشرعي، فعلى الرأس والعين، والتحسين ليس منك وإنما من الشرع، كذلك إن جئت بالدليل الشرعي على سوء تلك البدعة؛ فالشرع هو الذي حكم بأنها سيئة وليس هو الرأي.
فهذا الحديث إذًا من نفس كلمة (حسنة وسيئة) نأخذ أنه لا يجوز تفسير الحديث بالبدعة الحسنة، والبدعة السيئة، التي مرجعها الرأي والعقل، ثم يندعم هذا الفهم الصحيح لهذا المتن الصحيح، بالعودة إلى سبب ورود الحديث، وهنا الشاهد.
الحديث جاء في صحيح مسلم، ومسند الإمام أحمد وغيرهما من دواوين السنة، من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه قال: (كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فجاءه أعراب مجتابي النمار متقلدي السيوف، عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تمعر وجهه -أي تغيرت ملامح وجهه ﵊، حزنًا وأسفًا على فقرهم الذي دل عليه ظاهر أمرهم- فخطب في الصحابة وذكر قوله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [المنافقون:١٠] ثم قال ﵊: تصدق رجل بدرهمه بديناره بصاع بره بصاع شعيره) (تصدق): هو فعل ماض، لكن هذا من بلاغة اللغة العربية، أي: ليتصدق، فأقام الفعل الماضي مقام فعل الأمر، إشارة إلى أنه ينبغي أن يقع ويصبح ماضيًا.
ليتصدق أحدكم بدرهمه بديناره بصاع بره بصاع شعيره، وبعد أن انتهى ﵊ من خطبته قام رجلٌ ليعود وقد حمل بطرف ثوبه ما تيسر له من الصدقة، من طعام، أو دراهم، أو دنانير، ووضعها بين يدي الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلما رأى أصحابه الآخرون ما فعل صاحبهم، قام كل منهم ليعودوا أيضًاَ بما تيسر لهم من الصدقة، قال جرير: (فاجتمع أمام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الصدقة كأمثال الجبال، فلما رأى ذلك رسول الله ﷺ تنور وجهه كأنه مذهبة) قالوا في تفسير هذا التشبيه، (كأنه مذهبة): أي: كالفضة المطلية بالذهب.
في أول الأمر لما رآهم ﵊ قال: تمعر وجهه أسفًا وحزنًا لكن لما استجاب أصحابه لموعظته ﵊ تنور وجهه كأنه مذهبة، وقال: (من سن في الإسلام سنة حسنة ...) إلى آخر الحديث.
الآن نقول: لا يصح بوجه من الوجوه أن يفسر الحديث بالتفسير الأول: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة؛ لأننا سنقول: أين البدعة التي وقعت في هذه الحادثة، وقال ﵊ بمناسبتها من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة؟ لا نرى هناك شيئًا من هذا القبيل إطلاقًا، بل نجد أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خطبهم آمرًا لهم بالصدقة، مذكرًا لهم بآية في القرآن الكريم، كانت نزلت عليه مسبقًا، وهي: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [المنافقون:١٠] وأكد ذلك ببعض حديث: (تصدق رجل بدرهمه بديناره بصاع بره بصاع شعيره) إذًا ليس هناك إلا الصدقة، والصدقة عبادة، تارة تكون فريضة، وتارة تكون نافلة.
فإذًا: لا يجوز أن نقول: معنى الحديث من ابتدع؛ لأنه لم يقع هنا بدعة، ولكن لو رجعنا إلى لفظة (سنَّ) في اللغة العربية، للمسنا منها شيئًا جديدًا في هذه الحادثة، لكن ليست هي البدعة، الشيء الجديد هو قيام هذا الرجل أول كل شيء وانطلاقه إلى داره ليعود بما تيسر له من صدقة، فأصحابه الآخرون فعلوا مثل فعله، فسن لهم سنة حسنة، لكن هو ما سن بدعة، سن لهم صدقة، والصدقة كانت مأمور بها من قبل، كما ذكرت آنفًا.
قد أكون أطلت قليلًا أو كثيرًا، ولكن أرى أن هذا البيان لا بد منه لكل طالب علم؛ ليفهم النصوص الشرعية فهمًا صحيحًا حتى لا يضرب بعضها ببعض.
فقوله ﵊ الذي أخذ بظاهره بعض العلماء فأباحوا أخذ الأجر على القرآن مطلقًا، لا يصح فهمه على هذا الإطلاق، بل ينبغي أن نربطه بالسبب وهو: الرقية، فلا يكون في ذلك أخذ الأجر المنصوص في الحديث لمجرد تلاوة قرآن أو تعليمه، بل للرقية بالقرآن الكريم، ويؤكد هذا أخيرًا -ولعلي أكتفي بهذا الذي سأذكره- أن رجلًا علَّم صاحبًا له في عهد النبي ﷺ القرآن، فأهدى إليه قوسًا ولكنه توقف حتى يسأل النبي.
عودًا إلى حديث أبي سعيد، لماذا توقف أبو سعيد من الاستفادة من الأجر الذي أخذه من أمير القبيلة، وهذا الرجل الثاني لما أهديت له القوس توقف حتى سأل الرسول ﵇، لماذا توقف هذا وذاك؟ لأنهم كانوا فقهاء حقًا، وكانوا يفهمون مثل الآية السابقة: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة:٥] ف أبو سعيد قرأ القرآن ولو أنها مقرونة بالرقية، وهذا الآخر علم صاحبه القرآن، فخشي أن يكون ذلك منافيًا للإخلاص في عبادة الله ﷿.
فكان من ذلك أن أبا سعيد تورع عن الانتفاع بالأجر الذي أخذه مقابل الرقية، حتى قال له ﵇ ما سمعتم، أما هذا الرجل الثاني الذي علم صاحبه القرآن، لما جاء إلى النبي ﷺ وذكر له بأنه علمه فأهدى إليه قوسًا، قال: (إن أخذتها طوقت بها نارًا يوم القيامة) فإذًا أخذ الأجرة على تعليم القرآن بهذا الحديث والحديث الآخر: (يتعجلونه ولا يتأجلونه) لا يجوز إطلاقًا.
12 / 7