Lessons by Sheikh Al-Albani
دروس للشيخ الألباني
Noocyada
علاقة صلاح الظاهر بصلاح الباطن
كنا ونحن في دمشق حينما نحضر بعض المساجد، وبخاصة المسجد الكبير -مسجد بني أمية- الذي تقام فيه دروس من أنواع مختلفة، ومنها درس في الحديث، وكان يلقيه في شباب حياتي الشيخ/ بدر الدين الحسيني، الذي هو والد الشيخ/ تاج، الذي كان في بعض مراحل الحكومات السورية رئيس جمهوريتها، الشيخ/ تاج هو ابن الشيخ بدر الدين، والشيخ/ بدر الدين الحسيني كان يلقي درسه في الحديث في وسط المسجد، ويعرف هناك في دمشق تحت قبة النسر، هذه القبة أكبر قبة في وسط المسجد في أعلى المسجد، فكانت تقام هناك الحلقة والشيخ يحدث بالحديث، وكان يجري في تحديثه على الطريقة المتبعة عند علماء الحديث قديمًا، وهو أن يحدث بالحديث بالسند، إما أن يكون الحديث مما تلقاه عن بعض مشايخه بالسند، وحين ذاك يكون السند أطول من المتن بكثير جدًا، ثم لا يستفيد أحد من الحاضرين منه شيئًا مطلقًا، وأحيانًا ينقل الحديث مع السند من بعض كتب الأمهات الست وغيرها.
والشاهد: أن الحلقة واسعة جدًا، يمكن قطرها أكثر من ستة أمتار في ستة أمتار، فهل يلام هؤلاء حينما يتفرقون هذا التفرق؟ ومدرس الحديث لا يروي لهم مثل هذا الحديث وهو في صحيح مسلم: (ما لي أراكم عزين) والحديث الذي في مسند الإمام أحمد عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله تعالى عنه قال: (كنا إذا سافرنا مع النبي ﷺ فنزلنا منزلًا تفرقنا في الوديان والشعاب، فقال لنا ﵊ ذات يوم: إنما تفرقكم هذا من عمل الشيطان)، أين يتفرقون؟ هل في المسجد؟ لا.
بل في الصحراء في البرية! كل طائفة أو جماعة ينتحون ناحية يتظللون بأشجارها وبسدرها ونحو ذلك، ومع ذلك أنكر ذلك عليهم وقال: (إنما تفرقكم هذا من عمل الشيطان)، قال أبو ثعلبة: (فكنا بعد ذلك إذا نزلنا منزلًا اجتمعنا حتى لو جلسنا على بساط لوسعنا) أين هذا؟ في الصحراء، فما بالكم في مجالس العلم.
ولذلك فخلاف السنة تكبير الحلقة، وإنما تصغيرها ما أمكن ذلك، ولذلك فجلوسهم هكذا صفين فقط ويبقى هناك فراغ يمكن إملاؤه هذا خلاف السنة.
فنحن نذكر في هذه المناسبة دائمًا وأبدًا أن مثل هذا التوجيه من النبي ﷺ، ومثل هذا الاهتمام بتجميع المسلمين في أبدانهم وفي أشخاصهم، لم يكن ذلك من باب الاهتمام بالظاهر فقط دون إصلاح الباطن، ذلك لأنه من المقرر شرعًا أن إصلاح الظاهر يساعد على إصلاح الباطن، وهذا صريح في قوله ﵊ المعروف: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) .
ونحن نقول بمثل هذه المناسبة: كما أن صلاح الجسم من الناحية المادية والصحة البدنية يتعلق بصلاح القلب وصحته، فإذا كان القلب في جسد صاحبه سليمًا، فلا يمكن أن يكون الجسد إلا سليمًا، والعكس بالعكس؛ إذا فسد القلب مرض الجسد، هكذا يقول نبينا صلوات الله وسلامه عليه، مذكرًا لنا بوجوب الاهتمام في إصلاح الظاهر؛ لأن هذا الإصلاح يكون -أولًا- دليلًا على صلاح الباطن، ثم يكون هناك تعاون بين الظاهر والباطن، وكما أقول دائمًا وأبدًا: هذا الحديث يعطينا عن خاطرة أو فكرة سبقت في أذهان بعض الفلاسفة قديمًا، ولم يستطيعوا حتى اليوم أن يحققوها فعلًا، وهي ما يسمونها بالحركة الدائمة، مثلًا: مجرد أن تضغط زر التيار يستمر مرور التيار إلى ما شاء الله بدون أن ينقطع إلا إذا أحببت، أو سيارة -مثلًا- إذا حركتها تستمر بدون أي قوة! حركة دائمة منها من ذاتها، هذا خيال! لكنه حقيقة فيما يتعلق بصلاح الباطن والظاهر، فصلاح الباطن يؤثر في صلاح الظاهر، وصلاح الظاهر يؤثر في صلاح الباطن، والدليل ما أمر به النبي ﷺ في الاجتماع في حلقات الذكر -كما قلنا آنفًا- في قوله ﵇: (ما لي أراكم عزين) وفي قوله الآخر: (إنما تفرقكم هذا من عمل الشيطان) وأكثر من ذلك قوله ﵇ حينما كانت تقام الصلاة فلا يكبر حتى يأمر بتسوية الصفوف، ويقول لهم: (لتسوون صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم) إذًاَ: الاختلاف في الصفوف يؤدي إلى الاختلاف في القلوب، والاستواء في الصفوف يؤدي إلى استواء القلوب وتحببها وتجمعها ونحو ذلك، لهذا كان ﵊ يهتم بإصلاح الظاهر وإصلاح البدن، وقديمًا قالوا: صلاح الأبدان كصلاح الأديان، فكل منهما مرتبط مع الآخر.
أنتم تعلمون أن النبي ﷺ يأمر المسلم الذي أصابه مرض ما أن يتداوى، حيث قال ﵊: (تداووا عباد الله، فإن الله لم ينزل داءً إلا وأنزل له دواء) زاد في حديث آخر: (علمه من علمه وجهله من جهله) فإذًاَ: يجب العناية بالأمرين معًا، وليس كما يزعم بعض الجهلة: يا أخي! العبرة بما في القلوب، إذا قيل له: لماذا لا تصلي؟ لماذا لا تقوم بواجبك الشرعي؟ يقول لك: العبرة بما في القلوب، أنا والحمد لله لا أضر أحدًا، ولا أغش أحدًا، ولا، ولا إلخ، وهذا كذاب، الشيطان دلس عليه، هو يقول: لا يغش أحدًا، وأول من غش هو نفسه؛ لأنه عصى ربه، فكيف يمكن أن يكون سليم القلب وهو لا يطيع الله ﷿ على الأقل فيما فرضه الله عليه.
هذه كلمة بين يدي التضام في حلقات العلم، لابد منها أن تكون على بال منكم، حتى تأتمروا أولًا بأوامر الرسول ﷺ، وحتى تتذكروا هذه الحقيقة: أن صلاح الباطن لا يغني عن صلاح الظاهر، صلاح الأبدان لا يغني عن صلاح الأديان، وصلاح الأديان -إذا صح الجمع- لا يغني عن صلاح الأبدان.
9 / 2