قلت: لقد أصبت مواقع الرأي، ولكن الذين تطول ذلك أيديهم من أبناء وادي النيل ليشمخون بأنوفهم عزة عن معالجته؛ لأنهم يرون أن العار كل العار في النزول بالنفس إلى تلك المنزلة. وسيدي يعلم - نفعنا الله بعلمه - أن هؤلاء المصريين وإن تقلبت بهم أحوال غير جميلة، فسلبوا من الهمة بقدر ما رزقوا من الخمول، لا يزالون يحفظون في ثنايا النفوس بقية من شمم الآباء، ويخفون في قرارتها صبابة من ذلك الإباء؛ ولذلك ترى المصري كائنا من كان يؤثر حبس ماله عن استثماره والانتفاع به في أمثال هذه المخازي، فسلوته - على ما أرى - قد أصبحت في الحرص على حياة تلك الذكرى في نفسه، فإنك لا تجد في خلق الله من يسرك مظلوما من غيره، ويرضيك ظالما لنفسه. اللهم إلا هذا المصري المسكين، على أن سيدي - حفظه الله - قد نظر إلى الأمر نظرة عمرانية، فعز عليه أن يرى المصري مأكولا غير آكل، وقد ألم صاحب المنار الأغر بما نحن فيه، فكتب في ذلك وأبدع.
وقال
صلى الله عليه وسلم : «لعن الله شارب الخمر، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها.» وقد احتمل أكثر المسلمين في مصر كل هذه اللعنات إلا اللعنة الأخيرة، فإنهم حملوها للأجانب، وأعطوهم أجرة حملها الملايين من جنيهات، والألوف من الفدادين.
قال صاحبي: ألا ترى أنني كأني نظرت إلى ما كتب بلحظ الغيب، وهذه أمة الفرنسيس - وهي أعرق الأمم مدنية وأقدمها حضارة - لا يزال يرى فيها الرائي من المخازي العصرية أضعاف ما يجده في أمة النيل! ولكن أفرادا منها قد انبروا إلى التقاف ما تطوح به أيدي المستهترين في مهاوي تلك المخازي، فلا يكاد يخطئهم دينار أو يفلتهم درهم، وقل أن يذهب الغريب في بلادهم بغير الصدئ من تلك النقود.
قلت: لقد أجمع المشتغلون بعلوم الاقتصاد على أنه ينبغي أن تترك الأعمال لأربابها، فإذا نظروا إنسانا مضطلعا بعمل من الأعمال نابغا فيه، تركوا له أمر الاشتغال به لينتفع وينفع، وعلموا أن الرومي لا يجارى في حسن القيام بشئون المنتديات والمراقص، وأنه لا يبارى في الصبر على احتمال ما هو فيه، فأفسحوا له في بلادهم مكانا، وكانوا له عونا على انتشار صناعته.
هذه باريز على تسابق أهلها وتناحرهم في شئون الحياة، لا تزال ترى في هنا وثم منها أماكن للأروام بديعة النظام، لا يزاحمهم فيها مزاحم، اللهم إلا نفرا من أهلها قد أودعت فيهم طبيعة الاستعداد الرومي، فشاركوهم في صناعتهم، وصابروهم على احتمال ذلها.
قال صاحبي: كان يكون ذلك شبيها بالحق في أمم الشرق لو أنهم تركوا مالا يضطلعون به، وأخذوا فيما فطروا عليه من الاستعداد بالقيام به، ولكنهم تركوا كل شيء، وزعموا أنهم عاجزون. ظنوا بهذا الغربي الكمال، فألبسوه ثوب الإجلال، وغلوا أيديهم عن تناول ما يطمح إليه نظره، وحبسوا أفكارهم عن السبح فيما يسبح فيه فكره، قلت: إني أرى مولاي قد قتل شئوننا بحثا، فليس لي فيها ما أقول.
ومرت بنا فترة ونحن سكوت حتى إذا صرنا أمام قصر فسيح من قصور الأغنياء قد خيم عليه الديجور، وسكن سكون القبور، نظر إلي صاحبي نظرة أدركت مغزاها، فقلت: إنه قصر لغني همه الجمع، وشيمته المنع؛ فهو لا يخشى المعرة، ولا يعرف سبيل المبرة، وقد بلغ من حرصه على الدانق والحبة أنه إذا أغلس استصبح في داره بالنجوم؛ لذلك لا ترى في فنائها قنديلا، ولا يعرف الطارق إلى بابها سبيلا.
فلو يستطيع لتقتيره
تنفس من منخر واحد
Bog aan la aqoon