هممت بأمر هم لي منك زاجر؟!
فكأن الخامل إذا حاول التسلق إلى مراتب الشهرة جعلني سلما لغرضه، واعتمد علي في الوصول إلى غايته، وكأن الناشئ في حرفة الأدب لا يرى لنفسه منفذا للظهور في غير الغض مني، والوقوع في، فلا تخلو مقالة يحبرها، أو قصيدة يقرضها من انتقاصي، والنعي علي فيما أذهب إليه من مذاهب الأدب. كنت أقرأ كل ما يهذي به ويدي قصيرة عن إدراكه لعجزه وخموله، وما يعجزك مثل العاجزين. دع ما كنت أكابد من حسد المعاصر، وأقاسي من صرف النفس عن سبيل الهوى، فكم تمنيت مجالس الشراب، والتبسط على اللهو، وحالت بيني وبينها الحوائل! وكم التفتت نفسي إلى ما يدعو إلى التفات النفوس من الشهوات، فحاكمتها إلى سلطان الكمال، وماددتها حبل الجدال، حتى إذا همت بالخروج عن دائرة الامتثال، وسئمت صحبتها على تلك الحال، رأيت أن أرفه عنها، وأهون عليها، فعمدت إلى الخمول لأجمع فيما بقي من أيام العمر بين اللذتين، وأسرح النفس من ذل السجن الذي كاد يأتي عليها، وما فعلت ذلك التماسا لعقوق الفضيلة، أو نزوعا إلى عيش المستهترين من عبدة الشهوات، فليس ذلك من أمري، ولا هو بملذوذ عند مثلي، ولكني فعلته طلبا للهدنة بيني وبين الزمان، وإشفاقا على الحاسدين من حسد أكل صدورهم، وعملا بقول القائل:
ليس الخمول بعار
على امرئ ذي كمال
فليلة القدر تخفى
وتلك خير الليالي
كذلك كان يحدثني ذلك النبيه عن آلامه، فهل تغبط بعدها نبيها على عيشه، وتتطلع إلى الدخول فيما يخرج عن الطوق؟! ألم تر إلى فريق الفلاسفة كيف أنه اختار العزة، ونفر من الشهرة؟! وهذا «إيبيكير» اليوناني يقول: استر حياتك ما استطعت.
قال صاحبي: لقد حببت إلي عيش الخامل على ما فيه من غضاضة تلحق بالنفس، وفتور يقع في الهمة، وإن كان هذا شأن الضعيف من الناس، فإني أراني قد خلقت ضعيفا، ليس في طوقي احتمال ما ذكرت من المصاعب، فلو أنه سلف لي من نباهة الذكر ما سلف لي من الخمول، لقارنت بين الألم في الحالين، وحكمت بين الراجح والمرجوح من الكفتين، ولكن سلني إن شئت عن آلام الخاملين أصورها لك تصويرا يبلغ منك مبلغ العيان.
قلت: مهما تأنقت في التصوير، وأبدعت في التعبير، فإن ذلك لا يكون شيئا بجانب كلمة يقع بها في عرضك سافل، رجاء أن يجتعل على سبك من حاسد يكيد لك، أو معاصر ينفس عليك، وها نحن أولاء قد بلغنا مكان الافتراق، فمني عليك السلام.
قال الراوي: ثم أخذ كل منا سمته إلى داره. ولما كان الغد وقد حان الموعد، خرجت أطلب سطيحا، فأخذت طريقي إليه، ولم يسم لي فيه ما يلفت النظر، ولم يقع بصري على حي أستصحبه، غير أني لم أكد أبلغ مكان اللقاء حتى تراءى لي إنسان لم أدر أخرج من الأرض أم هبط من السماء، فتبينته فإذا هو غلام مراهق يتيمن الناظر بمشهده، كأنه صور من نفس من ينظر إليه، فدانيته وأنا أكبره لما ألقى الله عليه من الهيبة، وقد بهرني جماله، وأخذ مني حسن سمته، فما هو إلا أن رآني حتى أقبل بوجهه علي، وخاطبني بلسان عربي قد خلص من لوثة الأعرابية، وسلم من لكنة الأعجمية.
Bog aan la aqoon