Habeenada Ruuxa Wareersan
ليالي الروح الحائر
Noocyada
لم تحدثني نفسي أن ما رأيته في بيت صاحبي وما قرأته في مؤلفاته كان أكبر دليل على أن الإنسان ليس إلا آلة عمياء في يد القضاء، وأنه مجذوب مدفوع إلى نهايته بكل قواه وبكل ما يحيط به. •••
في شهر يناير أرسلت إلى صديقي دي نافا تذكرة أهنئه فيها بحلول العام الجديد، فلم يصلني منه رد، فكتبت بعد حين إلى صديقة لنا وسألتها عن صديقها، فأجابتني هكذا: «إن دي نافا سافر من لوزان هو وأسرته إلى مارتينيك، وكان هناك يوم نزلت الكارثة بأهل الجزيرة وهلك وأهله مع الهالكين.»
الليلة الحادية عشرة
الأخوات الثلاث
زارني الروح الحائر وأنا أقرأ ديوان شعر، قال: أتقرأ الشعر؟ إنك إذن لا تزال متعلقا بالخيال. قلت: كيف ذلك؟ قال: إن الشعر صنع الغاوين وفتنة أرباب النفوس الخفيفة؛ لأنه لا يكون خاليا من ذكر الحب، والحب حلم فارغ مزعج. قلت: كيف تقول هذا وأنت في عالم الأرواح، عالم الحب والهناء الأبدي؟ قال: بل كيف تقول إنني في عالم الحب والصفاء الأبدي وأنت تعلم أنني روح حائر أنشد الحقيقة بعد الموت كما كنت أنشدها قبله؟ قلت: وهلا تلتمس الحب أيضا؟ قال: كلا، إنني عرفت ثلاث أخوات فلما رأيت طبائعهن وبانت لي حقيقة المرأة أعرضت عن الخيال وهمت بالحقيقة. قلت: حدثني حديث الأخوات الثلاث.
قال: الأخت الكبرى امرأة متزوجة وليس للحسن في خلقها حسنة إلا أن مجموعها لا ينفر النظر، وتقاطيع وجهها إذا أخذت جملة قد تخدع المشاهد عند الوهلة الأولى، ولها من حين إلى حين نظرة حسنة يسميها العرب نظرة غنج ويصفها الإفرنج باللين، فيقولون إنها ذات نظرة «لينة»؛ لأنهم يرون انكسار العين فيفهمونه، ولكنهم لا يتصببون فيه ، إنني لم أرها بكرا، ولكنني أظن الزواج قد خلع عليها حلة لا يمنحها إلا من يدخلن فناءه.
أبو الثلاث إيطالي المولد، وأمهن فرنسوية من صميم فرنسا، فأخذتها جدتها إلى إيطاليا في صباها وحببت إليها السياحة، فانتبهت في نفس البنت عواطف كانت خامدة، وتحرك فيها العرق الدساس، ففطنت إلى ما حولها من جمال الطبيعة، وقضت أياما طوالا في كنائس بدوا وفلورنسا ومعابد جنوة ومقابرها، كانت خجولا فتعلمت الإقدام، ومحبة لبيت أمها فمالت إلى الأسفار، وهيئ لها أن تسافر إلى بلاد الإنكليز فلم تتردد، واخترقت بحر المانش، وقضت بينهم ثلاث سنين، تعلمت خلالها لغتهم، وخالطت رجالهم ونساءهم، واطلعت على كثير من دخائلهم، واستفادت من عشرتهم. ثم عادت إلى فرنسا، فتزوجت من طالب لم ينته بعد من دراسته، اكتسب حديثها طلاوة المنطق فهي ليست كغيرها من الفرنسويات، لا تأخذ القول على علاته، إنما تمحص الآراء، ولا تكثر من الحديث، وهذه من نعم الإنكليز عليها. تعلمت الرزانة في الأخلاق ونسيت الطيش والحدة، لا أظنها كانت طائشة في صباها، ولكن لم تكن لتصل إلى الأناة والتؤدة التي بلغتها في العشرين إلا نحو الأربعين.
تعلمت أن الإنكليز يعملون ولا يقولون، وأن بعض الناس يستبيحون الخبث للتستر، وأن ما يقترفونه في الخفاء تقشعر الأبدان من ذكره في العلانية، فرأت أن هذه وسيلة لا بأس بها وأنها تنيل الغرض وتحمي من الملام. عرفت ذلك من حديثها، ولكنني لم أعلم إلى أي مقدار بلغ تطبيق العلم على العمل في شئونها، إنما أعلم أنها قادرة على اللعب بزوجها كما يلعب الإنكليز بكرة القدم، وهي تعامله كالطفل، وقد تجده أبسط من أطفال الإنكليز الذين كانت تتعهدهم؛ لأنها كانت مربية. رأيت من حديثها أنها تعتبر ذاتها زوجة إنكليزية لزوج فرنسوي - هي العقل المدبر وهو اليد العاملة.
قرأت معظم مؤلفات إميل زولا وهي تلخصها كتابا كتابا أمام أختيها الصغريين بلا حياء، ولا تخفي استحسانها لأبشع ما كتب الأستاذ الجليل، فيخيل لمحدثها أنها رجل لا امرأة، وقد يكون زوجها جالسا فلا يفهم أكثر ما تقول، وإذا تكلم المسكين أشفع كل جملة من حديثه بنظرة إليها وبقوله: أليس كذلك يا زوجتي؟ فتجيبه: بلى، يا زوجي الصغير. إنها تتكلم الإنكليزية بتردد كما يسير الطفل في شهوره الأولى، ولكنها تعير تلك اللغة الصلبة مرونة لسانها الجميل، إنها لم تقرأ كثيرا من الكتب، ولكنها قرأت لكثيرين من الإنكليز، رأيتها يوما وحيدة ولم يكن معها زوجها فلم تترك لحظة تمر بدون ذكر كلمة تخرج عن سياج الآداب من اللغة المحلية بين الطبقات الدنيا «أرجو»، فإذا سألتها معنى ما تقول أطنبت في التفسير ولم تترك مجالا لقائل، فكنت أشعر بأنها من النوع الذي يمرح في الأقذار ويستبيح ما لا يستباح باسم الحرية، لقد أنقذها الله بالزواج الذي منحها الصون المصطنع والعفة المفتعلة، ولست أدري ماذا كانت تكون حالها لو بقيت بدونه، وقد جمعت في طبيعتها ميول الفرنسويات وخبث جيرانهم؟
أظنها تعيش سعيدة وتسعد زوجها إذا لم يمت قبل الأوان، وإذا لم تلق في طريق الحياة من هو أجمع للصفات التي تستهويها. إن زوجها يعيش معها على سفح بركان، ولكن كثيرا ما تنمو على تلك السفوح جنات خضر وحدائق.
Bog aan la aqoon