Habeenada Ruuxa Wareersan
ليالي الروح الحائر
Noocyada
كنت كلما أستعيد ذكرى الماضي تسود الدنيا في وجهي وتدثرني الهموم بثوب من الحزن لا ندما على ذنب جنيته، ولا خوفا من الموت القادم، ولكن غيظا من عجزي عن حل ألغاز هذا الوجود!
إنني إنسان، ولكنني لست كغيري من الناس؛ أنا تستفزني كلمة، وتخدعني إشارة إخلاص، ويفتنني منظر جميل، ويحزنني بكاء فقير أو أنين عليل، إذا شكا لي حزين ناصفته قلبي، وإذا صفا لي صديق وهبته لبي، إذا سمعت عن شعب ذليل أو أمة أسيرة وددت لو أنني من أبنائها فأقدم حياتي ضحية لها، فكيف بي وأنا أرى ما أرى! أريد أن أعمل كل شيء ولا أقدر أن أقنع بالقليل، إني أستهين بكل عمل أتركه ورائي فكيف بي إذا مت وأنا لم أترك عملا يعيد شباب الوطن ويعلي قدر الإنسانية!
تقول عواطفي: «الحياة لا شيء.» فيقول عقلي: «ولكنها كل شيء.» تقول عواطفي: «ماذا يجدي قطع ميل في طريق لا حد لغايته ولا بدء لنهايته؟!» فيقول عقلي: «إن قطع ميل أفضل من قطع الأمل.» تقول عواطفي: «ما غاية المجد الفارغ إذا كان مصير صاحبه إلى الفناء الذي لا وجود بعده؟» فيقول العقل: «قد يكون مجد رجل نبراسا يضيء محجة أمة ، ويكون فوز أمة فوزا للإنسانية بأسرها، وقد لا يعرف المرء قدر عمله.» تقول عواطفي: «الموت خير من الحياة في عالم يعيش فيه النبيل العظيم محسودا مكروها محتقرا غريبا في أهله أجنبيا في وطنه يخلص له الناس ليخدعوه، ويمدحونه ليذبحوه، ويرفعونه ليخفضوه، ويعظمونه ليستصغروه.» فيقول العقل: «صه! فما أنت يا نفسي أول من عاش ومات ولم يعرف قدره، ولا أنت بأول زهرة ضاع أريجها هباء، ولا بأول شعلة تبدد ضوءها عبثا.» طال أمر هذا العراك بين القلب والعقل، وهيهات أن يتفق النقيضان أو يتحد الضدان. الموت مرقد الآلام، وهو وحده يحكم بين الاثنين؛ القلب والعواطف، كنت بالأمس أريد أن يحزن لي كل من عرفني، واليوم تمنيت لو لم يعرفني أحد، بالأمس كنت خاملا أريد الشهرة، واليوم أراني شهيرا أريد الخمول، بالأمس كنت أندب قلة أصحابي، واليوم أندب كثرة الخلان، بالأمس كنت أود لو تطول أيام الحياة، واليوم يحزنني أن تطول، بالأمس كنت في عين نفسي كل شيء، واليوم أصبحت لا شيء. لقد ذقت سائر صنوف الآلام، فوجدت أشدها على النفس وأقساها ألم لا يذوقه كثيرون، ومن يذوقه مرة لا يعيش ليذوقه أخرى؛ وهذا هو ضيعة آمال الفرد أو الجماعة واختفاؤها عن عين الفكر اختفاء السراب عن النظر بعد تمكن الظمأ من الناظر، آمال سنين تهدم في طرفة عين، وآمال طرفة عين لا تحقق في سنين!
هذه صورة من فكري وأنا على حافة القبر، فلتكن عبرة من العبر، ولكن هيهات أن يكون في الناس من يعتبر!»
ثم سكت الروح الحائر، وصاح ديك مؤذن بالفجر، فقلت: إيه لك أيها الروح، لقد هدمت ما بناه الأوائل والأواخر، وهزأت بالصغائر والكبائر، لقد أغرقت البشر في بحر من الحزن والقنوط، وتركتهم من الحسرة واليأس في محيط زاخر.
قال: «اسمع، إنني الآن خرجت من أرضكم بعد أن خبرت أمرها، فلما تجردت عن المادة فطنت إلى سرها، إن الحزن معدنكم، وقد عجنت الأرباب الإنسانية بأمواه اليأس، ثم أخذتها سنة فاختلس إله الحب غفوتها ووضع في العجين خميرة الأمل ، فملئتم به ، ثم خبزتم في أتون الشقاء، وخرجتم كالأرغفة، كل رغيف لقمة لآكل. إنكم أبناء الندامة، تمرحون لحظة في بساتين الرجاء، وقصة آدم من الأساطير الأولى الخالدة؛ لأن لكل منكم تفاحة وثعبانا. أنتم - أيها الناس - قطع الشطرنج، والقضاء والقدر لاعبان. أنتم - أيها الناس - صور تحرككم يد الدهر في ملعب الوجود الحقير، والصوت المسموع فيكم هو صوت الحزن الدائم والعويل. اتخذتم الضحك وهو شكل من أشكال البكاء، رقصتم لتخدروا أبدانكم بخمر الحركات لتغيب عنكم الأحزان، سكرتم لتقتلوا الهموم، لهوتم؛ لأن اللهو ملجأ الضعفاء، كلكم ذليل، وأعزكم أذلكم، حتى الملوك على عروشهم وأرباب أوليمبية لها يوم تنوح فيه. ألم تسمعوا صوت سوفوكليس المجيد وهو عينكم الباكية وصوتكم الناعب ولسانكم الصائح؟ كلكم «الملك أديب»؛ لأن كلكم هدف لسهام الزمان، كلكم يتصداكم القضاء ليقضي عليكم إذا آن الأوان، إن الطبيعة التي تدعونها جهلا وتمليقا أمكم الحنون تحتقركم وتزدريكم وتبعث إليكم بوحوشها وأوبائها وإعصارها، البحار تلتهمكم، والنيران تأكلكم، والشهوات تغري نفوسكم وتفني أبدانكم. فلاسفتكم أقلكم، هم يختفون وراء الألفاظ التي لا يفهمون معناها، ويسخرون منكم كلما أبهموا في الآراء، نظاماتكم الأرضية الموضوعة فاسدة، وقوانينكم وضعها المنتفعون بها، وأنتم كقطيع من الغنم يهش عليه الراعي بعصاه، يا حمقى! يا طائعين طاعة عمياء! أيها العمي، إنكم لا تبصرون، هكذا كان أجدادكم، وهكذا أنتم، وهكذا يكون بعدكم الأحفاد، أين سقراط صاحب العقل الأول رسول الأنبياء وشيخ الحكماء؟ لقد جرعتموه كأس السم وأنتم جاهلون، وعيسى صلبتموه، وقلتم عن محمد إنه مجنون. جاءكم الإسكندر وقيصر فجلدا شعوبكم بالسياط، وجرا ملوك الشرق والغرب من أرجلهم، ثم جاء الملوك فأخرجوا الأرباب من أماكنها المقدسة، وتمسكوا أمامكم بحقوق قالوا إنها من الله. لعدلكم في كل مكان معنى، وللفضيلة في كل بلد بيان، لقد طمستم وجه الحقيقة ولما تعرفوها، أسماكم فكرا كطفل على شاطئ بحر الحقيقة يلتقط الأصداف ويغيب عنه الدر والجمان. سألتني عن حالكم فهذه حالكم يا بني الإنسان.
قلت: «كفى، كفى أيها الروح الحائر! ليس بعد هذا القول مجال، وأنتم - أيها الأرواح - ماذا علمتم ؟ وماذا أوجدتم وراء الطبيعة؟ وهل حللتم لغز الوجود؟»
فقال: «اسمع كلمتي الأخيرة قبل وضوح الفجر: إنني أبقي القول إلى المستقبل، وكفاك حديث الليلة في عالمكم ريثما تتأهب للوقوف على سر الوجود، إنه يأتي إلينا بمقدار!»
الليلة التاسعة
حي الأموات بلوزان
Bog aan la aqoon