عاش بين المجانين حتى ألف الجنون .. أدرك أنه سر مغلق وكشف مثير .. تمنى أن يغوص في أعماقه ويجابه تحدياته .. ولما أنعشه الهواء جرى قلبه إلى أكرمان ورسمية وحسنية، تمنى لو يزور الربع ويخالط أنفاس الأحبة .. لكن من يكون؟ لقد حلقوا شعر رأسه ولحيته وجلدوه مرتين، لا وجود اليوم لجمصة ولا لعبد الله .. إنه اليوم بلا هوية ولا اسم، مليء بالأشجان والنزوع إلى التقوى .. أوى إلى النخلة عند اللسان من النهر .. تذكر صديق الأحلام عبد الله البحري .. رجع يقول: كائن بلا هوية، غايته فوق الأكوان، ولكن تذكر وتفكر، فلم يجئك الفرج بغير ما سبب!
20
حملت دنيازاد إلى السراي ليحتفل بزفافها في رحاب السلطان تنفيذا لرغبته السامية .. اجتاحت رياح الرعب المثقلة بالغبار قلب العروس وشقيقتها صاحبة الحكايات .. نصحت شهرزاد أختها بادعاء المرض ورجت السلطان تأجيل الزفاف حتى تبرأ من مرضها .. واستدعي الطبيب عبد القادر المهيني فتولى العلاج، وسرعان ما ساورته شكوك .. كان فطنا أريبا ذا خبرة بالنفوس لا تقل عن خبرته بالأجساد، فرجح لديه أن العروس راغبة عن القرد، ولكنه تغابى بلباقة، متعاطفا مع رغبتها، دافنا سرها في بئر مهنته المصون، فقرر أن العلاج سيطول .. غير أن كرم الأصيل ضاق بالقرار، وساورته شكوك أيضا، فتضرع إلى مولاه أن يأذن له في عقد الزواج على أن يؤجل الزفاف لحين الشفاء .. وافق السلطان، وجيء بكبير القضاة فعقد الزواج، وبذلك باتت دنيازاد زوجة شرعية لكرم الأصيل صاحب الملايين .. وانتظر قوم بهجة الأفراح على لهفة، وتوقع آخرون سقوط الكارثة.
21
وقادت أقدام نور الدين الحائرة صاحبها ذات مساء إلى النهر، فخلا إلى نفسه عند اللسان .. في خلوة ناعمة بأنفاس الربيع، مشتعلة بألسنة الأشواق .. ترامى إليه صوت مناجاة فأيقن أنه صوت عابد، فانجذب نحوه ناشدا راحة وسلوى .. عثر على الشيخ تحت النخلة فأشفق من مقاطعته وجلس يستمع .. ولما انتهى الرجل سأله: من أنت؟ .. وماذا جاء بك؟
فأجاب نور الدين: إني معذب، وأنت؟ من هذه الناحية يا عم؟ - لا تهم النواحي من جعل قرة عينه في العبادة، ولكن ما سر عذابك؟ - لي حكاية غريبة!
دفعته رغبة قوية للاعتراف فحكى له حلمه بتفاصيله وما أعقبه من جنون، ثم سأله: هل تصدقني؟
فأجاب الرجل: المجانين لا يكذبون. - هل عندك تفسير للسر؟ - وراءك ملاك أو شيطان ولكنه حقيقة! - وكيف أبرأ من أشواقي؟
فقال بهدوء: نحن نكابد أشواقا لا حصر لها لتقودنا في النهاية إلى الشوق الذي لا شوق بعده، فاعشق الله يغنك عن كل شيء.
فقال نور الدين بعد صمت: إني مؤمن صادق العبادة، ولكنني ما زلت عاشقا لمخلوقات الله. - إذن فلا تكف عن البحث. - نال مني التعب والأرق. - العاشق لا يتعب.
Bog aan la aqoon