في بيان أن طريق القوم مشيدة بالكتاب ، والسنة ، وأنها مبنية على سلوك أخلاق الأنبياء والأصفياء ، وبيان أنها لا تكون مذمومة ، إلا إن خالفت صريح القرآن أو السنة أو الإجماع لا غير ، وأما إذا لم تخالف ، فغاية الكلام أنه فهم أوتيه رجل مسلم فمن شاء فليعمل به ، ومن شاء تركه ونظير الفهم في ذلك الأفعال وما بقي باب للإنكار ، إلا سوء الظن بهم وحملهم على الرياء ، وذلك لا يجوز شرعا . ثم اعلم يا أخي رحمك الله أن علم التصوف ، عبارة عن علم انقدح في قلوب الأولياء حين استنارت بالعمل بالكتاب والسنة فكل من علم بهما انقدح له من ذلك علوم ، وأدب ، وأشرار ، وحقائق تعجز الألسن عنها ، نظير ما انقدح لعلماء الشريعة من الأحكام ، حين عملوا بما عملوه من أحكامهم ، فالتصوف إنما هو زبدة عمل العبد بأحكام الشريعة ، إذا خلا عمله من العلل وحظوظ النفس ، كما أن علم المعاني والبيان زبدة علم النحو ، فمن جعل علم التصوف علما مستقلا صدق ، ومن جعله من عين أحكام الشريعة صدق ، كما أن من جعل علم المعاني والبيان علما مستقلا ، فقد صدق ، ومن جعله من جملة علم النحو فقد صدق ، لكنه لا يشرف على ذوق أن علم التصوف تفرع من عين الشريعة ، لا من تبحر في علم الشريعة حتى بلغ إلى الغاية ، ثم إن العبد إذا دخل طريق القوم ، وتبحر فيها أعطاه الله هناك قوة الاستنباط نظير الأحكام الظاهرة على حد سواء ، فيستنبط في الطريق واجبات ، ومندوبات ، وآدابا ومحرمات ومكروهات ، وخلاف الأولى نظير ما فعله المجتهدون ، وليس إيجاب مجتهد باجتهاده شيئا لم تصرح الشريعة بوجوبه ، أولى من إيجاب ولي الله تعالى حكما في الطريق ، لم تصرح الشريعة بوجوبه كما صرح بذلك اليافعي وغيره . وإيضاح ذلك : أنهم كلهم عدول في الشرع ، اختارهم الله عز وجل لدينه ، فمن دقق النظر علم أنه لا يخرج شيء من علوم أهل الله تعالى عن الشريعة ، وكيف تخرج علومهم عن الشريعة والشريعة هي وصلتهم إلى الله عز وجل في كل لحظة ، ولكن أصل استغراب من لا له إلمام بأهل الطريق أن علم التصوف من عين الشريعة ، كونه لم يتبحر في علم الشريعة ، ولذلك قال الجنيد رحمه الله تعالى : علمنا هذا مشيد بالكتاب ، والسنة ردا على من توهم خروجه عنهما في ذلك الزمان ، أو غيره ، وقد أجمع القوم على أنه لا يصلح للتصدر في طريق الله عز وجل إلا من تبحر في علم الشريعة ، وعلم منطوقها ومفهومها وخاصها وعامها وناسخها ومنسوخها . وتبحر في لغة العرب حتى عرف مجازاتها واستعارتها ، وغير ذلك فكل صوفي فقيه ولا عكس . وبالجلمة فما أنكر أحوال الصوفية إلا من جهل حالهم ، وقال القشيري لم يكن عصر في مدة الإسلام ، وفيه شيخ من هذه الطائفة إلا وأئمة ذلك الوقت من العلماء قد استسلموا لذلك الشيخ ، وتواضعوا له ، وتبركوا به ولولا مزية وخصوصية للقوم لكان الأمر بالعكس انتهى . قلت : ويكفينا للقوم مدحا إذعان الإمام الشافعي رضي الله عنه ، لشيبان الراعي حين طلب الإمام أحمد بن حنبل أن يسأله عمن نسي صلاة لا يدري أي صلاة هي ، وإذعان الإمام أحمد بن حنبل لشيبان كذلك حين قال شيبان : هذا رجل غفل عن الله عز وجل فجزاؤه أن يؤدب . وكذلك يكفينا إذعان الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه لأبي حمزة البغدادي الصوفي رضي الله عنه ، واعتقاده حين كان يرسل له دقائق المسائل ويقول : ما تقول في هذا يا صوفي كما سيأتي بيان ذلك في ترجمة أبي حمزة رضي الله عنه ، فشيء يقف في فهمه الإمام أحمد ويعرفه أبو حمزة غاية المنقبة للقوم ، كذلك يكفينا إذعان أبي العباس بن سريج للجنيد حين حضره وقال : لا أدري ما يقول ولكن لكلامه صولة ليست بصولة مبطل ، وكذلك إذعان الإمام أبي عمران للشبلي حين امتحنه في مسائل من الحيض ، وفاده سبع مقالات لم تكن عند أبي عمران ، وحكى الشيخ قطيب الدين بن أيمن رضي الله عنه أن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه كان يحث ولده على الاجتماع بصوفية زمانه ، ويقول : إنهم بلغوا في الإخلاص مقاما لم تبلغه ؛ وقد أشبع القول في مدح القوم ، وطريقهم الإمام القشيري في رسالته والإمام عبد الله بن أسعد اليافعي في روض الرياحين ، وغيرهما من أهل الطريق ، وكتبهم كلها طافحة بذلك ، وقد كان الإمام أبو تراب النخشبي أحد رجال الطريق رضي الله عنه يقول : إذا ألف العبد الإعراض عن الله تعالى صحبته الوقيعة في أولياء الله . قلت : وسمعت شيخي ومولاي أبا يحيى زكريا الأنصاري شيخ الإسلام يقول : إذا لم يكن للفقيه علم بأحوال القوم ، واصطلاحاتهم ، فهو فقيه جاف وكنت أسمعه يقول كثيرا ، الإعتقاد صبغة ، والانتقاد حرمان . انتهى . وكان شيخنا الشيخ محمد المغربي الشاذلي رضي الله عنه يقول : اطلب طريق ساداتك من القوم وإن قلوا ، وإياك وطريق الجاهلين بطريقهم وإن جلوا ، وكفى شرفا بعلم القوم قول موسى عليه السلام للخضر : ' هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا ' الكهف : 66 ، وهذا أعظم دليل على وجوب طلب علم الحقيقة ، كما يجب طلب علم الشريعة وكل عن مقامه يتكلم . انتهى . قلت : وقد رأيت رسالة أرسلها الشيخ محيي الدين بن العربي رضي الله عنه للشيخ فخر الدين الرازي صاحب التفسير ، يبين له فيها نقص درجته في العلم . هذا والشيخ فخر الدين الرازي مذكور في العلماء الذين انتهت إليهم الرياسة في الاطلاع على العلوم من جملتها : اعلم يا أخي وفقنا الله وإياك أن الرجل لا يكمل عندنا في مقام العلم ، حتى يكون علمه عن الله عز وجل بلا واسطة من نقل ، أو شيخ . فإن من كان علمه مستفادا من نقل ، أو شيخ ، فما برح عن الأخذ عن المحدثات ، وذلك معلول عند أهل الله عز وجل ، ومن قطع عمره في معرفة المحدثات وتفاصيلها ، فاته حظه من ربه عز وجل ، لأن العلوم المتعلقة بالمحدثات يفني الرجل عمره فيها ، ولا يبلغ إلى حقيقها ، ولو أنك يا أخي سلكت على يد شيخ من أهل الله عز وجل ، لأوصلك إلى حضرة شهود الحق تعالى ، فتأخذ عنه العلم بالأمور من طريق الإلهام الصحيح ، من غير تعب ولا نصب ، ولا سهر ، كما أخذه الخضر عليه السلام ، فلا علم إلا ما كان عن كشف وشهود ، لا عن نظر ، وفكر ، وظن ، وتخمين . وكان الشيخ الكامل أبو يزيد البسطامي رضي الله عنه يقول لعلماء عصره : أخذتم علمكم من علماء الرسوم ميتا عن ميت ، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت . وينبغي لك يا أخي ألا تطلب من العلوم إلا ما تكمل به ذاتك ، وينتقل معك حيث انتقلت ، وليس ذلك إلا العلم بالله تعالى ، من حيث الوهب والمشاهدة ، فإن علمك بالطب مثلا إنما يحتاج إليه في عالم الأسقام ، والأمراض ، فإذا انتقلت إلى عالم ما فيه سقم ، ولا مرض ، فمن تداوى بذلك العلم . فقد علمت يا أخي أنه لا ينبغي للعاقل أن يأخذ من العلوم إلا ما ينتقل معه إلى البرزخ ، دون ما يفارقه عند انتقاله إلى عالم الآخرة ، وليس المنتقل معه إلا علمان فقط ، العلم بالله عز وجل ، والعلم بمواطن الآخرة . حتى لا ينكر التجليات الواقعة فيها ، ولا يقول للحق إذا تجلى له نعوذ بالله منك كما ورد ، فينبغي لك يا أخي الكشف عن هذين العلمين ، في هذه الدار لتجني ثمرة ذلك في تلك الدار ، ولا تحمل من علوم هذه الدار ، إلا ما تمس الحاجة إليه في طريق سيرك إلى الله عز وجل على مصطلح أهل الله عز وجل ، وليس طريق الكشف عن هذين العلمين ، إلا بالخلوة ، والرياضة ، والمشاهدة ، والجذب الإلهي ، وكنت أريد أن أذكر لك يا أخي الخلوة وشروطها ، وما يتجلى لك فيها على الترتيب شيئا فشيئا ، لكن منعني من ذلك الوقت ، وأعني بالوقت من لا غوص له في أسرار الشريعة ، ممن دأبهم الجدال حتى أنكروا كل ما جهلوا ، وقيدهم التعصب ، وحب الظهور ، والرياسة ، وأكل الدنيا بالدين عن الإذعان لأهل الله تعالى ، والتسليم لهم . انتهى . وقد حكى الشيخ محيي الدين بن العربي في الفتوحات وغيرها : أن طريق الوصول إلى علم القوم الإيمان ، والتقوى قال الله تعالى : ' ولو أن أهل القرى أمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ' الأعراف : 96 أي أطلعناهم على العلوم المتعلقة بالعلويات والسفليات ، وأسرار الجبروت ، وأنوار الملك ، والملكوت وقال تعالى : ' ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ' الطلاق : 3 . والرزق نوعان روحاني وجسماني وقال تعالى : ' واتقوا الله ويعلمكم الله ' البقرة : 282 . أي يعلمكم ما لم تكونوا تعلمونه بالوسائط من العلوم الإلهية ، ولذلك أضاف التعليم إلى اسم الله الذي هو دليل على الذات ، وجامع للأسماء ، والأفعال والصفات ، ثم قال رضي الله عنه ، فعليك يا أخي بالتصديق ، والتسيلم لهذه الطائفة ، ولا تتوهم فيما يفسرون به الكتاب ، والسنة . أن ذلك إحالة للظاهر عن ظاهره ، ولكن لظاهر الآية والحديث مفهوم بحسب الناس ، وتفاوتهم في الفهم ، فيمن المفهوم ما جلب له الآية والحديث ، ودلت عليه في عرف اللسان ، وثم أفهام أخر باطنة تفهم عند الآية ، أو الحديث لمن فتح الله تعالى عليه ، إذ قد ورد في الحديث النبوي أن لكل آية ظاهرا ، وباطنا وحدا ، ومطلعا إلى سبعة أبطن ، وإلى سبعين ، فالظاهر هو المعقول والمقبول من العلوم النافعة ، التي تكون بها الأعمال الصالحة والباطن هو المعارف الإلهية ، والمطلع هو معنى يتحد فيه الظاهر والباطن ، والحد ، فيكون طريقا إلى الشهود الكلي الذاتي ، فافهم يا أخي ولا يصدنك عن تلقي هذه المعاني الغريبة عن فهوم العلوم من هذه الطائفة الشريفة ، قول ذي جدل ومعارضة إن هذا إحالة لكلام الله تعالى ، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه ليس ذلك بإحالة ، وإنما يكون إحالة لو قالوا لا معنى للآية الشريفة ، أو الحديث إلا هذا الذي قلناه ، وهم لم يقولوا ذلك بل يقرون الظواهر على ظواهرها مرادا بها موضوعاتها ، ويفهمون عن الله تعالى في نفوسهم ، ما يفهمهم بفضله ويفتحه على قلوبهم برحمته ومنته . ومعنى الفتح في كلام هؤلاء القوم حيث أطلقوه كشف حجاب النفس ، أو القلب ، أو الروح ، أو السر لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكتاب العزيز ، والأحاديث الشريفة . إذ الوالي قط لا يأتي بشرع جديد ، وإنما يأتي بالفهم الجديد في الكتاب ، والسنة الذي لم يكن يعرف لأحد قبله ، ولذلك يستغربه كل الاستغراب من لا إيمان له بأهل الطريق ، ويقول : هذا لم يقله أحد ، على وجه الذم ، وكان الأولى أخذه منه على وجه الإعتقاد واستفادته من قائله ، ومن كان شأنه الإنكار لا ينتفع بأحد من أولياء عصره ، وكفى بذلك خسرانا مبينا ، وربما يفهم المعترض من اللفظ ضد ما قصده لافظه ، كما وقع لشخص من علماء بغداد أنه خرج يوما إلى الجامع فسمع شخصا من شربة الخمر ينشد : إذا العشرون من شعبان ولت . . . قواصل شرب ليلك بالنهار ولا تشرب بأقداح صغار . . . فإن الوقت ضاق عن الصغار فخرج هائما على وجهه للبراري إلى مكة ، فلم يزل على ذلك الحال إلى أن مات ، فما منع من سماع الأشعار ، والتغزلات ، إلا المحجوب الذي لم يفتح الله تعالى على عين فهم قلبه ، إذ لو فتح الله تعالى على عين فهم قلبه ، لنظر بصفاء الهمة ، وسمع بثاقب الفهم ، ونور المعرفة وأخذ الإشارة من معاني الغيب واتبع أحسن القول بحسب ما سبق إلى سره قال تعالى : ' فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب ' الزمر : 17 ، 18 . قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه ، ولقد ابتلى الله هذه الطائفة الشريفة بالخلق خصوصا أهل الجدال فقل أن تجد منهم أحدا شرح الله صرده للتصديق بولي معين ، بل يقول لك : نعم نعلم أن لله تعالى أولياء وأصفياء موجودين ، ولكن أين هم فلا تذكر لهم أحدا ، إلا أخذ يدفعه ، ويرد خصوصية الله تعالى له ، ويطلق اللسان بالاحتجاج ، على كونه غير ولي لله تعالى وغاب عنه أن الولي لا يعرف صفاته إلا الأولياء ، فمن أين لغير الولي نفي الولاية عن إنسان . ما ذاك إلا محض تعصب ، كما نرى في زماننا هذا من إنكار ابن تيمية علينا ، وعلى إخواننا من العارفين ، فاحذر يا أخي ممن كان هذا وصفه وفر من مجالسته فرارك من السبع الضاري جعلنا الله وإياكم من المصدقين لأوليائه المؤمنين بكراماتهم بمنه وكرمه انتهى . وحكى الموصلي في كتاب مناقب الأبرار عن الفضيل بن عياض رضي الله عنه ، أنه كان يقول : إياك ومجالسة القراء ، فإنهم إن أحبوك وصفوك بما ليس فيك ، فغطوا عليك عيوبك ، وإن أبغضوك جرحوك بما ليس فيك ، وقبله الناس متهم . قال سيدي الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : وقد جرت سنة الله تعالى في أنبيائه وأصفيائه أن يسلط عليهم الخلق في مبدأ أمرهم ، وفي حال نهايتهم ، كلما مالت قلوبهم لغير الله تعالى ، ثم تكون الدولة ، والنصرة لهم في آخر الأمر ، إذا أقبلوا على الله تعالى كل الإقبال . انتهى . قلت : وذلك لأن المريد السالك يتعذر عليه الخلوص والسر إلى حضرة الله عز وجل مع ميله إلى الخلق ، وركونه إلى اعتقادهم فيه ، فإذا آذاه الناس ، وذموه ، ونقصوه ، ورموه بالبهتان ، والزور نفرت نفسه منهم ، ولم يصر عنده ركون إليهم البتة ، وهناك يصفو له الوقت مع ربه ، ويصح له الإقبال عليه لعدم التفاته إلى وراء ، فافهم ثم إذا رجعوا بعد انتهاء سيرهم إلى إرشاد الخلق يرجعون ، وعليهم خلعة الحلم ، والعفو ، والستر ، فتحملوا أذى الخق ، ورضوا عن الله تعالى في جميع ما يصرد عن عباده في حقهم فرفع الله بذلك قدرهم بين عباده ، وكمل بذلك أنوارهم ، وحقق بذلك ميراثهم للرسل في تحمل ما يرد عليهم من أذى الخلق ، وظهر بذلك تفاوت مراتبهم ، فإن الرجل يبتلي على حسب دينه قال الله تعالى : ' وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما ' السجدة : 24 . وقال تعالى : ' ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ' الأنعام : 34 . وذلك لأن الكمل لا يخلو أحدهم عن هذين الشهودين ، إما أن يشهد الحق تعالى بقلبه ، فهو مع الحق لا التفات له إلى عباده ، وإما أن يشهد الخلق فيجدهم عبيد الله تعالى ، فيكرمهم لسيدهم ، وإن كان مصطلما فلا كلام لنا معه لزوال تكليفه حال اصطلامه ، فعلم أنه لا بد لمن اقتفى آثار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الأولياء والعلماء أن يؤذي كما أوذوا ويقال فيه البهتان والزور كما قيل فيهم ليصبر كما صبروا ، ويتخلق بالرحمة على الخلق رضي الله عنهم أجمعين . وسمعت سيدي عليا الخواص رضي الله تعالى عنه يقول : لو أن كمال الدعاة إلى الله تعالى كان موقوفا على إطباق الخلق على تصديقهم لكن الأولى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله ، وقد صدقهم قوم ، وهداهم الله بفضله ، وحرم آخرون ، فأشقاهم الله تعالى بعدله . ولما كان الأولياء ، والعلماء على أقدام الرسل عليهم الصلاة والسلام في مقام التأسي بهم ، انقسم الناس فيهم فريقين ، فريق معتقد مصدق ، وفريق منتقد مكذب ، كما وقع للرسل عليهم الصلاة والسلام ليحقق الله تعالى بذلك ميراثهم ، فلا يصدقهم ، ويعتقد صحة علومهم ، وأسرارهم ، إلا من أراد الله عز وجل أن يلحقه بهم ولو بعد حين ، وأما المكذب لهم المنكر عليهم ، فهو مطرود عن حضرتهم لا يزيده الله تعالى بذلك إلا بعدا ، وإنما كان المعترف للأولياء ، والعلماء بتخصيص الله تعالى لهم ، وعنايته بهم ، واصطفائه لهم قليلا من الناس لغلبة الجهل بطريقهم ، واستيلاء الغفلة ، وكراهة غالب الناس أن يكون لأحد شرف بمنزلة ، أو اختصاص حسدا من عند أنفسهم ، وقد نطق الكتاب العزيز بذلك في قوم نوح عليه الصلاة والسلام فقال : ' ومن أمن وما أمن معه إلا قليل ' هود : 40 وقال تعالى : ' ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ' هود : 17 ، ' ولكن أكثر الناس لا يعلمون ' الأعراف : 187 ، يوسف : 21 . وقال الله تعالى : ' أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعم بل هم أضل سبيلا ' الفرقان : 44 وغير ذلك من الآيات ، وكان الشيخ محيي الدين رضي الله عنه يقول : ومن أين لعامة الناس أن يعلموا أسرار الحق تعالى في خواص عباده من الأولياء ، والعلماء ، وشروق نوره في قلوبهم ، ولذلك لم يجعلهم إلا مستورين عن غالب خلقه لجلالتهم عنده ، ولو كانوا ظاهرين فيما بينهم ، وآذاهم إنسان لكان قد بارز الله تعالى بالمحاربة ، فأهلكه الله فكان سترهم عن الحق رحمة بالخلق ، ومن ظهر من الأولياء للخلق ، إنما يظهر لهم من حيث ظاهر علمه ووجود دلالته ، وأما من حيث سر ولايته فهو باطن لم يزل ، وكان الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه يقول لكل ولي ستر أو أستار نظير السبعين حجابا التي وردت في حق الحق تعالى ، حيث إنه تعالى لم يعرف إلا من ورائها فكذلك الولي ، فمنهم من يكون ستره بالأسباب ، ومنهم من يكون ستره بظهور العزة ، والسطوة ، والقهر على حسب ما يتجلى الحق تعالى لقلبه ، فيقول الناس حاشا أن يكون هذا وليا لله تعالى ، وهو في هذه النفس ، وذلك لأن الحق تعالى إذا تجلى على قلب العبد بصفة القهر كان قهارا ، أو بصفة الانتقام كان منتقما ، أو بصفة الرحمة ، والشفقة كان مشفقا رحيما . وهكذا ثم لا يصحب ذلك الولي الذي ظهر بمظهر العز ، والسطوة ، والانتقام من المريدين ، إلا من محق الله تعالى نفسه ، وهواه ، ولم يزل في كل عصر ، وأوان أولياء ، وعلماء تذل لهم ملوك الزمان ، ويعاملونه بالسمع ، والطاعة ، والإذعان ، ومنهم من يكون ستره بالاشتغال بالعلم بالظاهر ، والخمول على ظاهر النقول حتى لا تكاد تخرجه عن آحاد طلبة العلم القاصرين ، ومنهم من يكون ستره بالمزاحمة على الدنيا ، وتظاهره بحب الرياسة ، والملابس الفاخرة ، وهو على قدم عظيم في الباطن ، ومنهم من يكون ستره كثرة التردد إلى الملوك ، والأمراء ، والأغنياء ، وسؤالهم الدنيا ، وطلبه الوظائف من تدريس ، وخطابة ، وغمامة ، وعمالة ، ونحو ذلك ، فيقوم فيها بالعدل ، ويتصرف في ذلك بالمعروف على الوجه الذي لا يهتدي إلى معرفته غيره من الأمراء والعمال ، وآحاد الفقهاء ، ثم لا يأكل هو من معلومها شيئا ، أو يأكل منه سد الرمق لا غير ، فيقول القاصر في الفهم والإدراك ، لو كان هذا وليا لله عز وجل ما تردد إلى هؤلاء الأمراء ، وللجلس في زاويته ، أو بيته يشتغل بالعلم ، وبعبادة ربه عز وجل ورحم الله تعالى الأولياء الذين كانوا ، ونحو ذلك من ألفاظ الجور ، ولو استبرأ هذا القائل لدينه ، وعرضه لتوقف ، وتبصر في أمر هؤلاء الأولياء ، والعلماء قبل أن ينتقد عليهم فربما كان يتردد إليهم لكشف ضر ، أو خلاص مظلوم من سجن ، أو قضاء حاجة لأحد من عباد الله العاجزين الذين لا يستطيعن توصيل حوائجهم إلى تلك الأمراء فيسألون في ذلك من يعتقد فيه من الأولياء ، والعلماء فيجب عليهم الدخول لتلك المصالح ، ويحرم عليهم التخلف عنهم لا سيما إن رأينا ذلك المتردد من الأولياء ، والعلماء زاهدا فيما في أيديهم متعززا بعز الإيمان وقت مجالستهم ، آمرا لهم بالمعروف ناهيا لهم عن المنكر ، لا يقبل هدية ممن شفع له عندهم ، فإن هذا من المحسنين ، ولا يجوز لأحد الاعتراض عليه بسبب ذلك . وقد سمعت سيدي عليا الخواص رضي الله عنه يقول : إذا علم الفقير من أمراء الجور أنهم يقبلون نصحه لهم ، وشفاعته عندهم ، وجب عليه صحبتهم ، والدخول إليهم ، وصاحب النور يعرف ما يأتي ، وما يذر انتهى . قلت : ومن الأولياء من يكون ستره قبوله من الخلق ما يعطونه له من الهدايا ، والصدقات ، ثم يخلط عليه من ماله ، ويعلم الناس بأن ذلك كله من صدقات الناس الأجانب ، ويمدح الناس الذين أعطوه بالكرم ، ويوهم الناس أنه انتقص من ذلك المال لنفسه ، وعياله من وراء الفقراء أشياء بنحو قوله من يقدر في هذا الزمان أن يأخذ مالا ، ويفرقه على الفقراء ، ولا يحدث نفسه بانتقاص شيء منه ، ولا يسعنا كلنا إلا العفو ، ويكون مأكولا مذموما ، وهذا من أكبر أخلاق الرجال الذين أخلصوا في معاملة الله عز وجل ، فإنه لا يهتدي أحد إلى كماله الذي هو عليه في باطن الحال مع ظهور احتقاره في أعين الناس ، واستهانتهم به ، فإن الرجل إذا قبل من الخلق صغر في أعينهم ضرورة ، كما أن من رد عليهم كبر في أعينهم ، ولعل ذلك الراد إنما رد رياء ، وسمعة واستئلافا لقلوب الناس عليه ليتوجهوا إليه بالتعظيم ، والتبجيل ، ويطلقوا ألسنتهم فيه بالثناء الحسن ، وقد قال الفضيل بن عياض رحمه الله : من طلب الحمد من الناس بتركه الأخذ منهم ، فإنما يعبد نفسه ، وهواه ، وليس من الله في شيء . قلت ومعنى يعبد : يطيع ، وكان يقول أيضا : ينبغي لمن يخاف على نفسه من فتنة الرد أن يأخذ ، ثم يعطيه سرا لمن يستحقه ، ولا يأخذ هو لنفسه منه شيئا ، فإنه بذلك يأمن من الفتنة إن شاء الله تعالى . قال الشيخ محيي الدين رحمه الله تعالى : ومما يفتح باب قلة الإعتقاد في أولياء الله تعالى وقوع زلة ممن تزيا بزيهم ، وانتسب إلى مثل طريقهم ، والوقوف مع ذلك من أكبر القواطع عن الله عز وجل وقد قال تعالى : ( وكان أمر الله قدرا مقدورا ) . وقال : ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) . فمن أين يلزم من إساءة واحد أن يكون جميع أهل حرفته كذلك ؟ ما هذا إلا محض عناد وتعصب بباطل كما قال بعضهم في ذلك : استنار الرجال في كل عصر . . . تحت سوء الظنون قدر جليل ما يضر الهلال في حندس اللي . . . ل سواد السحاب وهو جميل قلت : ومن أشد حجاب عن معرفة أولياء الله عز وجل شهود المماثلة ، والمشاكلة ، وهو حجاب عظيم ، وقد حجب الله به أكثر الأولين ، والآخرين كما قال تعالى حاكيا عن قوم : ( وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ) . يعني لم نر أحدا يوافقه على ما يدعيه ، ويأمرنا به ، ونحو ذلك ولكن إذا أراد الله عز وجل أن يعرف عبدا من عبيده بولي من أوليائه ، ليأخذ عنه الأدب ، ويقتدي به في الأخلاق طوى عنه شهود بشريته ، وأشهده وجه الخصوصية فيه ، فيعتقده بلا شك ، ويحبه أشد المحبة ، وأكثر الناس الذين يصحبون الأولياء لا يشهدون منهم إلا وجهه البشرية ، فلذلك قل نفعهم ، وعاشوا عمرهم كله معهم ، ولم ينتفعوا منهم بشيء ، وقد اقتضت الحكمة الإلهية عدم اتفاق الخلق كلهم على الإعتقاد في واحد منهم ، والإذعان له ، وفي ذلك سر خفي لأنه لو كان الخلق كلهم مصدقين لذلك الولي لفاته أجر الصبر على تكذيب المكذبين له ، ولو كانوا كلهم مكذبين له لفاته الشكر على تصديق المصدقين له ، والمقتفين لآثاره ، فأراد الحق تعالى بحسن اختياره لأوليائه أن يجعل الناس فيهم قسمين ، كما تقدم معتقد مصدق ومنتقد مكذب ليعبدوا الله عز وجل فيمن صدقهم بالشكر ، وفيمن كذبهم بالصبر إذ الإيمان نصفان نصف صبر ، ونصف شكر . وسمعت سيدي عليا الخواص رضي الله عنه يقول : النفس إذا مدحت اتسخت ، وإذا ذمت نظفت ، وكان رضي الله عنه يقول : إياك أن تصغي لقول منكر على أحد من طائفة العلماء ، أو الفقراء فتسقط من عين رعاية الله عز وجل ، وتستوجب المقت من الله عز وجل . وكان الجنيد رضي الله عنه يقول : من قعد مع هؤلاء القوم ، وخالفهم في شيء مما يتحققون به نزع الله تعالى منه نور الإيمان ، قلت : ومراده نور الإيمان بذلك الكلام الذي خالفهم فيه لا نور سائر أنواع الإيمان كالإيمان بالله ، وملائكته ، وكتبه ورسله واليوم الآخر فافهم . ونظير ذلك لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، أي بأن الله يراه حال الزنا وهكذا ، وإنما نهى القوم عن المنازعة لأن علومهم مواجيد لا نقل فيها ، ومن كان يخبر عما يعاين ، ويشاهد لا يجوز للسامع منازعته فيما أتى به ، بل يجب عليه التصديق به إن كان مريدا ، والتسليم له إن كان أجنبيا ، فإن علوم القوم لا تقبل المنازعة لأنها وراثة نبوية ، وفي الحديث : ( عند نبي لا ينبغي التنازع ) ونهى صلى الله عليه وسلم عن الجدال وقال في المجادل : ( فليتبوأ مقعده من النار ) . وكان الشيخ محيي الدين رضي الله عنه يقول : أصل منازعة الناس في المعارف الإلهية ، والإشارات الربانية كونها خارجة عن طور العقول ، ومجيئها بغتة من غير نقل ، ونظر ، ومن غير طريق العقل فتنكرت على الناس من حيث طريقها ، فأنكروها وجهلوها ، ومن أنكر طريقا من الطرق عادى أهلها ضرورة لاعتقاده ، فسادها ، وفساد عقائد أهلها ، وغاب عنه أن الإنكار من الوجود ، والعاقل يجب عليه أن يغير منكرا أنكره ليخرج عن طور الجحود ، فإن الأولياء ، والعلماء العاملين ، قد جلسوا مع الله عز وجل على حقيقة التصديق ، والصدق والتسليم ، والإخلاص ، والوفاء بالعهود ، وعلى مراقبة الأنفاس مع الله عز وجل حتى سلموا قيادهم إليه ، وألقوا نفوسهم سلما بين يديه ، وتركوا الانتصار لنفوسهم في وقت من الأوقات حياء من ربوبية ربهم عز وجل ، واكتفاء بقيوميته عليهم ، فقام لهم بما يقومون لأنفسهم بل أعظم ، وكان تعالى هو المحارب عنهم لمن حاربهم ، والغالب لمن غالبهم . قال سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : ولما علم الله عز وجل ما سيقال في هذه الطائفة على حسب ما سبق به العلم القديم ، بدأ سبحانه وتعالى بنفسه ، فقضى على قوم أعرض عنهم بالشقاء ، فنسبوا إليه زوجة ، وولدا ، وفقرا ، وجعلوه مغلول اليدين ، فإذا ضاق ذرع الولي ، أو الصديق لأجل كلام قيل فيه من كفر ، وزندقة ، وسحر ، وجنون ، وغير ذلك نادته هواتف الحق في سره : الذي قيل فيك هو وصفك الأصلي ، لولا فضلي عليك أما ترى إخواتك من بني آدم كيف وقعوا في جنابي ، ونسبوا إلي ما لا ينبغي لي ، فإن لم ينشرح لما قيل فيه ، بل انقبض نادته هواتف الحق أيضا أمالك بي أسوة ، فقد قيل في ما لا يليق بجلالي ، وقيل في حبيبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي إخوانه من الأنبياء ، والرسل ما لا يليق بمرتبتهم من السحر ، والجنون ، وأنهم يا يريدون بدعائهم إلا الرياسة ، والتفضيل عليهم ، فانظر يا أخي مداواة الحق جل وعلا لمحمد صلى الله عليه وسلم حين ضاق صدره من قول الكفار قال الله تعالى : ' فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ' الحجر : 98 ، 99 فيجب عليك أيها الولي الاقتداء برسولك صلى الله عليه وسلم في ذلك ، إذ هو طب إلهي ، ودواء رباني ، وهو مزيل لضيق الصدر الحاصل من أقوال الأغيار أهل الإنكار ، والاغترار ، وذلك لأن التسبيح هو تنزيه الله تعالى عما لا يليق بكماله بالثناء عليه تعالى بالأمور السلبية ، ونفي النقائص عن الجناب الإلهي كالتشبيه ، والتحديد ، وأما التحميد فهو الثناء على الله تعالى بما يليق بحماله ، وجلاله ، وهما مزيلان لمرض ضيق الصدر الحاصل من قول المنكرين ، والمستهزئين ، وأما السجود فهو كناية عن طهارة العبد من طلب العلو ، والرفعة لأن الساجد قد فني عن صفة العلو حال سجوده ، ولذلك شرع للعبد أن يقول في سجوده : ( سبحان ربي الأعلى وبحمده ) ، وأما العبودية المشار إليها بقوله : ( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) . فالمراد بها إظهار التذلل ، والتباعد عن طلب العز ، وهي إشارة إلى فناء العبد ذاتا ، ووصفا وذلك موجب لخلع القرب ، والاصطفاء ، والعز ، والدنو المشار إليه بقوله ( واسجد واقترب ) . وبحديث : ( لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ) ، والنوافل عند أهل الطريق إشارة إلى فناء العبد في شهود نفسه عند شهود ربه عز وجل ، وأما اليقين فهو من يقن الماء في الحوض إذا استقر ، وذلك إشارة إلى حصول السكون ، والاستقرار ، والاطمئنان بزوال التردد ، والشكو ، والوهم ، والظنون قال الشيخ محيي الدين رضي الله عنه : وهذا السكون ، والاستقرار ، والاطمئنان إذا أضيف إلى العقل ، والنفس يقال له علم اليقين ، وإذا أضيف إلى الروح الروحاني يقال له عين اليقين ، وإذا أضيف إلى القلب الحقيقي يقال له حق اليقين ، وإذا أضيف إلى السر الوجودي يقال له حقيقة حق اليقين ، ولا تجتمع هذه المراتب كلها إلا في الكامل من الرجال انتهى . وكان الجنيد رحمه الله تعالى يقول : كثيرا للشبلي رحمه الله تعالى : لا تفش سر الله تعالى بين المحجوبين ، وكان رضي الله عنه يقول : لا ينبغي للفقير قرأءة كتب التوحيد الخاص ، غلا بين المصدقين لأهل الطريق ، أو المسلمين لهم ، وإلا يخاف حصول المقت لمن كذبهم ، وقد تقدم عن أبي تراب النخشي رضي الله عنه أنه كان يقول في حق المحجوبين من أهل الإنكار : إذا ألف القلب الإعراض عن الله تعالى صحبته الوقيعة في أولياء الله قلت : وذلك لأنه لو كان من المقبلين بقلوبهم على حضرة الله تعالى لشم روائح أهل حضرة ربه ، فتأدب معهم ، ومدحهم ، وأحبهم ، وخدم نعالهم حتى يقربوه إلى حضرتهم ، ويصير مثلهم ، كما هو شأن من يريد التقرب إلى ملوك الدنيا . قلت : ومن هنا أخفي الكاملون من أهل طريق الكلام في مقامات التوحيد الخاص شفقة على عامة المسلمين ، ورفقا بالمجادل من المحجوبين ، وأدبا مع أصحاب ذلك الكلام من أكابر العارفين . وكان الجنيد رضي الله عنه لا يتكلم قط في علم التوحيد ، إلا في قعر بيته بعد أن يغلق أبواب داره ، ويأخذ مفاتيحها تحت وركه ويقول : أتحبون أن يكذب الناس أولياء الله تعالى ، وخاصته ، ويرمونهم بالزندقة ، والكفر ، وكان سبب فعله ذلك تكلمهم فيه كما سيأتي آخر هذه المقدمة ، فكان بعد ذلك يستتر بالفقه إلى أن مات رضي الله عنه ، وكان الشيخ محيي الدين رضي الله عنه يقول : من لم يقم بقلبه التصديق لما يسمعه من كلام هذه الطائفة ، فلا يجالسهم ، فإن مجالستهم من غير تصديق سم قاتل . وكان سيدي أفضل الدين رحمه الله تعالى يقول : كثير من كلام الصوفية لا يتمشى ظاهره إلا على قواعد المعتزلة ، والفلاسفة ، فالعاقل لا يبادر إلى الإنكار بمجرد عز وذلك الكلام إليهم ، بل ينظر ، ويتأمل في أدلتهم التي استندوا إليها فما كل ما قاله الفلاسفة ، والمعتزلة في كتبهم يكون باطلا ، وإنما حذر بعضهم عن مطالعة كتبهم خوفا من حصول شبهة تقع في قلب الناظر ، لا سيما أهل الإنكار والدعاوى . ورأيت في رسالة سيدي الشيخ محمد المغربي الشاذلي رضي الله عنه ما نصه : اعلم أن طريق القوم مبني على شهود الإثبات ، وعلى ما يقرب من طريق المعتزلة في بعض الحالات ، وهي حالة شهود غيبة الصفات في شهود وحدة جمال الذات ، حتى كأن لا صفات ، وهذه الحالة وإن كان غيرها أرفع منها فهي عزيزة المرام شديدة الإيهام موقعة في سوء الظن في السادة الكرام ، لشبهها بمذهب المعتزلة ، ولا شبهة في تلك الحالة فليتنبه السالك لذلك ، وليحذر من الوقيعة في القوم فإنهم من أعظم المهالك ، انتهى . قلت : ومن الأولياء من سد باب الكلام في دقائق كلام القوم حتى مات ، وأحال ذلك على السلوك ، وقال : من سلك طريقهم اطلع على ما اطلعوا عليه ، وذات كما ذاقوا ، واستغنى عن كلام الناس وسياتي في ترجمة عبد الله القرشي رضي الله عنه أن أصحابه طلبوا منه أن يسمعهم شيئا من علم الحقائق فقال لهم : كم أصحابي اليوم قالوا ستمائة رجل ، فقال الشيخ : اختاروا لكم منه مائة ، فاختاروا ، فقال : اختاروا من المائة عشرين ، فاختاروا فقال : اختاروا من العشرين أربعة ، فاختاروا قلت : وكان هؤلاء الأربعة أصحاب كشوفات ، ومعارف فقال الشيخ : لو تكلمت عليكم في علم الحقائق ، والأسرار لكان أول من يفتي بكفري هؤلاء الأربعة اه ؟ . قلت : ولا يجوز أن يعتقد في هؤلاء السادة أنهم زنادقة في الباطن ، لكتمهم ما هو متحققون به في الباطن عن العلماء ، والعوام ، وإنما يجب علينا حملهم على المحامل الحسنة من كوننا جاهلين باصطلاحهم ، فإن من لم يدخل حضرتهم لا يعرف حالهم ، فما أغلقوا أبوابهم عليهم في حالة تقريرهم للعلم ، إلا لكون غور بحر ذلك العلم عميقا على غالب الناس من العماء فضلا عن غيرهم ، كما تقدم عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه : أنه كان إذا أتاه سؤال متعلق بالقوم يرسل إلى أبي حمزة البغدادي رضي الله عنه ويقول ما تقول في هذا يا صوفي ، ولا يسع العارف أن يتكلم بكلام واحد يعم سائر الناس على اختلاف درجاتهم ، لأن ذلك من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم على نزاع في ذلك أيضا فإنه كان يقول : ' أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم ' فافهم ، وتأمل فإن من لا علم له بالطريق إذا سمع الفقير يقول حقيقة التوبة هي التوبة كيف يقول منطوق هذا الكلام ، وفحواه خطأ لأن التوبة من التوبة إصرار . فإذا فسر له الفقير مراده على مصطلحه ، وقال : مرادي عدم تزكية النفس ، وعدم الاعتماد على التوبة دون رحمة الله عز وجل ، لا الإصرار كيف يقول له هذا الكلام مليح الآن ، وقد كان أنكره أولا لأن من شأن القوم أن يشهدوا أعمالهم بغير الرياء ، والدعاوي ، ولا يشهدون لهم إخلاصا ، ومثل ذلك يصح تقرير قول بعضهم حقيقة التقوى هي ترك التقوى ، ونظير ذلك أيضا قول سيدي عمر بن الفارض رضي الله عنه : وقلت لزهدي والتنسك والتقي . . . تخلوا وما بيني وبين الهوى خلوا وكذلك قوله : تمسك بأذيال الهوى واخلع الحيا . . . وخل سبيل الناسكين وإن جلوا لأن من لا إلمام له بمصطلح أهل الطريق ينكر ، مثل ذلك ، ويقول : ترك الزهد ، والعبادات ، والتقوى مذموم بل بذلك يذهب دين العبد كله ، فكيف يجوز اعتقاد صاحب هذا الكلام ، ولو كان له إلمام بالطريق لعلم أن مراد الشيخ عدم الوقوف على الأعمال دون الله عز وجل ، فإن المنقول عن الشيخ رضي الله عنه الزهد ، والعبادات ، والتقوى كما درج عليه السلف الصالح رضي الله عنهم ، وكذلك عن الشيخ محيي الدين بن العربي رضي الله عنه ، وأضرابه ، وما بلغنا قط عن أحد من القوم أنه نهى أحدا عن الصلاة ، والزكاة ، والحج ، والصوم أبدا ، ولا تعرض لمعارضة شيء من الشرائع ، وكيف يترك الولي ما كان سببا لوصوله إلى حضرة ربه ، إنما يحث الناس على الإكثار من أسباب الوصول ، فما بقي وجه الإنكار إلا على مواجيدهم ، وأفهامهم ، وتلك أمور لا تعارض شيئا من صريح السنة ، والأمر في ذلك سهل ، فمن شاء فليصدقهم ، ويقتدي بهم كمقلدي المذاهب ، ومن شاء فليسكت ، ولا ينكر لأنهم مجتهدون في الطريق ، والمجتهد لا يقدح إنكاره على مجتهد آخر . ونقل القزويني في كتابه سراج العقول عن إمام الحرمين أنه كان يقول : حين يسئل عن كلام غلاة الصوفية ، لو قيل لنا فصلوا ما يقتضي التكفير من كلامهم مما لا يقتضيه ، لقلنا هذا طمع في غير مطمع ، فإن كلامهم بعيد المدرك وعر المسلك يغترف من تيار بحر التوحيد ، ومن لم يحط علما بنهايات الحقائق لم يحصل من دلائل التكفير على وثائق كما أنشد بعضهم في هذا المعنى : تركنا الحبار الزاخرات وراءنا . . . فمن أين يدري الناس أين توجهنا وسئل سيدنا ومولانا شيخ الإسلام تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى عن حكم تكفير غلاة المبتدعة ، وأهل الأهواء ، والمتفوهين بالكلام على الذات المقدس فقال رضي الله عنه : اعلم أيها السائل أن كل من خاف من الله عز وجل استعظم القول بالتكفير لمن يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله ، إذ التكفير أمر هائل عظيم الخطر ، لأن من كفر شخصا بعينه ، فكأنه أخبر أن عاقبته في الآخرة الخلود في النار أبد الآبدين ، وأنه في الدنيا مباح الدم ، والمال لا يمكن من نكاح مسلمة ، ولا يجري عليه أحكام المسلمين لا في حياته ، ولا بعد مماته ، والخط في ترك ألف كفر أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم امرئ مسلم ، وفي الحديث : ' لأن يخطئ الإمام في العفو أحب إلي من أن يخطئ في العقوبة ' ثم إن تلك المسائل التي يفتي فيها بتكفير هؤلاء القوم في غاية الدقة ، والغموض لكثرة شببها ، واختلاف قرائنها ، وتفاوت دواعيها ، والاستقصاء في معرفة الخطأ من سائر صنوف وجوهه ، والاطلاع على حقائق التأويل ، وشرائطه في الأمكان ، الألفاظ المحتملة للتأويل ، وغير المحتملة ، وذلك يستدعي معرفة جميع طرق أهل اللسان من سائر قبائل العرب في حقائقها ، ومجازاتها ، واستعارتها ، ومعرفة دقائق التوحيد ، وغوامضه إلى غير ذلك مما هو متعذر جدا على أكابر علماء عصرنا ، فضلا عن غيرهم ، وإذا كان الإنسان يعجز عن تحرير معتقده في عبارة ، فكيف يحرر اعتقاد غيره من عبارته ، فمن بقي الحكم بالتكفير إلا لمن صرح بالكفر ، واختاره دينا ، وجحد الشهادتين ، وخرج عن دين الإسلام جملة ، وهذا نادر وقوعه ، فالأدب الوقوف عن تكفير أهل الأهواء ، والبدع ، والتسليم للقوم في كل شيء قالوه عما يخالف صريح النصوص . كلام السبكي . قلت : وقد أخبرني شيخنا الشيخ أمين الدين إمام جامع الغمري بمصر المحروسة : أن شخصا وقع في عبارة موهمة للتكفير ، فأفتى علماء مصر بتكفيره ، فلما أرادوا قتله قال السلطان جقمق : هل بقي أحد من العلماء لم يحضر فقالوا : نعم الشيخ جلال الدين المحلي شارح المنهاج ، فأرسل وراءه ، فحضر ، فوجد الرجل في الحديد بين السلطان فقال الشيخ : ما لهذا ، فقالوا : كفر فقال : ما مستند من أفتى بتكفيره ، فبادر الشيخ صالح البلقيني ، وقال : قد أفتى والدي شيخ الإسلام الشيخ سراج الدين في مثل ذلك بالتكفير ، فقال الشيخ جلال الدين رضي الله عنه : يا ولدي أتريد أن تقتل رجلا مسلما موحدا يحب الله ورسوله بفتوى أبيك خلوا عنه الحديد ، فجردوه ، وأخذه الشيخ جلال الدين بيده وخرج ، والسلطان ينظر فما تجرأ أحد يتبعه رضي الله تعالى عنه ، وكان الشيخ محيي الدين رضي الله عنه يقول : كثيرا ما يهب على قلوب العارفين نفحات إلهية ، فإن نطقوا بها جهلهم كمل العارفين وردها عليهم أصحاب الأدلة من أهل الظاهر ، وغاب عن هؤلاء أن الله تعالى كما عطى أولياءه الكرامات التي هي فرع المعجزات ، فلا بد أن ينطق ألسنتهم بالعبارات التي تعجز العلماء عن فهمها . اه قلت : ومن شك في هذا القول : فلينظر في كتاب المشاهد للشيخ محيي الدين ؛ أو كتاب الشعائر لسيدي محمد ، أو في كتاب خلع النعلين لابن قسي ، أو كتاب عنقاء مغرب لابن العربي ، فإن أكبر العلماء لا يكاد يفهم منه معنى مقصودا لقائله أصلا ، بل خاص بمن دخل مع ذلك المتكلم حضرة القدس ، فإنه لسان قدسي لا يعرفه إلا الملائكة ، أو من تجرد عن هيكل البشرية ، أو أصحاب الكشف الصحيح . وكان الشيخ عز الدين بن عبد السلام رضي الله عنه يقول : بعد اجتماعه على الشيخ أبي الحسن الشاذلي وتسليمه للقوم : من أعظم الدليل على أن طائفة الصوفية قعدوا على أعظم أساس الدين ما يقع على أيديهم من الكرامات ، والخوارق ، ولا يقع شيء من ذلك قط لفقيه ، إلا إن سلك مسلكهم كما هو مشاهد ، وكان الشيخ عز الدين رضي الله عنه قبل ذلك ينكر على القوم ، ويقول هل لنا طريق غير الكتاب ، والسنة ، فلما ذاق مذاقهم ، وقطع السلسلة الحديد بكراسة الورق صار يمدحهم كل المدح ، ولما اجتمع الأولياء ، والعلماء في وقعة الإفرنج بالمنصورة قريبا من ثغر دمياط جلس الشيخ عز الدين ، والشيخ مكين الدين الأسمر ، والشيخ تقي الدين بن دقيق العيد ، وأضرا بهم ، وقرئت عليهم رسالة القشيري ، وصار كل واحد يتكلم إذ جاء الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه فقالوا له : نريد أن تسمعنا شيئا من معاني هذا الكلام ، فقال : أنتم مشايخ الإسلام ، وكبراء الزمان ، وقد تكلمتم ، فما بقي لكلام مثلي موضع فقالوا له : لا بل تكلم ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، وشرع يتكلم فصاح الشيخ عز الدين من داخل الخيمة ، وخرج ينادي بأعلى صوته هلموا إلى هذا الكلام القريب المعهد من الله تعالى فاسمعوه . قال اليافعي رضي الله عنه في كتابه روض الرياحين ، والعجب كل العجب ممن ينكر كرامات الأولياء ، وقد جاءت في الآيات الكريمات ، والأحاديث الصحيحات ، والآثار المشهورات والحكايات المستفيضات ، حتى بلغت في الكثرة مبلغا يخرج عن الحصر . ثم قال رضي الله عنه والناس في إنكار الكرامات على أقسام : منهم من ينكرها مطلقا ، وهم أهل مذهب معروفون ، وعن التقوى مصروفون قال بعضهم هم المجسمة ، ومنهم من يصدق بكرامات من مضى ، ويكذب بكرامات أهل زمانه ، فهؤلاء كما قال سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه كبني إسرائيل صدقوا بموسى حين لم يروه ، وكذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم حين رأوه ، مع أن محمدا صلى الله عليه وسلم أعظم من موسى ، وإنما ذلك حسدا منهم ، وعدوانا ، وشقاء منهم ، ومنهم من يصدق بأن الله تعالى أولياء من أهل زمانه ، ولكن لا يصدق بأحد معين فهذه محرم من الإمدادات ، لأن من لم يسلم لأحد معين لا ينتفع بأحد أبدا نسأل الله العافية قال : فإن قيل إن هذه الكرامات تشبه السحر فإن سماع الإنسان الهواتف في الهواء ، وسماع النداء في بطنه وطي الأرض له ، وقلب الأعيان ، ونحو ذلك غير معهود في الحسن أنه صحيح ، إنما يظهر ذلك من أهل السيمياء والنارنجات ، فالجواب ما أجاب به المشايخ العارفون ، والعلماء المحققون في الفرق بين الكرامة ، والسحر أن السحر يظهر على أيدي الفساق ، والزنادقة ، والكفار الذين هم على غير شريعة . وأما الأولياء رضي الله عنهم ، فإنما وصولا إلى ذلك بكثرة اجتهادهم ، واتباعهم للسنة حتى بلغوا فيها الدرجة العليا فافترقا ، قال رضي الله تعالى عنه ثم إن كثيرا من المنكرين لو رأوا أحدا من الأولياء ، والصالحين يطير في الهواء ، لقالوا هذا سحر واستخدامات للجن ، والشياطين ، ولا شك أن من حرم التوفيق كذب بالحق عيانا ، وحسا ، فكيف حال هذا في تصديقه بالمغيبات التي أمر الله تعالى بالإيمان بها ، فربما زلت به القدم فخسر الدارين ، لأنه إذا أنكر المحسوسات ، فبالحقيق إنكاره المغيبات ، وقد كان الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول : الإنكار فرع من النفاق . قلت : وذلك لن المنافقين لو لم ينكروا على محمد صلى الله عليه وسلم لآمنوا به ظاهرا ، وباطنا ثم قال اليافعي رضي الله تعالى عنه : فوا عجبا كيف ينسب السحر ، وفعل الشياطين إلى الأولياء المقربين ، والأبرار الصالحين والمتطهري من الصفات المذمومة ، المتحلين بالصفات المحمودة المعرضين عن كل شيء يشغلهم عن ربهم عز وجل . فإياك يا أخي بعد اطلاعك على ما بينته لك في هذه المقدمة من علو شأن أهل الله عز وجل من أهل عصرك ، وغيرهم أن يقوم بك داء الحسد ، ولا تذعن للانقياد لهم ، وتسمع من بعض المنكرين لعيهم ما يقولونه في حقهم ، فيفوتك منهم خير كثير ، كما فاتك الخير في عدم علمك بكلامهم الذي هو كله نصح لك حين وزنته بميزان عقلك الجائر ، فإن الكلام لم يزل في هذه الطائفة من عصر ذي النون المصري وأبي يزيد البسطامي إلى وقتنا هذا ، بل نقل سيدي إبراهيم الدسوقي رضي الله عنه : أنهم تكلموا في جماعة من الصحابة ، ونسبوهم إلى الرياء ، والنفاق منهم الزبير رضي الله عنه كان كثير الخشوع في الصلاة ، وكان بعضهم يقول : إنما هو مراء فبينما الزبير رضي الله عنه ساجدا ، إذ صبوا على وجهه ، ورأسه ماء حار فكشط وجهه ، وهو لا يشعر ، فلما فرغ من صلاته ، وصحا قال : ما هذا فأخبروه فقال رضي الله عنه : غفر الله تعالى لهم ما فعلوا ، ومكث زمانا يتألم من وجهه . قلت : ودليل هذا كله قوله تعالى : ' وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا ' الفرقان : 20 وكل ولي له من تلك الفتنة الحظ الوافر ، وذلك لأن الابتلاء لما كان شرفا ، جمع الله تعالى لخواص هذه الأمة من البلايا ، والمحن جميع ما كان متفرقا في الأمم السالفة لعلو درجتهم عنده ، ونقل الثقات عن أبي يزيد البسطامي رضي الله عنه أنهم نفوه من بلده سبع مرات ، فإنه لما رجع إلى بسطام من سفرته ، وتكلم بعلوم لا عهد لأهل بلده بها من مقامات الأنبياء ، والأولياء أنكر ذلك الحسين بن عيسى البسطامي إمام ناحيته ، والمدرس بها في علم الظاهر ، وأمر أهل بلده أن يخرجوا أبا يزيد من بسطام ، فأخرجوه ، ولم يعد إليها إلا بعد موت حسين المذكور ، ثم بعد ذلك ألفه الناس ، وعظموه ، وتبركوا به ، ثم لم يزل يقول له قائم بعد قائم ، وهو ينفي ثم استقر أمره على تعظيم الناس له ، والتبرك به إلى وقتنا هذا ، وكذلك وقع لذي النون المصري رضي الله عنه أنهم وشوا به إلى بعض الحكام ، وحملوه من مصر إلى بغداد مغلولا مقيدا ، فكم الخليفة ، فأعجبه فقال : إن كان هذا زنديقا ، فما على وجه الأرض مسلم كما يأتي في ترجمته ، وكذلك وقع لسمنون المحب رضي الله عنه محنة عظيمة ، وادعت عليه امرأة كانت تهواه ، وهو يأبى نه يأتيها في الحرام هو وجماعة من الصوفية ، وامتلأت المدينة بذلك ، ثم إن الخليفة أمر بضرب عنق سمنون ، وأصحابه فمنهم من هرب ، ومنهم من توارى سنين حتى كف الله عنهم ذلك ، وكذلك وقع أنهم رموا أبا سعيد الخراز ، وأفتى العلاء بتكفيره بألفاظ وجدوها في كتبه ، منها لو قلت من أين وإلى أين ، لم يكن جوابي غير الله مع ألفاظ أخرى ، وتعصب مرة فقهاء أخميم على ذي النون المصري رضي الله عنه ، ونزلوا في زورق ليمضوا إلى السلطان بمصر ليشهدوا عليه بالكفر ، فأعلموه بذلك فقال : اللهم إن كانوا كاذبين فغرقهم ، فانقلب الزورق ، والناس ينظرون فغرقوا حتى رئيس المركب فقيل له : ما بال الرئيس ؟ فقال قد حمل الفساق ، وأخرجوا سهل بن عبد الله رضي الله عنه من بلده إلى البصرة ، ونسبوه إلى قبائح ، وكفروه ، ولم يزل بالبصرة إلى أن مات بها هذا مع علمه ، ومعرفته ، واجتهاده ، وذلك أنه كان يقول : التوبة فرض على العبد في كل نفس فتعصب عليه الفقهاء في ذلك لا غير . وقتل حسين الحلاج بدعوة عمرو بن عثمان المكي ، وذلك أنه كان عنده جزء فيه علوم الخاصة من القوم فأخذه الحسين فقال عمرو من أخذ هذا الكتاب قطعت يداه ، ورجلاه ، فكان كذلك ، وإنما كان القول بتكفيره تسترا على دعوة عمرو ، كما سياتي عن ابن خلكان ، وشهدوا على الجنيد رضي الله عنه ، حين كان يقرر في علم التوحيد ، ثم إنه تستر بالفقه ، واختفى مع علمه ، وجلالته ، وأخرجوا محمد بن الفضيل البلخي رضي الله عنه بسبب المذهب كما سيأتي في ترجمته ، وذلك أن مذهبه كان مذهب أصحاب الحديث فقالوا له : لا يجوز لك أن تسكن في بلدنا فقال : لا أخرج حتى تجعلوا في عنقي حبلا ، وتمروا بي على أسواق المدينة ، وتقولا هذا مبتدع نريد أن نخرجه ، ففعلوا به كذلك ، وأخرجوه ، فالتفت إليهم ، وقال : نزع الله تعالى من قلوبكم معرفته ، فلم يخرج بعد دعائه قط من بلخ صوفي مع كونها كانت أكثر بلاد الله تعالى صوفية ، وعقدوا للشيخ عبد الله بن أبي حمزة رضي الله عنه ، مجلسا في الرد عليه حين قال : أنا أجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم يقظة ، فلزم بيته فلم يخرج إلا للجمعة حتى مات . وأخرجوا الحكيم الترمذي رضي الله عنه إلى بلخ حين صنف كتاب علل الشريعة ، وكتاب ختم الأولياء ، وأنكروا عليه بسبب هذين الكتابين وقالوا : فضلت الأولياء على الأنبياء ، وأغلظوا عليه ، فجمع كتبه كلها ، وألقاها في البحر ، فابتلعتها سمكة سنين ، ثم لفظتها ، وانتفع الناس بها ، وأنكر زهاد الراز وصوفيتها على يوسف بن الحسين ، وتكلموا فيه ، ورموه بالعظائم إلى أن مات ، لكنه لم يبال بهم لتمكنه رضي الله عنه ، وأخرجوا أبا الحسن البوشنجي ، وأنكروا عليه ، وطردوه إلى نيسابور ، فلم يزل بها إلى أن مات ، وأخرجوا أبا عثمان المغربي من مكة مع مجاهداته ، وتمام علمه ، وحاله وطاف به العلوية على جمل في أسواق مكة بعد ضربه على رأسه ، ومنكبيه ، فأقام ببغداد ، ولم يزل بها إلى أن مات ، وشهدوا على السبكي بالكفر مرارا مع تمام علمه ، وكثرة مجاهداته ، واتبعاه للسنة إلى حين وفاته ، حتى إن من كان يحبه شهد عليه بالجنون طريقا لخلاصه ، فأدخلوه البيمارستان ، وقال فيه أبو الحسن الخوارزمي أحد مشايخ بغداد : إن لم يكن لله جهنم فإنه يخلق جهنما بسبب السبكي ، أي يخلقها الله للذين آذوه ، وأنكروا عليه ، وكفروه بالباطل هذا معنى قول أبي الحسن بدليل قوله عقب ذلك وإن لم يدخل السبكي الجنة فمن يدخلها ، وقال أهل المغرب على الإمام أبي بكر النابلسي مع فضله ، وعلمه ، وزهده ، واستقامة طريقه ، وتصدره للأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، فأخرجوه من المغرب مقيدا إلى مصر ، وشهدوا عليه عند السلطان ، ولم يرجع عن قوله ، فأخذ وسلخ ، وهو حي ، وقيل إنه سلخ وهو منكوس ، وهو يقرأ القرآن فكاد أن يفتتن به الناس ، فرفع الأمر إلى السلطان ، فقال اقتلوه ، ثم اسلخوه ، وأخرجوا الشيخ أبا مدين المغربي رضي الله عنه من بجاية ، كما سيأتي في ترجمته ، وأخرجوا أبا القاسم النصراباذي رضي الله عنه من البصرة ، وأنكروا عليه كلامه ، وأحواله ، فلم يزل بالحرام إلى أن مات مع صلاحه ، وزهده ، وورعه ، واتباعه للسنة . وأخرجوا أبا عبد الله الشجري صاحب أبي حفص الحداد قام عليه أبو عثمان الجبري ، وهجره ، وأمر الناس بهجره حين رفع الناس قدره على أبي عثمان ، وأقبلوا عليه ، وشهدوا على أبي الحسن الحصري رضي الله عنه بالكفر ، وحكوا عنه ألفاظا كتبت في درج ، وحمل إلى أبي الحسن قاضي القضاة ، فاستحضره القاضي وناظره في ذلك ، ومنعه من القعود في الجامع حتى مات ، وتكلموا في ابن سمنون ، وغيره بالكلام الفاحش حتى مات ، فلم يحضروا له جنازة مع علمه ، وجلالته ، وتكلموا في الإمام أبي القاسم بن جميل بالعظائم إلى أن مات ، ولم يتزلزل عما هو عليه من الاشتغال بالعلم ، والحديث ، وصيام الدهر ، وقيام الليل ، وزهده في الدنيا حتى لبس الحصير رضي الله عنه . وكان أبو بكر التلمساني يقول : كان أبو دانيال يحط على الجنيد ، وعلى رويم ، وسمنون ، وابن عطاء ، ومشايخ العراق ، وكان إذا سمع أحدا يذكرهم بخير تغيظ وتغير ، وأما الحلاج فإنه كان من القوم ، وهو الصحيح فلا يخفي محنته ، وإن كان من غير القوم فلا كلام لنا فيه ، وقد اختلف الناس فيه اختلافا كثيرا قال ابن خلكان في تاريخه : وإنما سمي بالحلاج لأنه جلس على دكا حلاج ، وبها مخزن قطن غير محلوج فذهب صاحب الدكان في حاجته ، فرجع فوجد القطن كله محلوجا فسمي حلاجا ، وكان رضي الله عنه يأتي بفاكهة الصيف في الشتاء ، وعكسه ، ويمد يده في يديه في الهواء فيردها مملوءة دراهم يسميها دراهم القدرة . قال ابن خلكان : وأما سبب قتله فلم يكن عن أمر موجب للقتل ، إنما عمل عليه الوزير حين أحضروه إلى مجلس الحكم مرات ، ولم يظهر منه ما يخالف الشريعة ، فقال لجماعة : هل له مصنفات ؟ فقالوا : نعم ، فذكروا أنهم وجدوا له كتابا فيه أن الإنسان إذا عجز عن الحج ، فليعمد إلى غرفة من بيته ، فيطهرها ، ويطيبها ، ويطوف بها ، ويكون كمن حج البيت ، والله أعلم إن كان هذا القول عنه صحيحا فطلبه القاضي فقال هذا الكتاب تصنيفك ، فقال : نعم ، فقال له : أخذته عمن ؟ فقال : عن الحسن البصري ، ولا يعلم الحلاج ما دسوه عليه ، فقال له القاضي : كذبت يا مراق الدم ليس في كتب الحسن البصري شيء من ذلك ، فلما قال القاضي يا مراق الدم مسك الوزير هذه الكلمة على القاضي قال : هذا فرع عن حكمك بكفره ، وقال للقاضي : اكتب خطك بالتكفير ، فامتنع القاضي فألزمه الوزير بذلك ، فكتب ، فقامت العامة على الوزير ، فخاف الوزير على نفسه ، فكلم الخليفة بذلك ، فأمر بالحلاج ، وضرب ألف سوط ، فلم يتأوه ، وقطعت يداه ، ورجلاه ، وصلب ، ثم أحرق بالنار ، ووقع الاختلاف فيه بين الناس أهوى الذي صلب ، أم رفع كما وقع في عيسى عليه الصلاة والسلام . وأفتوا بتكفير الإمام الغزالي رضي الله عنه ، وأحرقوا كتابه الإحياء ، ثم نصره الله تعالى عليهم ، وكتبوه بماء الذهب ، وكان من جملة من أنكر على الغزالي ، وأفتى بتحريق كتابه القاضي عياض ، وابن رشد ، فلما بلغ الغزالي ذلك دعا على القاضي ، فمات فجأة في الحمام يوم الدعاء عليه ، وقيل إن المهدي هو الذي أمر بقتله بعد أن ادعى عليه أهل بلده ، بأنه يهودي لأنه كان لا يخرج يوم السبت ، لكونه كان يصنف في كتاب الشفاء يوم السبت فقتله المهدي لأجل دعوة الغزالي ، وأخرجوا أبا الحسن الشاذلي رضي الله عنه من بلاد المغرب بجماعته ، ثم كاتبوا نائب الإسكندرية بأنه سيقدم عليكم مغربي زنديق ، وقد أخرجناه من بلادنا ، فالحذر من الاجتماع عليه فجاء الشيخ إلى الإسكندرية ، فوجد أهلها كلهم يسبونه ، ثم وشوا به إلى السلطان ، ولم يزل في الأذى حتى حج بالناس في سنين كان الحج فيها قد قطع من كثرة القطع في طريقه ، فاعتقده الناس . ورموا الشيخ أحمد بن الرفاعي بالزندقة ، والإلحاد ، وتحليل المحرمات كما سيأتي في ترجمته . وقتلوا الإمام أبا القاسم بن قسي ، وابن برجان ، والخولي ، والمرجاني مع كونهم أئمة يقتدي بهم ، وقال الحساد عليهم ، فشهدوا عليهم بالكفر ، فلم يقتلوا ، فعملوا عليهم الحيلة ، وقالوا للسلطان إن البلاد قد خطبت لابن برجان في نحو مائة بلدة ، وثلاثين ، فأرسل له من قتله ، وقتل جماعته . وأما الشيخ محيي الدين بن العربي وسيدي عمر بن الفارض رضي الله عنهما ، فلم يزل المنكرون ينكرون عليهما إلى وقتنا هذا ، وعقدوا للشيخ عز الدين بن عبد السلام مجلسا في كلمة قالها في العقائد ، وحرضوا السلطان عليه ، ثم حصل له اللطف ، وحسدوا شيخ الإسلام تقي الدين ابن بنت الأعز ، وزوروا عليه كلاما للسلطان ، فرسم بشنقه ، ثم تداركه اللطف ، وذلك أن الملك الظاهر بيبرس قد كان انقاد له انقيادا كليا حتى كان لا يفعل شيئا إلا بمشاورته ، فمشى الحساد بينهما بالكلام ، حتى زينوا للسلطان في مسألة يقول فيها الحنفية إنها صواب ، وما عليه الشافعية خطأ ، فعارضه الشيخ تقي الدين فانتصر بعض الحساد للسلطان ، ونصروه على الشيخ ، وكان لا يحكم في مصر في ذلك الزمان ، إلا بقول الشافعي رضي الله عنه فقط فولى السلطان بيبرس القضاة الأربعة من تلك الوقعة ، فلم يزالوا إلى عصرنا هذا . وأنكروا على الشيخ عبد الحق بن سبعين ، وأخرجوه من بلاد المغرب ، وأرسلوا نجابا بدرج مكتوب إمامه يحذرون أهل مصر منه ، وكتبوا فيه أنه يقول : أنا هو وهو أنا . ومحن الأئمة كأبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأصرابهم مشهورة في كتب المناقب ، فانظر يا أخي ما جرى لهؤلاء الأئمة من المتقدمين ، والمتأخرين ، وخذ لنفسك أسوة فيما تقع فيه من المحن والله أعلم . ولنشرع الآن في مقصود الكتاب ، فنقول وبالله التوفيق . فأولهم أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه واسمه عبد الله بن أبي قحافة عثمان ابن عامر بن عمرو بن كعب بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي التيمي يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب ، ومناقبه أكثر من أن تحصى ، وكان رضي الله عنه يقول أكيس الكيس التقوى ، وأحمق الحمق الفجور ، وأصدق الصدق الأمانة ، وكذب الكذب الخيانة ، وكان رضي الله عنه إذا أكل طعاما فيه شبهة ، ثم علم به استقاءه من بطنه ، ويقول : اللهم لا تؤاخذني بما شربته العروق وخالط الأمعاء ، وكان رضي الله عنه يقول : إن هذا الأمر لا يصلح آخره إلا بما صلح به أوله ، ولا يحتمله إلا أفضلكم مقدرة ، وأملككم لنفسه ، وكان رضي الله عنه يقول : لمن يعظه : يا أخي إن أنت حفظت وصيتي ، فلا يكن غائب أحب إليك من الموت وهو آتيك ، وكان يقول : إن العبد إذا داخله العجب بشيء من زينة الدنيا مقته الله تعالى حتى يفارق تلك الزينة ، وكان يقول : يا معاشر المسلمين استحيوا من الله ، فوالذي نفسي بيده إني لأظل حين أذهب إلى الغائط في الفضاء متقنعا استحياء من ربي عز وجل ، وكان يقول : ليتني كنت شجرة تعضد ثم تؤكل ، وكان يأخذ بطرف لسانه ، ويقول : هذا الذي أوردني الموارد ، وكان إذا سقط خطام ناقته ينيخها ويأخذه فيقال له : هلا أمرتنا فيقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني ألا أسأل الناس شيئا ، وكان رضي الله عنه يقول للصحابة رضي الله عنهم : قد وليت أمركم ، ولست بأخيركم فأعينوني فإذا رأيتموني استقمت ، فاتبعوني ، وإذا رأيتموني زغت فقوموني ، وغلب عليه الحزن ، والخوف حتى كان يشم من فمه رائحة الكبد المشوي ، توفي رضي الله عنه بين المغرب والعشاء ثاني عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة وهو ابن ثلاث وستين سنة رضي الله تعالى عنه . ومنهم الإمام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ورحمه ويجتمع نسبه مع النبي صلى الله عليه وسلم في كعب ، واتفقوا على أنه أول من سمي أمير المؤمنين ، وأجمعوا على كثرة علمه ، ووفور عقله ، وفهمه ، وزهده ، وتواضعه ، ورفقه بالمسلمين ، وإنصافه ووقوفه مع الحق ، وتعظيمه آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشدة متابعته له ، ومحاسنه رضي الله تعالى عنه أكثر من أن تحصى ، وكان رضي الله عنه لا يجمع في سماطه بين إدامين ، وقدمت إليه حفصة رضي الله عنها مرقا باردا وصبت عليه زيتا فقال : إدامان في إناء واحد لا آكله حتى ألقى الله عز وجل ، وكان في قميصه رضي الله عنه أربع رقاع بين كتفيه ، وكان إزاره مرقوعا بقطعة من جراب ، وعدوا مرة في قميصه أربع عشرة رقعة ، إحداها من أدم أحمر ، وكان يقول : اللهم ارزقني شهادة في سبيلك ، واجعل موتي في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم ، واستأذن رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في العمرة ، فأذن له وقال : لا تنسنا يا أخي من دعائك ، وفي رواية أشركنا في دعائك ، وكان رضي الله عنه إذا وقع بالمسلمين أمر يكاد يهلك اهتماما بأمرهم . وكان يأتي المجزرة ومعه الدرة فكل من رآه يشتري لحما يومين متتابعين يضربه بالدرة ، ويقول له : هلا طويت بطنك لجارك وابن عمك ، وأبطأ يوما عن الخروج لصلاة الجمعة ، ثم خرج ، فاعتذر إلى الناس ، وقال : إنما حبسني عنكم ثوبي هذا كان يغسل وليس عندي غيره ، وكان يقول : لولا خوف الحساب لأمرت بكبش يشوي لنا في التنور ، وكان رضي الله عنه يشتهي الشهوة ، وثمنها درهم فيؤخرها سنة كاملة ، وكان يقول : من خاف من الله تعالى لم يشف غيظه ، ومن يتق الله لم يضيع ما يريد ، وصعد يوما إلى المنبر فقال : الحمد صلى الله عليه وسلم الذي صيرني ليس فوقي أحد ، فقيل له : ما حملك على ما تقول ؟ فقال إظهارا للشكر ثم نزل . وحج رضي الله عنه من المدينة إلى مكة ، فلم يضرب له فسطاط ، ولا خباء حتى رجع ، وكان إذا نزل يلقي له كساء ، أو نطع على شجرة فيستظل بذلك ، وكان رضي الله عنه أبيض يعلوه حمرة ، وإنما صار في لونه سمرة في عام الرمادة ، حين أكثر من أكل الزيت توسعة للناس أيام الغلاء ، فترك لهم اللحم والسمن ، واللبن ، وكان قد حلف أن لا يأكل إداما غير الزيت حتى يوسع الله على المسلمين ، ومكث الغلاء تسعة أشهر ، وكانت الأرض قد صارت سوداء مثل الرماد ، وكان يخرج يطوف على البيوت ويقول : من كان محتاجا فليأتنا ، وكان رضي الله عنه يقول : اللهم لا تجعل هلاك أمة محمد صلى الله عليه وسلم على يدي ، وكان في وجهه خطان أسودان من كثرة البكاء ، وكان يمر بالآية في ورده فتخنقه العبرة ، فيبكي حتى يسقط ، ثم يلزم بيته حتى يعاد يحسبونه مريضا ، وكان يسمع حنينه من وراء ثلاث صفوف ، وكان رضي الله عنه يقول : ليتني كنت كبشا أهلي سمنوني ما بدا لهم ثم ذبحوني ، فأكلوني وأخرجوني عذرة ، ولم أكن بشرا . ولما مرض كانت رأسه في حجر ولده عبد الله فقال له : يا ولدي ضع رأسي على الأرض فقال له عبد الله : وما عليك إن كانت على فخذي ، أم على الأرض ؟ فقال : ضعها على الأرض فوضع عبد الله رأسه على الأرض فقال : ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي ثم قال رضي الله عنه : وددت أن أخرج من الدنيا ، كما دخلت لا أجر لي ، ولا وزر علي ثم قال : اللهم كبرت سني ، وضعفت قوتي ، وانتشرت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ، ولا مفرط ، فلما مات رآه العباس رضي الله عنهما فقال له : كيف وجدت الأمير يا أمير المؤمنين ؟ قال : كاد عرشي يهوي بي لولا أني وجدت ربا رحيما ، وكان إذا مر على مزبلة يقف عندها ، ويقول : هذه دنياكم التي تحرصون عليها ، وكان يقول : أضروا بالفانية خير لكم من أن تضروا بالباقية يعني الآخرة . وكان يأخذ التبنة من الأرض ويقول : يا ليتني كنت هذه التبنة ليتني لم أخلق ، ليت أمي لم تلدني ، ليتني لم أك شيئا ليتني كنت نسيا منسيا ، وكان رضي الله عنه يحب الصلاة في وسط الليل ، وكان إذا حصل بالناس هم يخلع ثيابه ، ويلبس ثوبا قصيرا لا يكاد يبلغ ركبتيه ، ثم يرفع صوته بالبكاء ، والاستغفار ، وعيناه تذرفان حتى يغشى عليه ، وكان يحمل جراب الدقيق على ظهره للأرامل والأيتام ، فقال له بعضهم : دعني أحمل عنك فقال : ومن يحمل عني يوم القيامة ذنوبي ، وأحواله كثيرة مشهورة رضي الله تعالى عنه . ومنهم الإمام عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه ورحمه ويجتمع نسبه مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف وسمي ذا النورين لجمعه بين بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم : رقية ثم أم كلثوم . وحاصروه تسعة وأربعين يوما ، ثم قتلوه صبرا ، والمصحف مفتوح بين يديه ، وهو يقرأ ، وكان رضي الله عنه شديد الحياء حتى إنه ليكون في البيت والباب مغلق عليه ، فما يضع عنه الثوب عند الغسل ليفيض عليه ، يمنعه الحياء أن يقيم صلبه ، وكان يصوم النهار ، ويقوم الليل إلا هجعة من أوله ، وكان يختم القرآن في كل ركعة كثيرا ، وكان يخطب الناس وعليه إزار عدني غليظ ثمنه أربعة دراهم أو خمسة ، وكان يطعم الناس طعام الإمارة ، ويدخل بيته ، فيأكل الخل والزيت ، وكان يردف خلفه غلامه أيام خلافته ، ولا يستعيب ذلك . وكان إذا مر على المقبرة بكى حتى بل لحيته رضي الله عنه ، ومناقبه كثيرة مشهورة رضي الله تعالى عنه . ومنهم الإمام علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ونسبه مشهور . وكان برضي الله عنه يقول الدنيا جيفة فمن أراد منها شيئا فليصبر على مخالطة الكلاب . قلت : والمراد بالدنيا ما زاد على الحاجة الشرعية بخلاف ما دعت الضرورة إليه ، وذلك أن فضول الدنيا شهوات ، وأهل الشهوات كثير ، ولذلك ما رؤي زاهد قط في محل مزاحمة على الدنيا ، كما هو مشاهد ، وإنما سمي طالب الفضول كلبا للدنيا لتعلق قلبه بها ، لأن الكلب مأخوذ من التكلب ، وكل من عسر عليه فراق شهوته فهو كلبها ، فافهم فما توسع من توسع في مأكل ، أو ملبس إلا لقلة ورعه ، والشارع لم يأمرنا بالتوسع في الشبهات ، والله أعلم . قال أبو عبيدة رحمه الله : ارتحل الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه تسع كلمات ، قطع الأطماع عن اللحاق بواحدة منهن ، ثلاث في المناجاة ، وثلاث في العلم ، وثلاث في الأدب . فأما التي في المناجاة فهي قوله : كفاني عزا أن تكون لي ربا ، وكفى بي فخرا أن أكون لك عبدا ، أنت لي كما أحب فوفقني لما تحب ، وأما التي في العلم فهي قوله المرء مخبوء تحت لسانه ، فتكلموا تعرفوا ، ما ضاع امرؤ عرف قدره ، وأما التي في الأدب فهي قوله : أنعم على من شئت تكن أميره ، واستغن عمن شئت تكن نظيره ، واحتج إلى من شئت تكن أسيره . وكان رضي الله عنه يقول : والله لا يحبني إلا مؤمن ، ولا يبغضني إلا منافق . وكان آخر كلامه قبل موته لا إله إلا الله محمد رسول الله . وكان رضي الله عنه يقول : موت الإنسان بعد أن كبر وعرف ربه خير من موته طفلا ، ولو دخل الجنة بغير حساب . قلت : لأن أقل ما هناك أن العبد يجالس ربه في الجنة بقدر ما عمل من العبادات والله أعلم ، وكان رضي الله عنه يقول : أعلم الناس بالله أشدهم حبا ، وتعظيما لأهل لا إله إلا الله . وقيل له مرة : ألا نحرسك يا أمير المؤمنين فقال : حارس كل امرئ أجله ، وكان رضي الله عنه يقول : كونوا لقبول أعمالكم أشد اهتماما منكم بالعمل ، فإنه لن يقل عمل مع التقوى ، وكيف يقل عمل متقبل ، وكان رضي الله عنه يقول : إذا كان يوم القيامة أتت الدنيا بأحسن زينتها ، ثم قالت : يا رب هبني لبعض أوليائك فيقول الله عز وجل لها : اذهبي لا إلى شيء فلانت أهون من أن أهبك لبعض أوليائي ، فتطوى كما يطوى الثوب الخلق فتلقى في النار ، وكان رضي الله عنه يقول : لا يرجون العبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه ، وكان يقول : لا يستحي جاهل أن يسأل عما لم يعلم ، ولا ، يستحي عالم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول الله أعلم ، وكان رضي الله عنه يقول : إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى ، وطول الأمل فأما اتباع الهوى فيضل عن الحق ، وأما طول الأمل فينسي الآخرة ، وكان يقول : الفقيه كل الفقيه من لا يقنط الناس من رحمة الله ، ولا يؤمنهم من عذاب الله ، ولا يرخص في معاصي الله ، ولا يدع القرآن رغبة منه إلى غيره ، وكان يقول : لا خير في عبادة لا علم فيها ، ولا خير في علم لا فهم فيه ، ولا خير في قراءة لا تحبر فيها ، وكان رضي الله عنه يقول : كونوا ينابيع العلم ، ومصابيح الليل خلقان الثياب جدد القلوب تعرفون به في ملكوت السماء ، وتذكرون به في الأرض ، وكان رضي الله عنه يقول : لو حننتم حنين الواله الثكلان ، وجأرتم جؤار ميتلي الرهبان . ثم خرجتم من أموالكم ، وأولادكم في طلب القرب من الله تعالى ، وابتغاء رضوانه ، وارتفاع درجة عنده ، أو غفران سيئة كان ذلك قليلا فيما تطلبونه ، وكان رضي الله عنه يقول : القلوب أوعية وخيرها أوعاها ، ثم يقول : هاه هاه إن هاهنا - وأشار بيده إلى صدره - علما لو أصبت له حملة وأتى رضي الله عنه بفالوذج فوضع قدامه فقال : إنك طيب الريح حسن اللون طيب الطعم لكني أكره أن أعود نفسي ما لم تعتد ، ولم يأكله ، ولم يأكل رضي الله عنه طعاما منذ قتل عثمان ، ونهبت الدار إلا مختوما حذرا من الشبهة ، وكان قوته وكسوته شيئا يجيئه من المدينة ، ولم يأكل من طعام العراق إلا قليلا ، وكان رضي الله عنه يرقع قميصه ويقول : لمن لبس المرقع يخشع القلب ، ويقتدي به المؤمن ، وكان يقطم من كم قميصه ما زاد على رؤوس الأصابع . وكذلك كان عمر رضي الله عنه ، وكان رضي الله عنه يبرد في الشتاء حتى ترعد أعضاؤه عن البرد فقيل له : ألا تأخذ لك كساء من بيت المال ، فإنه واسع فقال : لا أنقص المسلمين من بيت مالهم شيئا لي . وكان رضي الله عنه يقول : التقوى هي ترك الإصرار على المعصية ، وترك الاغترار بالطاعة ، وكان رضي الله عنه يستوحش من الدنيا ، وزهرتها ، ويستأنس بالليل وظلمته ، وكان يحاسب نفسه على كل شيء ، وكان يعجبه من اللباس ما قصر ، ومن الطعام ما خشن ، وكان رضي الله عنه يعظم أهل الدين والمساكين ، وكان يصلي ليله ولا يهجع إلا يسيرا ، ويقبض على لحيته ، ويتململ تململ السليم ، ويبكي بكاء الحزين حتى يصبح ، وكان رضي الله عنه يخاطب الدنيا ويقول : يا دنيا غري غيري قد طلقتك ثلاثا عمرك قصير ، ومجلسك حقير ، وخطرك كبير آه آه من قلة الزاد ، وبعد السفر ووحشة الطريق . وكان رضي الله عنه يقول أشد الأعمال ثلاثة إعطاء الحق من نفسك ، وذكرك الله تعالى على كل حال ، ومواساة الأخ في المال ، وكان يقول : ما نلت من دنياك فلا تكثرن به فرحا وما فاتك منها ، فلا تيأس عليه حزنا وليكن همك فيما بعد الموت . وكان رضي الله عنه يقول : لم يرض الحق تعالى من أهل القرآن الادهان في دينه ، والسكوت على معاصيه ، وكان يقول إن مع كل إنسانا ملكين يحفظانه مما لم يقدر ، فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه وإن الأجل جنة حصينة ، وكان ينشد ويقول : حقيق بالتواضع من يموت . . . ويكفي المرء من دنياه قوت فما للمرء يصبح ذا هموم . . . وحرص ليس ندركه النعوت فيا هذا سترحل عن قريب . . . إلى قوم كلامهم السكوت قال القضاعي رضي الله عنه : وكان لعلي رضي الله عنه من الأولاد الذكور أربعة عشر ولدا ولم يكن النسل إلا لخمسة منهم فقط : الحسن والحسين ، ومحمد بن الحنفية ، وعمر والعباس رضي الله عنهم أجمعين ، ومناقبه رضي الله عنه كثيرة مشهورة . ومنهم الإمام طلحة بن عبيد الله رضي الله تعالى عنه ويجتمع نسبه مع النبي صلى الله عليه وسلم في مرة ، وكان رضي الله عنه من الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، ووقاه بيده ونفسه ، فشلت يده وجرح يومئذ أربعا وعشرين جراحة ، وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم طلحة الخير ، وكانت نفقته كل يوما ألفا وتصدق يوما بمائة ألف ، وهو محتاج إلى ثوب يذهب به إلى المسجد فلم يشتر له قميصا ، وكان رضي الله عنه يقول : إن رجلا يبيت عنده الدنانير في بيته لا يدري ما يطرقه من الله تعالى لغرير بالله ، فكان إذا بات عنده الدنانير لا ينام تلك الليلة حتى يصبح ويفرقها ، قتل رضي الله عنه يوم الجمل سنة ست وثلاثين ، وقبره بالبصرة ظاهر يزار رضي الله عنه . ومنهم الإمام الزبير بن العوام رضي الله عنه ويجتمع نسبه مع النبي صلى الله عليه وسلم في قصي ، وقاتل يوم بدر قتالا شديدا حتى كان الرجل يدخل يده في الجراح من ظهره وعاتقه . ولما حضرته الوفاة كان عليه دين كثير ، وليس له مال فقالوا له : ما نفعل في دينك ؟ فقال لأولاده : قولوا يا مولى الزبير اقض دينه فقضاه الله تعالى عنه جميعه ، وكان قدره ألف ألف ومائتي ألف ، وكان للزبير عم فكان يعلق الزبير في حصير ، ويدخن عليه بالنار ، ويقول له : ارجع إلى الكفر فيقول الزبير : لا أكفر أبدا ، وكان له ألف مملوك يؤدون الخراج إليه كل يوم ، فكان يتصدق به في مجلسه ، ولا يقوم منه بدرهم رضي الله عنه . ومنهم الإمام سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ويجتمع نسبه مع النبي صلى الله عليه وسلم في الأب الخامس . ومرض رضي الله عنه فقال : يا رب إن لي بنين صغارا ، فأخر عني الموت حتى يبلغوا ، فأخر عنه عشرين سنة ، وكان بينه وبين خالد كلام ، فذهب رجل يقع في خالد عنده فقال : مه إن ما بيننا لم يبلغ ديننا . ولما وقعت فتنة عثمان رضي الله عنه اعتزل الناس ، فلم يخرج من بيته ، وقد رمى يوم أحد ألف سهم ، وأوصى أن يكفن في جبته التي كان قد لقي المشركين فيها يوم بدر فكفنوه فيها رضي الله عنه . ومنهم الإمام سعيد بن زيد رضي الله تعالى عنه ورحمه ويجتمع نسبه مع النبي صلى الله عليه وسلم في كعب بن لؤي ، وكان مجاب الدعوة وقد ادعت عليه أروى بنت أنس عند مروان أنه أخذ لها شيئا من أرضها ، فقال سعيد : اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها ، واقتلها في أرضها ، فما ماتت حتى ذهب بصرها ، وبينما هي تمشي في أرضها إذ وقعت في حفرة فماتت . توفي بالعقيق ، وحمل إلى المدينة ، ودفن بها سنة خمس وخمسين رضي الله عنه . ومنهم الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه ورحمه ويجتمع نسبه مع النبي صلى الله عليه وسلم في كلاب بن مرة . كان رضي الله عنه يتصدق بالسبعمائة راحلة ، وأكثر للفقراء والمساكين بأحمالها ، وأقتابها ، وأحلاسها ، ولم يزل خائفا منذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ' عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا ' ولما بلغه ذلك جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ' أقرض الله قرضا حسنا يطلق لك قدميك ، ثم نزل جبريل ، فقال مر ابن عوف فليضف الضيف ، وليطعم المسكين ، وليعط السائل ، فإذا فعل ذلك كان كفارة لما هو فيه ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عممه بيده ، وسدلها بين كتفيه ، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه ، وقال : ' إنه عبد صالح ' وكان رضي الله عنه من شدة خوفه ، وتواضعه لا يعرف من بين عبيده ، توفي سنة اثنتين وثلاثين ، ودفن بالبقيع رضي الله تعالى عنه . ومنهم الإمام أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله تعالى عنه ويجتمع نسبه مع النبي صلى الله عليه وسلم في الأب السابع ، ودفن بغور بيسان سنة ثمان عشرة عند قرية تسمى عماد ، وكان رضي الله عنه يقول : ألا رب مبيض لثيابه مدنس لدينه ألا رب مكرم لنفسه ، وهو لها مهين ، فبادروا رحمكم الله السيئات القديمات بالحسنات الحديثات ، فلو أن أحدكم عمل من السيئات ما بينه وبين السماء ، ثم عمل حسنة لعلت فوق سيئاته حتى تغيرهن ، وكان رضي الله عنه يقول مثل المؤمن مثل العصفور يتقلب كل يوم كذا وكذا مرة رضي الله عنه . ومنهم الإمام عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه ورحمه وكان صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ووساده وسواكه ونعليه وطهوره في السفر وكان يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم في هديه وسمته وكان رضي الله عنه من أجود الناس ثوبا ومن أطيب الناس ريحا تعظيما لنعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حمله ، وكان هو الذي يلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم نعليه ويمشي أمامه بالعصا حتى يدخل أمامه الحجرة فإذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه نزع نعليه فأدخلهما في ذراعيه وأعطاه العصا . وكان رضي الله عنه دقيق الساقين فكان بعض الصحابة يضحك من دقة ساقيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ' والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من جبل أحد ' ، وكان صلى الله عليه وسلم يستمع لقراءته في الليل ويقول : ' من سره أن يقرأ القرآن رطبا كما أنزل فليقرأه على قراءة عبد الله بن مسعود ' وكان رضي الله عنه قليل الصوم ، كثير الصلاة ، فقيل له في ذلك فقال إني إذا صمت ضعفت عن الصلاة والصلاة عندي أهم ، وسمع رجلا يقول : اللهم إني أحب أن أكون من المقربين ولا أحب أن أكون من أصحاب اليمين ، فقال ابن مسعود رضي الله عنه : هاهنا رجل يود أنه إذا مات لا يبعث يعني نفسه ، وكان رضي الله عنه يبكي ، ويلاقي دموعه بكفيه ، ثم يقول بدموعه هكذا يرش بها الأرض ، وخرج مرة معه ناس يشيعونه فقال لهم : ألكم حاجة فقالوا لا فقال : ارجعوا فإنه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع ، وكان يقول لو تعلمون مني ما أعلمه من نفسي لحثيتم على رأس التراب ، وكان يقول حبذا المكروهان الموت والفقر ، وكان رضي الله عنه يقول ما أصبحت قط على حالة فتمنيت أن أكون على سواها ، وكان يقول إن الرجل ليدخل على السلطان ومعه دينه فيخرج ولا دين معه لأنه تعرض أن يعصي الله تعالى إما بفعله وإما بسكوته وإما باعتقاده ، وكان يقول لو أن رجلا قام بين الركن والمقام يعبد الله تعالى سبعين سنة وهو يحب ظالما لبعثه الله تعالى يوم القيامة مع من يحب . ولما مرض رضي الله عنه عاده عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال له : ما تشتكي قال ذنوبي قال فما تشتهي : قال : رحمة ربي قال له ألا آمر لك بطبيب قال : الطبيب أمرضني قال ألا آمر لك بعطاء قال لا حاجة لي فيه ، قال يكون لبناتك قال أتخشى على بناتي الفقر وقد أمرتهن أن يقرأن كل ليلة سورة الواقعة إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ' من قرأ الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا ' . وكان من دعائه : اللهم إني أسألك إيمانا لا يرتد ونعيما لا ينفد ، وقرة عين لا تنقطع ، ومرافقة نبيك صلى الله عليه وسلم في أعلى جنان الخلد ، وكان رضي الله عنه يقول : ليس العلم بكثرة الرواية إنما العلم بالخشية ، وكان رضي الله عنه يقول ويل لمن لا يعلم ولا شاء الله لعلمه وويل لمن يعلم ثم لا يعمل سبع مرات ، وكان يقول ذهب صفو الدنيا وبقي كدرها ، والموت اليوم تحفة لكل مسلم ، وكان يقول : لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يحل بذروته ولا يحل بذروته حتى يكون الفقر أحب إليه من الغنى ، والذل أحب إليه من العز ، وحتى يكون حامده وذامه عنده سواء ، وفسر هذه الجملة أصحابه فقالوا حتى يكون الفقر في الحلال أحب إليه من الغنى في الحرام ، والتواضع في طاعة الله أحب إليه من الشرف في معصية الله وحتى يكون حامده وذامه عنده في الحق سواء لا يميل إلى من يحمده أكثر ممن يذمه ، وكان يقول : لأن بعض أحدكم على جمرة حتى تطفأ خير له من أن يقول لأمر قضاه الله ليت هذا لم يكن وكان يقول : لأصحابه أنتم أطول صلاة وأكثر اجتهادا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم كانوا أزهد منكم في الدنيا وأرغب منكم في الآخرة ، وكان يقول إن الرجل لا يكون غائبا عن المنكر في بيوت الولاة ، ويكون عليه مثل وزر من حضر وذلك لأنه يبلغه فيرضى به ويسكت عليه ، والله أعلم . ؟ ومنهم الإمام خباب بن الأرت رضي الله تعالى عنه وكان يعذب بالنار ليرجع عن دين الإسلام فلم يرجع ، وكان رضي الله عنه يبكي ويقول إن إخواننا مضوا ولم يأخذوا من أجرهم شيئا ولم تنقصهم الدنيا ، وإنا بقينا بعدهم وأعطينا من المال ما لم نجد له موضعا إلا التراب ، ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به . وقال عمر رضي الله عنه يا خباب ماذا لقيت من المشركين . فقال : أوقدوا لي نارا فما أطفأها إلا ودك ظهري ، رضي الله عنه . توفي بالكوفة وصلى عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه . ومنهم أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه كان من القراء وقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب إلى آخرها بأمر الله عز وجل له في ذلك ، وكان يقول عليكم بالسبيل ، والسنة ، فإنه ليس من عبد على سبيل ، وسنة وذكر الرحمن ففاضت عيناه من خشية الله تعالى فتمسه النار ، وإن اقتصادا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة ، وكان يقول : ما من عبد ترك شيئا لله إلا أبدله الله عز وجل ما هو خير منه من حيث لا يحتسب . ومنهم سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه كان عطاؤه خمسة آلاف ، وكان أميرا على زهاء ثلاثين ألفا من المسلمين ، وكان يخطب على الناس في عباءة يفرش بعضها ويلبس بعضها ، فإذا خرج عطاؤه أمضاه ، وكان يكل من شغل يديه ويستظل بالفيء حيثما دار ولم يكن له بيت ، وكان يعجن عن الخادم حين يرسلها في حاجة ، ويقول : لا نجمع عليها عملين ، وكان يعمل الخوص ويقول أشتري خوصا بدرهم فأعمله فأبيعه بثلاثة دراهم فأعيد درهما فيه وأنفق درهما على عيالي وأتصدق بدرهم ، وكان لا يأكل من صدقات الناس ، وكان الناس يسخرونه في حمل أمتعتهم لرثاثة حاله ، فربما عرفوه فيريدون أن يحملوا عنه فيقول لا حتى أوصلكم إلى المنزل وهو إذ ذاك أمير على المدائن ، وكان رضي الله عنه يقول : إنما مثل المؤمن في الدنيا كمثل مريض معه طبيبه الذي يعلم داءه ودواءه ، فإذا اشتهى ما يضره منعه ، وقال : إن أكلته هلكت ، وكذلك المؤمن يشتهي أشياء كثيرة فيمنعه الله عز وجل منها حتى يموت فيدخل الجنة ، وكان رضي الله عنه يقول عجبا لمؤمل الدنيا والموت يطلبه وغافل ليس بمغفول عنه ، وضاحك ولا يدري أربه راض عنه أم ساخط ، وكان رضي الله عنه يقول : عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدا فقال : ' ليكن بلغة أحدكم مثل زاد الراكب ' . عاش رضي الله عنه مائتين وخمسين سنة ، وتوفي في خلافة عثمان رضي الله عنه . ومنهم تميم الداري رضي الله تعالى عنه كان كثير التهجد قام ليلة حتى أصبح بآية واحدة من القرآن يركع ، ويسجد ويبكي وهي قوله تعالى : ' أم حسب الذين يعملون السيئات ' الآية وكان له هيئة ولباس وحسن ، وكان أول من قص على الناس بإذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وكان له حلة اشتراها بألف درهم فكان يلبسها في الليلة التي يرجي أنها ليلة القدر ، والله أعلم . ومنهم أبو الدرداء عويمر بن زيد رضي الله تعالى عنه كان يقول : والله الذي لا إله إلا هو ما أمن أحد على إيمانه أن يسلب إلا سلب ، وكان يقول إني لآمركم بالأمر لا أفعله ولكني أرجو به الأجر من قبلكم ، وكان رضي الله عنه يقول : تفكر ساعة خير من قيام أربعين ليلة ، وكان يقول مثقال ذرة من برمع تقوى ويقين أفضل وأعظم وأرجح من أمثال الجبال من عبادة المقربين ، وكان يقول : إن من فقه الرجل رفقه في معيشته ، وكان يقول معاتبة الأخ خير من فقده . وكان يقول إن ناقدت الناس ناقدوك وإن تركتهم لم يتركوك ، وإن هربت منهم أدركوك ، فهبوا أعراضكم ليوم فقركم ، وكان يقول لو تعلمون ما أنتم راءون بعد الموت ما أكلتم طعاما وما شربتم ماء عن شهوة ووددت أني شجرة تعضد ، ثم تؤكل وكان يقول : أدركت الناس ورقا لا شوك فيه فأصبحوا شوكا لا ورق فيه ، وكان رضي الله عنه يقول : إن الذي ألسنتهم رطبة من ذكر الله عز وجل يدخل أحدهم الجنة وهو يضحك . قلت : والمراد بالرطبة عدم الغفلة فإن القلب إذا غفل يبس اللسان وخرج عن كونه رطبا ، وكان يقول : لا تبغض من أخيك المسلم إذا عصى إلا عمله فإذا تركه فهو أخوك ، وكان رضي الله عنه يقول نعم صومعة الرجل المسلم بيته يكف لسانه وفرجه وبصره . وقالت أم الدرداء : له إن احتجت بعدك أفآكل الصدقة . قال لا ، اعملي وكلي فإن ضعفت عن العمل فالتقطي السنبل ولا تأكلي الصدقة وخطبها معاوية فأبت وقالت : لا أغير على أبي الدرداء ، وكان أبو الدرداء رضي الله عنه لم يزل يدفع الدنيا بالراحتين ويقول : إليك عني ، وكان يقول لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت نفسه في جانب الله أشد المقت ، وكان يقول ما في المؤمن بضعة أحب إلى الله من لسانه ، فليحفظه لئلا يدخله النار ، وكان رضي الله عنه يقول : إنا لنضحك في وجوه قوم ، وإن قلوبنا لتلعنهم ، وكان يقول إذا تغير أخوك واعوج فلا تتركه لأجل ذلك فإن الأخ يعوج مرة ويستقيم أخرى ، وكان هذا مذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، والنخعي وجماعة لا يهجرون عند الذنب ، ويقولون لا تحدثوا بزلة العالم فإنه يزل الزلة ، ثم يتركها وكانت زوجته أم الدرداء تقول : طلبت العبادة في كل شيء ، فما وجدت شيئا أشفى لصدري ولا أفضل من مجالس الذكر ، فكانوا يحضرون عندها فيذكرون فتذكر معهم ، وأرسلت إلى نوف البكالي وهو يعظ الناس تقول له اتق الله ولتكن موعظتك لنفسك ، والله أعلم . ومنهم عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما كان من عباد الصحابة وزهادهم لم يضع لبنة على لبنة ، ولا غرس شجرة منذ مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان رضي الله عنه يقول : يا بن آدم صاحب الدنيا ببدنك وفارقها بقلبك وهمتك ، وكان رضي الله عنه يقول لا يكون الرجل من أهل العلم حتى لا يحسد من فوقه ولا يحقر من تحته ولا يبتغي بالعلم ثمنا والله أعلم . ومنهم أبو ذر رضي الله تعالى عنه كان يظل نهاره أجمع يتفكر فيما هو صائر إليه ، وكان يقول : لو أن صاحب المنزل يدعنا فيه لملأناه أمتعة ، ولكنه يريد نقلتنا منه ، وكان يرى تحريم إدخال ما زاد على نفقة اليوم ، وكان الرجل يدخل عليه ، فيقلب بصره في بيته فلا يجد فيه شيئا من أمتعة الدنيا رضي الله عنه . ومنهم حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يقول : أحب يوم أكون فيه حين يأتيني أهل بيتي فيقولون ما عندنا شيء نأكله لا قليل ولا كثير . وبكى يوما في صلاته ثم التفت فرأى وراءه رجلا فقال لا تعلمن بهذا أحدا ، وكان رضي الله عنه يقول سيأتي على الناس زمان ، يقال للرجل فيه ما أظرفه ما أعقله ! وما في قلبه مثقال ذرة من إيمان . وكان يقول ليس خيركم الذين يتركون الدنيا للآخرة ولكن خيركم الذين يتناولون من كل منهما . ومنهم أبو هريرة رضي الله تعالى عنه كانت له هرة صغيرة فكني بها ، وكان يقول لولا آية من كتاب الله عز وجل ما حدثتكم بشيء أبدا ' إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى ' ، وكان يخدم الناس قبل صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطنه ، وكان لا يسأل الناس شيئا ، وكان رضي الله عنه يسبح كل يوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة ، ويقول أسبح بقدر ذنبي ، ورفع يوما على جاريته سوطا ثم قال : لولا خوف القصاص لأوجعتك ، ولكن سأبيعك لمن يوفيني ثمنك ، اذهبي فأنت حرة لوجه الله تعالى ، وكان هو وامرأته وجاريته يقسمون الليل أثلاثا يصلي هذا ثم يوقظ هذا ويصلي هذا ثم يوقظ هذا . وكان يقول ما وجع أحب إلى من الحمى لأنها تعطي كل مفصل قسطه من الأجر بسبب عموم الجسد والوجع . وكان يقول المرض لا يدخله رياء ولا سمعة بل هو أجر محض . وقد قسم الشيخ عبد القادر الجيلي رضي الله عنه على ثلاثة أقسام عقوبة وكفارة ورفع درجة ، فالعقوبة ما صاحبه السخط والكفارة ما صاحبه الرضا ، والصبر والدرجة ما صاحبه الرضا ، وانشراح الصدر ، وكان يحمل حزمة الحطب على رأسه وهو يومئذ خليفة لمروان ويقول أوسعوا الطريق لأميركم ، ولما حضرته الوفاة بكى فقيل له في ذلك فقال : أبكي على بعد سفري وقلة زادي وأني أصبحت على مهبط جنة أو نار لا أدري أيهما يأخذ بي . توفي في المدينة في خلافة معاوية وله ثمان وسبعون سنة رضي الله عنه . ومنهم عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما كان يقول يا صاحب الذنب لا تأمن شر عاقبته فإن ضحكك وأنت لا تدري ما الله صانع بك أعظم من الذنب وفرحك بالذنب إذا ظفرت به أعظم من الذنب وحزنك على الذنب إذا فاتك أعظم من الذنب وعدم اضطراب قلبك من نظر الله تعالى إليك وأنت على الذنب أعظم من الذنب . وكان مجرى الدموع في وجهه كأنه الشراك البالي ، وكان رضي الله عنه يقول : لو بغى جبل على جبل لدك الباغي ، وكان يقول يأتي على الناس زمان يعرج فيه بعقول الناس حتى لا تجد فيه أحدا ذا عقل ، وكان يجلس يوما للفقه ، ويوما للمغازي ، ويوما للشعر ، ويوما لأيام العرب . قلت : ومعنى الشعر أن يذكره استشهادا للغة العرب ، وكان يقول لا يقبل الله صلاة امرئ في جوفه حرام ، وكان يقول عيادة المريض سنة ، فما زاد فهو نافلة ، والله أعلم . ومنهم عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنه ورحمه كان من عباد الصحابة وكان إذا قام في الصلاة كأنه عمود من الخشوع ، وكان يسجد ويطيل السجود حتى تنزل العصافير على ظهره لا تحسبه إلا جدار حائط ، وكان يحيي الدهر كله ليلة قائما حتى يصبح ، وليلة يحييها راكعا ، حتى يصبح وليلة يحييها ساجدا ، حتى يصبح وكان يسمى حمامة المسجد . قتل سنة ثلاث وسبعين ، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة ، وصلب على باب الكعبة وكان أطلس لا لحية له ، وقتله الحجاج حين بويع له بالخلافة وأطاعه أهل الحجاز هو واليمن ، والعراق وخراسان وأقام في الخلافة تسع سنين ثم حاصره الحجاج بمكة . ومنهم الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ولد في النصف من رمضان سنة ثلاث من الهجرة ، وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أذنه وسماه الحسن ، وكان حليما كريما ورعا دعاه ورعه وحلمه إلى أن ترك الدنيا ، والخلافة لله عز وجل ، وكان من المبادرين إلى نصرة عثمان رضي الله عنه . وولي الخلافة بعد قتل أبيه وبايعه أكثر من أربعين ألفا ، كانوا بايعوا أباه ، وبقي نحو سبعة أشهر خليفة بالحجاز واليمن والعراق وخراسان وغير ذلك ، ثم سار إليه معاوية من الشام وسار إلى معاوية فلما تقاربا علم أنه لن تغلب إحدى الطائفتين حتى يقتل أكثر الأخرى ، فأرسل إلى معاوية يبذل له تسليم الأمر على أن تكون الخلافة له من بعده ، وعلى أن لا يطالب أحدا من أهل المدينة والحجاز والعراق بشيء مما كان أيام أبيه وغير ذلك ، من القواعد ، فأجابه معاوية إلى ما طلب فاصطلحا على ذلك وظهرت المعجزة النبوية في قوله صلى الله عليه وسلم : ' إن ابني هذا سيد يصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ' وكان ذلك إحدى وأربعين وكان أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم . قال القضاعي ولم يمت الحسن حتى قتل عبد الرحمن بن ملجم قاتل الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وسمع رضي الله عنه رجلا يسأل الله عز وجل أن يرزقه عشرة آلاف درهم ، فانصرف الحسن وأرسل بها إليه ، وكان يقول : إني لأستحيي من ربي عز وجل ، أن ألقاه ولم أمش إلى بيته ، فمشى عشرين مرة إلى مكة من المدينة على رجليه ، وكانت الجنائب تقاد معه ، وخرج من ماله لله تعالى مرتين ، وقاسم الله تعالى ثلاث مرات حتى إنه كان ليعطي نعلا ويمسك نعلا ، وكان رضي الله عنه يجيز الواحد بمائة ألف درهم وكان إذا اشترى من أحد حائطا ثم افتقر البائع يرد عليه الحائط ويردفه بالثمن معه ، وما قال قط لسائل لا ، وكان لا يعطي لأحد عطية إلا شفعها بمثلها ، وكان يقول لبنيه وبني أخيه تعلموا العلم فإن لم تستطيعوا حفظه فاكتبوه وضعوه في بيوتكم ، ولما شرب السم تقطع كبده فقال : إني قد سقيت السم مرارا فلم أسق مثل هذه المرة ، وقال له الحسين رضي الله عنه يا أخي من تتهم ؟ قال لم ؟ قال لنقتله قال إن يكن الذي أظنه فالله أشد بأسا وأشد تنكيلا ، وإن لم يكن فما أحب أن يقتل بي بريء ، فلما نزل به الموت قال : أخرجوا فراشي إلى صحن الدار ، فأخرج فقال اللهم إني أحتسب نفسي عندك فإني لم أصب بمثلها ثم قبض سنة خمسين ودفن بالبقيع رضي الله عنه . ومنهم الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما ولد في شعبان سنة أربع من الهجرة وكان له من الأولاد خمسة : علي الأكبر وعلي الأصغر وله العقب فإن الأشراف الآن منه وجعفر وفاطمة ، وسكينة المدفونة بالمراغة بقرب السيدة نفيسة . وحج رضي الله عنه خمسا وعشرين حجة ماشيا ، وجنائبه تقاد بين يديه ، وكان رضي الله عنه يقول : اعلموا أن حوائج الناس إليكم من نعم الله عز وجل عليكم فلا تملوا النعم فتعود نقما ، وكان يقول من جاد ساد ومن بخل ذل ، ومن تعجل لأخيه خيرا وجده إذا قدم عليه غدا . وقتل رضي الله عنه شهيدا يوم الجمعة يوم عاشوراء في المحرم سنة إحدى وستين وهو ابن ست وخمسين سنة . وقال أهل السير إن الله عز وجل قتل بسبب يحيى بن زكريا خمسة وتسعين ألفا وذلك دية كل نبي . ويروى أن الله تعالى أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : ' إني قتلت بيحيى بن زكريا خمسة وتسعين ألفا ولأقتلن بالحسين ابن بنتك قدر ذلك مرتين ' . وروي أنه لما قتل الحسين رضي الله عنه احتزوا رأسه وقعدوا في أول مرحلة يشربون ، فخرج عليهم قلم من حديد من حائط فكتب عليه سطرا : أترجو أمة قتلت حسينا . . . شفاعة جده يوم الحساب وأنشدت أخته زينب المدفونة بقناطر السباع من مصر المحروسة برفع صوت ورأسها خارج من الخباء : ماذا تقولون إن قال النبي لكم . . . ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي . . . منهم أساري ومنهم ضمخوا بدم ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم . . . أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي وحملت رأسه إلى مصر ودفنت بالمشهد المشهور بها ، ومشى الناس أمامها حفاة من مدينة غزة إلى مصر تعظيما لها رضي الله عنه . ومنهم رجال من سادات التابعين أولهم أويس القرني رضي الله تعالى عنه كان من أكابر الزهاد رث البيت قليل المتاع وكان أشهل ذا صهوبة بعيد ما بين المنكبين معتدل القامة ، آدم شديد الأدمة ضاربا بذقنه إلى صدره ، راميا ببصره إلى موضع سجوده واضعا يمينه على شماله ، وكان له طمران من الثياب وكان يتزر بإزار من صوف خامل الذكر لا يؤبه له ، وكان إذا أمسى يقول اللهم إني أعتذر إليك اليوم من كل كبد جائع فإنه ليس في بيتي من الطعام إلا ما في بطني ، وكان رضي الله عنه يقول إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يدع للمؤمن من صديق فكلما أمرناهم بالمعروف شتموا أعراضنا ووجدوا على ذلك أعوانا من الفاسقين حتى والله لقد رموني بالعظائم . قال بشر الحافي رضي الله عنه وبلغ من ورع أويس رضي الله عنه أنه جلس في قوصرة من العرى فهذا هو الزهد ، وكان رضي الله عنه يقول : لا ينال الناس هذا الأمر حتى يكون الرجل كأنه قتل الناس أجمعين ، وقال له رجل أوصني فقال فر إلى ربك قال فمن أين المعاشر ؟ فقال إن القلوب يخالطها الشك أتفر إلى الله لدينك وتتهمه في رزقك ، وكان رضي الله عنه مشغولا بخدمة والدته فلذلك لم يجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد روى أنه اجتمع به مرات وحضر معه وقعة أحد وقال : والله ما كسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم حتى كسرت رباعيتي ، ولا شج وجهه حتى شج وجهي ولا وطئ ظهره حتى وطئ ظهري هكذا رأيت هذا الكلام في بعض المؤلفات والله أعلم بالحال ، وكان قوته مما يلتقط من النوى . وكانوا لا يرونه إلا كل سنة أو سنتين مرة لأنه لما نسبوه إلى الجنون بنى له خصا على باب داره ، فكانوا لا يرونه يخرج منه إلا في النادر ، وقال له رجل مرة أوصني فقال : وصيتي إليك كتاب الله تعالى ، وسنة المرسلين وصالحوا المؤمنين وعليك بذكر الموت ولا يفارق قلبك ذكره طرفة عين ، وافصح الأمة جميعا ، وإياك أن تفارق الجماعة ، فتفارق دينك وأنت لا تعلم فتدخل النار ، وقال : له رجل ادع لي فقال حفظك الله ما دمت حيا ، ورضاك من الدنيا باليسير وجعلك لما أعطاه لك من الشاكرين . وطلب شخص أن يجالسه فقال : يا أخي لا أراك بعد اليوم فإني أكره الشهرة والوحدة أحب إلى إني كثير الغم ما دمت مع الناس في هذه الدنيا ، فلا تسألني ولا تطلبني بعد فراقك فإني لا أنساك يا أخي ، وإن لم أرك وترني ، وكان رضي الله عنه يتصدق إذا أمسى بكل ما في بيته ، وبلغ من عريه أنه جلس في قوصرة ، وكان يلتقط الكسر من المزابل ، فيغسلها ويأكل بعضها ويتصدق ببعضها ، وقال له هرم بن حيان أوصني فقال توسد الموت إذا نمت وأجعله نصب عينك إذا قمت ، وكان يقول الدعاء بظهر الغيب أفضل من الزيارة واللقاء لأنهما قد يعرض فيهما التزين والرياء ، ولما دفنوه في قبره رجعوا فلم يجدوا لقبره عينا ولا أثرا رضي الله عنه . ومنهم عامر بن عبد الله بن قيس رضي الله تعالى عنه ورحمه كان رضي الله عنه يقول لو أن الدنيا كانت لي بحذافيرها ثم أمرني الله تعالى بإخراجها كلها لأخرجتها بطيب نفس ، وكان قد فرض على نفسه كل يوم ألف ركعة وفي رواية ثمانمائة ركعة ، فلا ينصرف منها إلا وقد انتفخت قدماه وساقاه ثم يقول لنفسه إنما خلقت للعبادة والله لأعملن بك عملا حتى لا يأخذ الفراش منك نصيبا ، وكان يقول لا أبالي حين أحببت الله عز وجل على أي حال أمسيت وأصبحت ، وكان رضي الله عنه يقول منذ عرفت الله تعالى لم أخف سواه ، وكان إذا تشوش من إنسان ودعا عليه يقول اللهم أكثر ماله وأصح جسمه وأطل عمره ، وكان رضي الله عنه يقول كم من شيء كنت أحسنه أود الآن أني لا أحسنه وما يغني في ما أحسن من الخير إذا لم أعمل به ، وكان إذا سافر إن شاء صب من الركوة ماء للوضوء وإن شاء صب منها لبنا للشرب ، وكان إذا دخل عليه شيء من الدراهم ينفق منها على المساكين ما شاء ولا ينقص منها شيء ، وكان إذا أعطى السائل الرغيف يقول : إني لأستحي أن يكون في ميزاني أقل من رغيف ، وقيل له مرة من هو خير منك فقال : من كان صمته تفكرا وكلامه ذكرا ومشيه تدبرا فهذا خير مني ، وكان يقول : ذكر الله شفاء وذكر غيره داء ، وكان يقول : من جهل العبد أن يخاف على الناس من ذنوبهم ، ويأمن هو على ذنوب نفسه ، وكان رضي الله عنه يقول : ما غيركم اليوم بخير ولكنه خير من أشر منه . وكان يطعم المجانين فيقول له الناس إنهم لا يدرون الأكل فيقول إن لم يكونوا يدرون فإن الله تعالى يدري ، وكان يقول في قوله تعالى : ' ومن يتق الله يجعل له مخرجا ' ' الطلاق : 2 ' أي من كل شيء ضاق على الناس ، وكان يقول إذا مت فلا تعلموا بي أحدا وسلوني إلى ربي سلا رضي الله عنه . ومنهم مسروق بن عبد الرحيم رضي الله تعالى عنه سرق وهو صغير ثم وجد فسمي مسروقا ، وكان رضي الله عليه يقول بحسب المؤمن من العلم أن يخشى الله عز وجل ، وكان يقول : إذا بلغ أحدكم أربعين سنة فليأخذ من الله حذره ، وكان رضي الله عنه يصلي حتى تورمت قدماه ، وكان يرخي الستر بينه وبين أهله ثم يقبل على صلاته ويخليهم ودنياهم ، وكان يقضي بين الناس ولا يأخذ على القضاء أجرا ، وكان رضي الله عنه يقول ما من شيء اليوم للمؤمن خير له من الحذر رضي الله تعالى عنه . ومنهم علقمة بن قيس رضي الله تعالى عنه ورحمه قيل له ألا تجلس للناس تعلمهم القرآن . فقال أكره أن يوطأ عقبي ويقال هذا علقمة ، وقيل له ألا تدخل على السلطان فتشفع فقال لا أصيب من دنياهم شيئا إلا أصابوا من ديني مثله ، وكان رضي الله عنه يقول امشوا بنا نزداد إيمانا أي تفقها ، وكان يتزوج بنات الفقراء يريد بذلك التواضع ، ولم يخلف بعد موته إلا رداء وبردا رثا ومصحفا رضي الله تعالى عنه . ومنهم الأسود بن يزيد النخعي رضي الله تعالى عنه كان يجهد نفسه في الصوم والعبادة حتى اخضر جسمه واصفر ، وكان رضي الله عنه يقول إن الأمر جد إذا لاموه على تعذيب نفسه في العبادة وذهبت إحدى عينيه من البكاء ، توفي بالكوفة سنة خمس وسبعين ، والله أعلم . ومنهم الربيع بن خيثم رضي الله تعالى عنه كان يقول رضي الله عنه : كن وصي نفسك يا أخي وإلا هلكت ، وأصابه الفالج فقيل له لو تداويت فقال قد عرفت أن الدواء حق ، ولكن عن قريب لا يبقى المداوي ولا المداوى ، وكان عمله سرا لا يطلع عليه إلا أهل بيته ، ودخل عليه رجل وهو يقرأ في المصحف فغطاه بكمه ، وكان يقول كل ما لا يبتغي به وجه الله تعالى يضمحل ، وكان إذا وجد كفلة من الناس يخرج إلى المقابر ويقول : يا أهل المقابر كنا وكنتم ثم يحيي الليل كله فإذا أصبح كأنه نشر من قبره ، وكان رضي الله عنه يأتي مسجد الجماعة يهادي بين رجلين ، فيقول له الناس : إن الله قد رخص لك فيقول فماذا أصنع في منادي ربي وهو يقول حي على الصلاة ، وكان يقول أي لحيمة أي دمية كيف تصنعان إذا سيرت الجبال ودكت الأرض دكا وكان يكنس البيت بنفسه ولا يمكن أهله من ذلك ويقول إني أحب أن آخذ لنفسي من المهنة ، وكان رضي الله عنه يقول : لقد أدركنا أقواما كنا نعد أنفسنا في جنبهم لصوصا مات رضي الله عنه سنة سبع وستين ، في أيام معاوية رضي الله عنه . ومنهم هرم بن حيان رضي الله تعالى عنه ورحمه كان يقول صاحب الكلام : إما أن يعصي فيه فيخصم أو يغرق فيه فيأثم ، وكان رضي الله عنه يقول : اللهم إني أعوذ بك من شر زمان يتمرد فيه صغيرهم ، ويؤمل فيه كبيرهم وتقرب فيه آجالهم ، ويرون أعز إخوانهم على المعاصي فلا ينهونه رضي الله تعالى عنه . ومنهم أبو مسلم الخولاني رضي الله تعالى عنه كان رضي الله عنه على جانب عظيم كبير من العبادة حتى لو قيل له إن جهنم لتسعر لما استطاع أن يزيد في عمله شيئا ، وكان رضي الله عنه يترك الأكل ويقول : الخيل إنما تجري وهي ضمر ، وكان يقول : من شد رجليه في الصلاة ثبت الله رجليه على الصراط ، والله أعلم . ومنهم أبو سعيد الحسن البصري رضي الله تعالى عنه كان والده من أهل ميسان فسبى فهو مولى الأنصار ، وكان قد غلب عليه الخوف ، حتى كأن النار لم تخلق إلا له ، وحده ، وكان رضي الله عنه يقول : ذهبت المعارف ، وبقيت المناكر ، ومن بقي من المسلمين فهو مغموم ، وكان يقول : ما من وسواس نبذ فهو من إبليس ، وما كان فيه إلحاح فهو من النفس فيستعان عليه بالصوم والصلاة والرياضة ، وكان رضي الله عنه يقول : إذا أراد الله بعبد خيرا في الدنيا لم يشغله بأهل ولا ولد وكان رضي الله عنه يقول : من شرط المتواضع أن يخرج عن بيته فلا يلقى أحدا إلا رأى له الفضل عليه ، وكان يقول : إذا أذنب العبد ثم تاب لم يزدد بتوبته من الله تعالى إلا قربا ، وإذا أذنب ثانيا لم يزدد كذلك إلا قربا ، وقال له رجل : أشكو إليك قساوة قلبي فقال : ادن من مجالس الذكر ، وكان يقول : شر الناس للميت أهله يبكون عليه ، ولا يهون عليهم قضاء دينه ، وكان يقول : أدركنا أقواما كانوا فيما أحل الله لهم أزهد منكم ، فيما حرم عليكم ، وكان يقول : لا تشتر مودة ألف رجل بعداوة رجل واحد ، وكان رضي الله عنه يقول : إذا أراد الله بعبد خيرا أمات عياله وخلاه للعبادة ، وكان يقول : الطمع يشين العالم ، وكان يقول : ذم الرجل نفسه في العلانية مدح لها . وقيل له هل في البصرة منافق ، فقال : لو خرج المنافقون منها لاستوحشت ، وكان يقول : أكرم إخوانك يدم لك ودهم ، وكان يقول : لو نظرت يا بن آدم إلى سير أجلك لأبغضت غرور أطك ، وكان رضي الله عنه إذا جلس يجلس كالأمير ، فإذا تكلم يتكلم كلام رجل قد أمر به إلى النار ، وكان رضي الله عنه يقول : من لبس الصوف تواضعا لله عز وجل زاده نورا في بصره وقلبه ، ومن لبسه للتكبر والخيلاء كور في جهنم مع المردة . وكان ينشد ويقول : ليس من مات فاستراح بميت . . . إنما الميت ميت الأحياء وكان يقول : وددت أن أكلت أكلة تصير في جوفي مثل الأجرة فإنه بلغنا أنها تبقى في الماء ثلاثمائة سنة ، وقيل له مرة إن الفقهاء يقولون كذا وكذا فقال : وهل رأيتم فقيها قط بأعينكم إنما الفقيه الزاهد في الدنيا البصير بذنبه المداوم على عبادة ربه عز وجل ، وكان يحلف بالله أنه ما أعز أحد الدراهم إلا أذله الله ، وكان إذا استأذن عليه أحد من إخوانه ، فمان كان عنده طعام أذن له وإلا خرج إليه ولا يتكلف فيما حضر ، وكان يقول : كانوا يقولون لسان الحكيم من وراء قلبه إن أراد أن يقول يرجع إلى قلبه فإن كان له قال ، وإلا أمسك ، وإن الجاهل قلبه في طرف لسانه لا يرجع إلى قلبه ما أتى على لسانه تكلم به ، وكان يقول : الناس ينظرون الله يوم القيامة كما شاء بلا إحاطة ، وكان يقول الدنيا مطيتك إن ركبتها حملتك وإن ركبتك قتلتك ، وكان يقول : ورع العلماء في الدنيا والأموال ، وكان يقول : إذا رأيت في ولدك ما تكره فاعلم أنه شيء تراد به أنت فأحسن ، وكان يقول : إذا أردت عداوة رجل فإن كان مطيعا فإياك وإياه فإن الله تعالى لا يسلمه إليك ، ولا يخلي بينك وبينه وإن كان عاصيا فقد كفيت مؤنته فلا تتعب نفسك بعداوته ، وكان يقول : كل من اتبع طاعة الله لزمتك مودته ، ومن أحب رجلا صالحا فكأنما أحب الله ، وكان يقول : ما رأينا أحدا طلب الدنيا فأدرك الآخرة بها أبدا ، بخلاف العكس ، وكان يقول : يبعث الله أقواما يطلبون هذا العلم حسبة ليس لهم فيه نية فيتعبهم في طلبه كي لا يضيع العلم وتبقى عليهم تبعته ، وكان يقول الإسلام أن تسلم قلبك لله فيسلم منك كل مسلم ، وكان رضي الله عنه يقول : المحب سكران لا يفيق إلا عند مشاهدة محبوبه . ومنهم سعيد بن المسيب رضي الله تعالى عنه كان رضي الله عنه يقول لنفسه : إذا دخل الليل قومي يا مأوي كل شيء والله لأدعنك تزحفين زحف البعير ، فكان يصبح وقدماه منتفختان فيقول لنفسه : إذا أمرت ولذا خلقت ، وكان رضي الله عنه يقول : لا خير فيمن لا بجمع الدنيا يصون بها دينه وجسمه ويصل بها رحمه ، وكان يقول : ما فاتتني فريضة في جماعة منذ أربعين سنة ، وما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد أو صلى رضي الله عنه الصبح بوضوء العشاء خمسين سنة ، وكان يقول : وقد أتت عليه أربع وثمانون سنة ما شيء أخوف عندي من النساء ، وكان يقول : الناس كلهم تحت كنف الله يعملون أعمالهم ، فإذا أراد الله عز وجل فضيحة عبد أخرجه من تحت كنفه ، فبدت للناس عورته ، وكان رضي الله عنه يقول : لا تملؤوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بالإنكار من قلوبكم لكي لا تحبط أعمالكم الصالحة . وضربه عبد الملك بن مروان وألبسه المسوح ، وطاف به أسواق المدينة حين امتنع من بايعته ، ومنع الناس من مجالسته فكان يقول : لا أحد يجالسني فإنهم قد جلدوني ومنعوا الناس من مجالستي فيرجع الناس عنه ، وكان رضي الله عنه يقول : لا تقولوا مسيجدا ، ولا مصيحفا بالتصغير فتصغروا ما كان لله تعالى ، فهو عظيم جليل ، وكان يقول : من استغنى بالله افتقر الناس إليه ، وكان الناس يستأذنون عليه من هيبته كما يستأذنون على الأمراء ، وكان يقول : ليس من شريف ولا عالم ولا في فضل إلا وفيه عيب ، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه ، فمن كان فضله كثر من نقصه وهب نقصه لفضله رضي الله عنه . ومنهم عروة بن الزبير بن العوام رضي الله عنه كان رضي الله عنه يقول : إذا رأيتم من رجل حسنة فأحبوه عليها ، واعلموا أن لها عنده أخوات ، وكذلك إذا رأيتم منه سيئة فأبغضوه عليها ، واعلموا أن لها عنده أخوات ، وكان رضي الله عنه يقول : كان داود عليه السلام يصنع القفة من الخوص ، وهو على المنبر ، ثم يرسل يبيعها ويكل منها ، وكان يقول أزهد الناس في العالم أهله . ولما اعتزل في قصره بالعقيق ، وترك مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له : في ذلك فقال : رأيت مساجدهم لاهية وأسواقهم لاغية والفاحشة في فجاجهم عالية ، فكان فيما هنالك عماهم فيه عافية ، وكان رضي الله عنه يقول لأولاده : تعلموا العلم فإنكم إن تكونوا صغار قوم فعسى أن تكونوا كبار قوم آخرين ، ما أقبح الجهل ولا سيما من شيخ ، وخرج إلى الوليد بن عبد الملك فوقعت في رجله الأكلة فقطعوها ، فكانوا يرون ذلك عقوبة لمشيه بها إلى الوليد ، ثم قال الحمد لله الذي أبقيت لي أختها ، وكان رضي الله عنه يسرد الصوم ، فقطعوا رجله وهو صائم لم يمسكه أحد حين قطعت . مات رضي الله عنه وهو صائم سنة أربع وتسعين ، رضي الله عنه . ومنهم محمد ابن الحنفية بن الإمام علي رضي الله تعالى عنه كان رضي الله عنه يقول : من كرمت عليه نفسه لم يكن للدنيا عنده قدر ، وكان رضي الله عنه يقول : ليس بحكيم من لا يعاشر بالمعروف من لم يجد من معاشرته بدا حتى يجعل الله له مخرجا . ولما كتب ملك الروم إلى عبد الملك بن مروان يتهدده ، ويتوعده ، ويحلف ليحملن إليه مائة ألف في البر ومائة ألف في البحر ، أو يؤدي إليه الجزية كتب عبد الملك إلى الحجاج أن اكتب إلى محمد بن الحنفية تتهدده ، وتتوعده ، ثم أعلمني بما يرد عليك فكتب إليه فأرسل ابن الحنفية كتابه إلى الحجاج يقول : إن لله عز وجل ثلاثمائة وتسعين نظرة إلى خلقه ، وأنا أرجو أن ينظر الله إلي نظرة يمنعني بها منك ، فبعث الحجاج بذلك الكتاب إلى عبد الملك ، فكتب مثل ذلك إلى ملك الروم فقال ملك الروم : ما خرج هذا منك ، ولا كتبت أنت به ولا خرج إلا من بيت نبوة رضي الله عنه . ومنهم علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رحمه الله وهو علي الأصغر وأما الأكبر فقتل مع الحسين رضي الله عنهم أجمعين ، وسيأتي في ترجمة محمد الباقر أن زين العابدين أو الحسينيين كلهم ، وكان رضي الله عنه يقول : إذا نصح العبد لله تعالى في سره ، أطلعه الله تعالى على مساوئ عمله ، فتشاغل بذنوبه عن معائب الناس . وكان يقول : كانت المصاحف لا تباع إنما يأتي الرجل بورقه عند المنبر ، فيقوم الرجل المحتسب ، فيكتب له من أول البقرة ثم يجيء غيره حتى يتم المصحف . قالوا : ولما قتل أخوه كان عمره ثلاث عشرة سنة إلا أنه كان مريضا نائما على فراش فلم يقتل ، وكان إذا توضأ اصفر وجهه فيقول له أهله : ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء فيقول : أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم ؟ وكان إذا مشى لا تجاوز يده فخذه ، ولا يخطر بيده ، وكان إذا بلغه عن أحد أنه ينقصه ، ويقع فيه يذهب إليه في منزله ، ويتلطف به ويقول : يا هذا إن كان ما قلته في حقا فيغفر الله لي وإن كان باطلا ، فغفر الله لك والسلام عليك ورحمة الله وبركاته ، وكان الرجل يقف على رأسه في المسجد ، فما يترك شيئا إلا ويقوله فيه ، وهو ساكت لا يرد عليه رضي الله عنه ، فلما ينصرف يقوم الرجل وراءه ويلزمه من خلفه ، ويبكي فيقول : لا عدت تسمع مني شيئا تكرهه قط ، وكان ينشد : وما شيء أحب إلى اللئيم . . . إذا شتم الكريم من الجواب وكان رضي الله عنه يقول : فقد الأحبة غربة ، وكان يقول : عبادة الأحرار لا تكون إلا شكر الله لا خوفا ولا رغبة ، وكان يقول : كيف يكون صاحبكم من إذا فتحتم كيسه فأخذ ، ثم منه حاجتكم لم ينشرح لذلك ، وكان رضي الله عنه يقول لأصحابه : أحبونا حب الإسلام لله عز وجل ، فإنه ما برح بنا حبكم حتى صار علينا عارا ، إشارة إلى ما وقع له مع عبد الملك بن مروان حين حمله من المدينة إلى الشام مثقلا بالحديد في يديه ورجليه وعنقه ، فلما دخل الزهري على عبد الملك قال له : ليس علي بن الحسين حيث يظن من جهة فالخلافة إنما هو مشغول بنفسه ، وبعبادة ربه عز وجل فقال : نعم ما شغل به نفسه وأطلقه . وكان رضي الله عنه يحب ألا يعينه على طهوره أحد ، وكان يستقي الماء لطهوره ويحضره قبل أن ينام ، وكان لا يترك قيام الليل لا سفرا ولا حضرا ، وكان يقول : إن الله يحب المؤمن المذنب التواب . وكان رضي الله عنه يثني على أبي بكر وعمر وعثمان ، ويترجم عليهم ، وكان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة ، وكانت الريح تهيج فيخر مغشيا عليه ، ولما حج قال : لبيك فوقع مغشيا عليه فتهشم ، واستطال عليه رجل فتطاول فتغافل عنه . فقال له الرجل : إياك أعني فقال له علي زين العابدين : وعنك إذن أغضي . وخرج يوما من المسجد ، فلقيه رجل فسبه ، وبالغ في سبه فبادرت إليه العبيد والموالي فكفهم عنه . وقال : مهلا على الرجل ، ثم أقبل عليه فقال : ما ستر عنك من أمرنا كثر ألك حاجة نعينك عليها ، فاستحى الرجل فألقى إليه خميصته التي عليه ، وأمر له بعطاء فوق ألف درهم . فقال الرجل : أشهد أنك من أولاد الرسول عليه الصلاة والسلام . توفي رضي الله عنه بالبقيع سنة تسع وتسعين ، وهو ابن ثمان وخمسين سنة ، وحمل رأسه إلى مصر ، ودفنت بالقرب من مجراة الماء إلى القلعة بمصر العتيقة رضي الله تعالى عنه . ومنهم أبو جعفر محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين قال الثوري رحمه الله تعالى ، سمي بالباقر لأنه ؛ بقر العلم أي شقه ، فعرف أصله وعرف خفيه . وكان رضي الله عنه يقول : إن الصواعق تصيب المؤمن ، وغير المؤمن ولا تصيب الذاكر لله عز وجل . وكان رضي الله عنه يقول : ما دخل قلب امرئ شيء من الكبر إلا نقص من عقله ، مثل ما دخل من ذلك الكبر أو كثر ، وكان يحب أبا بكر الصديق رضي الله عنه ، ويبالغ في مدحه ويقول : من لم يقل الصديق ، فلا صدق الله له قولا في الدنيا والآخرة ، وبلغه عن جماعة من أهل العراق أنهم يبغضون أبا بكر وعمر ، ويزعمون أنهم يحبون أهل البيت . فكتب إليهم إني بريء ، ممن يبغض أبا بكر وعمر ولو أني وليت لتقربت إلى الله تعالى ، بدماء من يكرههما . وكان رضي الله عنه يقول : ما من عبادة أفضل من عفة بطن أو فرج . وكان إذا ضحك قال : اللهم لا تمقتني ، وكان يقول : ليس في الدنيا شيء أعون من الإحسان إلى الإخوان ، وكان لا يمل قط من مجالستهم ، وكان رضي الله عنه يقول : بئس الأخ يرعاك غنيا ، ويقطعك فقيرا . وكان رضي الله عنه يقول : اعرف المودة في قلب أخيك بما له من قلبك . قال الأصمعي رضي الله عنه : ونسل الحسينيين كلهم من قبل زين العابدين فهو أبو الحسينيين كلهم ، رضي الله تعالى عنه أجمعين ، مات رضي الله عنه سنة سبع عشرة ومائة وهو ابن ثلاث وسبعين سنة ، وأوصى رضي الله عنه ، أن يكفن في قميصه الذي كان يصلي فيه ، والله أعلم . ومنهم أبو عبد الله جعفر الصادق رضي الله عنه ابن محمد الباقر بن زين العابدين ابن الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم أجمعين : كان رضي الله عنه يقول : أربع لا ينبغي لشريف ، أن يأنف منها قيامه من مجلسه لأبيه وخدمته لضيفه ، وقيامه على دابته ، ولو أن له مائة عبد وخدمته لمن يتعلم منه ، وكان رضي الله عنه يقول : لا يتم المعروف إلا بثلاث خصال أن تصغره إذا صنعته ، وتستره وتعجله ، وذلك لأنك إذا صغرته عظم ، وإذا سترته أتممته ، وإذا عجلته هنيته ، . وكان رضي الله عنه يقول : إذا أقبلت الدنيا على إنسان أعطته محاسن غيره ، لماذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه ، وكان يقول : إذا بلغك عن أخيك ما تكرهه ، فاطلب له من عذر واحد إلى سبعين عذرا ، فإن لم تجد له عذرا فقل : لعل له عذرا لا أعرفه . ودخل عليه الثوري رضي الله عنه فرأى عليه جبة من خز ، فقال له : إنكم من بيت نبوة تلبسون هذا ؟ فقال : ما تدري أدخل يدك فماذا تحته مسح من شعر خشن ، ثم قال : يا ثوري ، أرني ما تحت جبتك ، فوجد تحتها قميصا أرق من بياض البيض ، فخجل سفيان ، ثم قال : يا ثوري لا تكثر الدخول علينا تضرنا ونضرك . ودخل عليه أبو حنيفة رضي الله عنه ، فقال يا أبا حنيفة : بلغني أنك تقيس ، لا تفعل فإن أول من قاس إبليس ، وكان رضي الله عنه يقول : إذا سمعتم عن مسلمة كلمة ، فاحملوها على أحسن ما تجدون ، حتى لا تجدوا لها محملا فلوموا أنفسكم ، وكان رضي الله عنه يقول : لا تكلوا من يد جاعت ثم شبعت ، وقال لرجل من قبيلة : من سيد هذه القبيلة فقال الرجل : أنا فقال : لو كنت سيدهم ، ما قلت أنا . وكان يقول : إذا أذنبت فاستغفر فإنما هي خطايا مطوقة في أعناق الرجال . قبل أن يخلقوا وإن الهلاك كل الهلاك الإصرار عليها ، وكان رضي الله عنه ، إذا احتاج إلى شيء قال : يا رباه أنا محتاج إلى كذا ، فما يستتم دعاءه إلا وذلك الشيء بجنبه موضوعا . توفي رضي الله عنه ، بالمدينة سنة ثمان وأربعين ومائة ، وكان رضي الله عنه ، يقول : من استبطأ رزقه ؛ فليكثر من الإستغفار ، وكان رضي الله عنه ، يقول : من أعجب بشيء من أموالهم وأراد بقاءه ، فليقل : ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، وكان يلبس الجبة الغليظة القصيرة من الصوف على جسده ، والحلة من الخز على ظاهره ، ويقول : نلبس الجبة لله ، والخز لكم ، فما كان لله أخفيناه . وما كان لكم أبديناه . وكان رضي الله عنه يقول : أوحى الله إلى الدنيا أن اخدمي من خدمني وأتعبي من خدمك . وكان يقول : الفقهاء أمناء الرسل ما لم يأتوا أبواب السلاطين . وكان يقول : اللهم ارزقني مواساة من قترت عليه رزقك ، وكل ما أنا فيه من فضلك رضي الله تعالى عنه . ؟ ومنهم عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه : وكانت الشياه والذئاب في زمانه ترعى سواء من عدله ، وأتته الدنيا وهي راغمة فتركها وزهد فيها وكانت حجزة إزاره غائبة في عكنته ، فلما ولي الخلافة ، فلو شئت أن تعد أضلاعه عدا من غير مس لعددتها ، وكانت غلته خمسين ألف دينار ، فلما ولي الخلافة صار ينفقها كل حين ، حتى ما يبقى له غير قميص واحد لا يخلعه ، حتى يتسخ فإذا اتسخ غسله ومكث في البيت حتى يجف ، وكانت زوجته فاطمة بنت عبد الملك كذلك ؛ وضعت جميع مالها في بيت المال فصارت كآحاد الناس ، قالت فاطمة رضي الله عنها ، ومنذ ولي الخلافة ما اغتسل قط من جنابة إلى أن مات . فإنه لما ولي الخلافة خير جواريه ، وقال : قد نزل بي أمر شغلني عنكن إلى يوم القيامة ، وحتى يفرغ الناس من الحساب فمن أحبت منكن ، إن أعتقها أعتقتها ومن أحبت أن أمسكها ، على أن لا يكون مني إليها شيء أمسكتها ، فبكين وارتفع بكاؤهن يأسا منه . وخير فاطمة رضي الله عنها بنت عبد الملك بين أن تقيم عنده ، وبين أن تلحق بدار أبيها ، فبكت وعلا نحيبها ، حتى سمع ذلك الجيران . قالت فاطمة : ولم أر أحدا من الرجال ، أشد خوفا من الله تعالى من عمر . كان إذا دخل عندي البيت ألقى نفسه في مسجده . فلا يزال يبكي حتى تغلبه عيناه ، ثم يسقط فيفعل مثل ذلك ليله أجمع ، وكان يخطب الناس بقميص مرقوع الجيب ، من بين يديه ومن خلفه ، فقال له رجل : يا أمير المؤمنين إن الله قد أعطاك فلو لبست ، فنكس رأسه ساعة ، ثم قال : أفضل القصد عند الجدة ، وأفضل الحفو عند المقدرة . وكانت بناته لم تزلن عراة ، فدعا واحدة منهن فلم تجبه ، فأرسل الخادم فأتى بها إليه فقال : ما منعك أن تجيبني . فقالت : إني عريانة فأمر لها بخيشة فألبسها إياها . وكان رضي الله عنه يبكي الدم ، وكان يجتمع بالخضر عليه السلام وكان رضي الله عنه كل قليل ، يرسل البريد بالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ليس له حاجة إلا السلام . وكان رضي الله عنه له سرب ينزل فيه كل ليلة ، فيضع الغل في عنقه فلا يزال يبكي ويتضرع إلى الصباح ، وكان رضي الله عنه يقول : لا تدخل على أمير ولو نهيته عن المنكر وأمرته بالمعروف ، وقد كان رضي الله عنه يقول : لو أراد الله أن لا يعصى ما خلق إبليس ، وكان رضي الله عنه يقول : المتقي ملجم ، وكان رضي الله عنه يقول : لو تعلمون مني ما أعلم من نفسي ، ما نظرتم في وجهي ، وكان رضي الله عنه يقول : إنما الزهد في الحلال وأما الحرام فنار تسعر ؛ يرتع فيها الأموات ، ولو كانوا أحياء لوجدوا ألم النار . وأخباره رضي الله عنه مشهورة في الحلية لأبي نعيم وغيرها . مات رضي الله عنه ، في رجب سنة إحدى ومائة ، وله من العمر . تسع وثلاثون سنة ، ودفن بدير سمعان من أرض حمص . وكانت خلافته سنتين وأربعة عشر يوما ، ومات مسموما ، قالت فاطمة بنت عبد الملك رضي الله عنها : وكان جل مرضه ، من كثرة الخوف من الله تعالى ، فكان أقوى سببا من السم ، رضي الله تعالى عنه . ؟ ومنهم مطرف بن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه : كان رضي الله عنه يقول : لو أتاني آت من ربي عز وجل فقال : أنت مخير بين الجنة والنار ، أو تصير ترابا لاخترت أن أصير ترابا . ولما مات ابن له رضي الله عنه ، سرح لحيته ولبس أحسن ثيابه . فقيل له : في ذلك قال : أتأمروني أن أستكين للمصيبة ، والله لو أن الدنيا وما فيها كانت لي ثم وعدني الحق تعالى ، على أخذها كلها بشربة ماء في الآخرة ، لاخترت تلك الشربة ، وكان رضي الله عنه يقول : لأبيت نائما وأصبح نادما ، أحب إلي من أن أبيت قائما وأصبح معجبا ، وكان رضي الله عنه يقول : إذا استوت سريرة العبد وعلانيته . قال الله عز وجل هذا عبدي حقا ، وكان إذا خلا في بيته تسبح معه لبنة بيته ، وظلمه رجل فقال : أماتك الله على عجل فمات في الحال فطلبوه إلى زيادة وهو على البصرة فقال : هل مسه قالوا : لا قال : فهل هي إلا دعوة رجل صالح ، وافقت قدرا فأطلقوه ، وكان رضي الله عنه يقول : اللهم إني أستغفرك من كل عمل ، ادعيت أني مخلص فيه ، وأني أردت به وجهك ، وكان رضي الله عنه يقول : اللهم ارض عنا ، فإن لم ترض فاعف فإن المولى قد يعفو عن عبده ، وهو غير راض عنه ، وكان رضي الله عنه يقول : أجلوا الله أن تذكروه عند الحمار أو الكلب ، فيقول : أحدكم لكلبه أخزاك الله أو فعل الله بك كذا ، وكان رضي الله عنه يقول : المتقي عند ذكر خطايا الناس مشغول ، وكان يقول : أكثر الناس خطايا أفرغهم لذكر خطايا الناس ، وكان رضي الله عنه يقول : من لم يجزع من الضرب فهو لئيم . وكان يقول : لا تحمل قط كتابا إلى أمير وأنت لا تعلم ما فيه ، وكان رضي الله عنه يقول : ذهب العلم وبقيت عبارات في أوعية سوء ، وكان يقول لا يحتكم ورع إلا على أهله . وسئل رضي الله عنه عن الرجل يتبع الجنازة حياء من أهلها فقط ، هل له في ذلك أجر ؟ فقال ذهب ابن سيرين إلى أن له أجرين أجر صلاته على أخيه وأجر مشيه للحي ، وكان رضي الله عنه يقول : من ترك النساء والطعام فلا بد له من ظهور كرامة ! وكانوا يرون السائح من ترك الطعام والشراب والنساء ولو كان مقيما في بلده ، وكان يقول : إذا أمرت غلامي بحاجة فقدم حاجة صديقي عليها ازددت في ذلك الغلام حبا ، وكان يقول : اللهم إني أعوذ بك أن يكون غيري أسعد مني بما علمته له ، وكان رضي الله عنه يقول : رأيت أني نزلت إلى الأموات فرأيتهم جالسين فسلمت عليهم ، فلم يرد علي منهم أحد السلام فقلت لهم : في ذلك فقالوا : إن رد السلام حسنة وإنا لا نستطيع أن نزيد في الحسنات ، وسمع رجلا يقول : اللهم لا ترد هؤلاء القوم من أجلي فقال : هذا هو العارف بنفسه ، وكان يقول : لا يقل أحدكم إن الله تعالى يقول ، ولكن ليقل إن الله تعالى قال ، وكان رضي الله عنه ، يقول : من كذب صاحب كرامة فهو أكذب . وكان يقول : عليك بالشرف فإنك لا تزال كريما على إخوانك ما لم تحتج إليهم ، وكان رضي الله عنه يقول : يود أقوام من الناس يوم القيامة ، أن أقلامهم كانت من نار حتى لا يكتبوا بها ما كتبوا . وكان رضي الله عنه يقول : ما بقي في زماننا قراءة إنما هم مترفون في الدنيا ، وكان يقول : ليس بصاحبي من يغتاب عندي الناس ، وكان يقول لولا الغفلة في قلوب الصديقين لماتوا من عظيم ما تجلى لقلوبهم ، وكان يلبس المطارف والبرانس ويركب الخيول ، ومع ذلك كان يقول : في دعائه اللهم لا ترد السائلين معي من أجلي . توفي رضي الله عنه بعد الطاعون الجارف ، لما تولى الحجاج العراق سنة سبع ومائتين رضي الله تعالى عنه . ؟ ومنهم العلاء بن الشخير أخوه رضي الله تعالى عنه ورحمه ، كان يقول : العافية ، مع الشكر أحب من البلاء مع الصبر ، قال سفيان الثوري رضي الله عنه ، وذلك لأن الله مدح سليمان ، مع العافية بقوله : ' نعم العبد إنه أواب ' وقال في صفة أيوب مع البلاء الذي كان فيه ، ' نعم العبد إنه أواب ' فاستوت الصفتان ؛ وهذا معافى وهذا مبتلى ، فوجدنا الشكر قد قام مقام الصبر فبما اعتدلا كانت العافية مع الشكر أحب من البلاء مع الصبر رضي الله عنه . ؟ ومنهم صفوان بن محرز المازني رضي الله تعالى عنه : كان يقول : ما يغني عني ما أعلم من الخير ، إذا لم أعمل به فيا ليتني لم أحسن شيئا ، وكان رضي الله عنه ، يقول : إذا وجدت رغيفا وكوز ماء بعد يوم فعلى الدنيا العفاء ، وكان له رضي الله عنه سرب يبكي فيه ، وكان له بيت فانكسر من سقفه جذع فقيل له ألا تصلحه فقال أنا أموت غدا ولو أن صاحب المنزل يدعني أن أقيم فيه لأصلحته ، وكان رضي الله عنه لا يخرج من بيته قط إلا للصلاة ، ثم يرجع بسرعة رضي الله عنه . ؟ ومنهم أبو العالية رضي الله تعالى عنه : كان رضي الله عنه يقول : يوثق كل من كان الناس ، يخافون شره بالحديد يوم القيامة ، ثم يؤمر به إلى النار مع الجبارين والشياطين ، وكان رضي الله عنه يكره للرجل أن يلبس زي الرهبان من الصوف ، ويقول زينة المسلمين التجمل بلباسهم ، وكان يحب الوحدة ، وإذا جلس إليه أكثر من أربعة قام ، وتركهم يخاف من اللغو ، وكان يقول : ما مسست ذكري بيميني منذ خمسين سنة ، وكان يقول : من لم يخشع في صلاته ، فمتى يخشع وكان يقول : من أعظم الذنوب أن يتعلم الرجل القرآن ، ثم ينام عنه ولا يتهجد به . توفي سنة تسعين رضي الله تعالى عنه . ؟ ؟ ؟ ومنهم بكر بن عبد الله المزني رضي الله تعالى عنه كان رضي الله تعالى عنه يقول : أوثق أعمالي عندي حبي للرجل الصالح ، ووقف بعرفات فقال : والله لولا أني فيهم لرجرت أن يغفر الله لهم أجمعين ، وكان يقول : لا يكون الرجل متقيا حتى يكون بطيء الطمع بطيء الغضب ، وكان رضي الله عنه يقول : كلما ازددت من اللباس ، وأمتعة الدار ازددت من الله تعالى ، مقتا وكلما ازددت مالا عن إمساك ازددت من الله طردا ، وكان يقول إذا وجدت من إخوانك جفاء فذلك لذنب أحدثته فتب إلى الله تعالى . وإذا وجدت منهم زيادة محبة ، فذلك لطاعة أحدثتها فاشكر الله تعالى ، وكان يقول إذا رأيتم الرجل موكلا بعيوب الناس ، خبيرا بها فاعلموا أنه قد مكر به . مات سنة ثمان ومائة رضي الله تعالى عنه . ومنهم صلة بن أشيم العدوي رضي الله تعالى عنه كان يقول إذا مر بقوم يلعبون أخبروني عن قوم أرادوا سفرا فقطعوا النهار في اللعب شغلا عن الطريق وناموا ليلا متى يصلون مقصدهم . ومات أخ له في بلاد بعيدة ، فسبق شخص فأخبره ، فقال رضي الله عنه قد أخبرني الله تعالى بذلك ، قال تعالى : ' إنك ميت وإنهم ميتون ' ' الزمر : 30 ' وكان رضي الله عنه يصلي حتى يزحف إلى فراشه رضي الله تعالى عنه . ومنهم العلاء بن زياد رضي الله تعالى عنه كان قد ترك مجالسة الناس كلهم إلا في صلاة الجماعة وفعل الخير ، وكان رضي الله تعالى عنه يقول : واحزناه على الخير وكان قد بكى حتى غشي بصره وربما بكى سبعة أيام متوالية لا يذوق فيها طعاما ولا شرابا ، توفي رضي الله تعالى عنه أيام ولاية الحجاج . وكان رضي الله عنه يقول : لو علم الناس ما أمامهم لما اطمأنوا ساعة في هذه الدار ولا زرعوا ولا بنوا ولا كلوا ولا شربوا ولا ناموا رضي الله تعالى عنه وجاءه رجل فقال : إني رأيتك الليلة في الجنة فقال رضي الله عنه ويحك أما وجد الشيطان أحدا يسخر به غيري وغيرك ، وكان رضي الله عنه يقول : إنكم في زمان أقلكم الذي ذهب عشر دينه وسيأتي عليكم زمان أقلكم الذي يسلم له عشر دينه رضي الله تعالى عنه . ومنهم أبو حازم رضي الله تعالى عنه كان رضي الله عنه يقول : كل مودة يزيد فيها اللقاء لمدخوله ، وكان يقول أدركت العلماء والأمراء والسلاطين يأتونهم فيقفون على أبوابهم كالعبيد حتى إذا كان اليوم رأينا الفقهاء والعلماء والعباد هم الذين يأتون الأمراء والأغنياء فلما رأوا ذلك منهم ازدروهم واحتقروهم وقالوا : لولا أن الذي بأيدينا خير مما بأيديهم ما فعلوا ذلك معنا ، وكان يقول إذا كنت في زمان يرضى فيه بالقول عن الحمل فأنت في شر ناس وشر زمان . ومنهم محمد بن سيرين رضي الله تعالى عنه كانوا إذا ذكروا أحدا عنده بسوء يذكره هو بالخير ، وكان ذا خشوع وسمت ، وكان لا يدع أحدا يمشي بصحبته إذا خرج إلى مكان ويقول : إن لم يكن لك حاجة فارجع ، وكان إذا كلم أمه لا يكلمها بلسانه كله إجلالا لها ، ولما حبس في دين قال له السجان إذا جاء الليل فاذهب إلى دارك وأت بكرة النهار ، فقال : لا أعينك على خيانة أمانتك ، وكان يقول سبب حبسي أنني غيرت رجلا بدين كان عليه فعوقبت بذلك ، وكان رضي الله عنه يقول من الظلم البين لأخيك أن تذكر شر ما فيه وتكتم خير ما فيه عند غضبك ، وكان يقول لو أن للذنوب ريحا لما قدر أحد أن يدنو مني لكثرة ذنوبي ، وكان إذا سئل عن الرؤيا يقول للسائل اتق الله في اليقظة فلا يضرك ما رأيت في النوم وقال له رجل : اجعلني في حل فإني قد اغتبتك ، فقال : إني أكره أن أحل ما حرم الله عز وجل من أعراض المسلمين ولكن يغفر الله لك ، وكان يقول إذا مدحوه في فتياه وقالوا ما كانت الصحابة تحسن أكثر من هذا والله لو أردنا فقههم لما أدركته عقولنا . ومنهم ثابت بن أسد البناني رضي الله عنه كان إذا ذكر النار خرجت أعضاؤه من مفاصلها ، وكان يقول : إن أهل الذكر يجلسون للذكر ، وعليهم من الذنوب أمثال الجبال ، فيقومون وليس عليهم ذنب واحد ، وكان رضي الله عنه يقوم الليل خمسين سنة ، فإذا كان السحر يقول : في دعائه اللهم إن كنت أعطيت أحدا من خلقك الصلاة في قبره فأعطنيها ، فلما مات وسووا عليه اللبن وقعت عليه لبنة فإذا هو قائم يصلي في قبره ، وكان يقول الصلاة خدمة الله في الأرض ، ولو علم الله تعالى شيئا أفضل من الصلاة لما قال : ' فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب ' ' آل عمران : 39 ' ، وكان رضي الله عنه يقول : كابدت الصلاة عشرين سنة وتنعمت بها عشرين سنة ، ولما مات كان الناس يسمعون من قبره تلاوة القرآن رضي الله تعالى عنه . ومنهم يونس بن عبيد رضي الله تعالى عنه كان رضي الله عنه يقول : ليس في هذه الأمة رياء خالص ولا كبر خالص فقيل له لماذا ؟ فقال : لا كبر مع السجود ولا رياء مع التوحيد ، والله تعالى أعلم . ومنهم فرقد السبخي رضي الله تعالى عنه كوفي تولى البصرة كان رضي الله عنه يقول : رأيت في المنام مناد ينادي يا أشباه اليهود كونوا على حياء من الله عز وجل ، فإنكم لم تشكروا إذ أعطاكم ولم تصبروا حين ابتلاكم ، وكان يقول : مر عابد من بني إسرائيل على كثيب رمل وقد أصابت بني إسرائيل مجاعة فتمنى أن يكون ذلك الرمل دقيقا يشبع به بني إسرائيل ، فأوحى الله تعالى لنبي لهم قل للعابد قد أوجبت لك من الأجر ما لو كان دقيقا لتصدقت به رضي الله عنه . ومنهم محمد بن واسع رضي الله تعالى عنه ورحمه كان رضي الله عنه يلبس الصوف فدخل يوما على قتيبة بن مسلم فقال له قتيبة : ما دعاك إلى لبس الصوف ؟ فسكت فقال له : كلمك فلا تجيبني . فقال أكره أن أقول زاهد فأزكي نفسي ، أو فقير فأشكو ربي عز وجل ، وكان رضي الله عنه يقول : من زهد في الدنيا فهو مالك الدنيا والآخرة ، وكان يقول : من أقبل بقلبه على الله تعالى أقبل بقلوب العباد إليه ، وكان يقول : أدركنا الناس وهم ينامون مع نسائهم على وسادة واحدة ، ويبكون حتى تبتل الوسادة من دموعهم عشرين سنة ، لا تشعر إمرأتهم بذلك رضي الله عنهم . ومنهم سليمان التيمي رضي الله عنه صلى رضي الله عنه الغداة بوضوء العتمة أربعين سنة ، وكان يمشي حافيا وله هيبة على السوقة وغيرهم ، وكان يدخل على الأمراء فيأمرهم ، وينهاهم رضي الله تعالى عنه . ومنهم أبو يحيى مالك بن دينار رضي الله تعالى عنه كان رضي الله عنه يقول : لولا أخشى أن تكون بدعة لأمرت أني إذا مت أن أغل فأدفع إلى ربي مغلولا كما يدفع العبد الآبق إلى مولاه ، وكان رضي الله عنه يقول من علامة حب الدنيا أن يكون دائم البطنة قليل الفطنة ، همته بطنه وفرجه يقول متى أصبح فألهو وألعب وآكل وأشرب متى أمسى فأنام جيفة بالليل بطال بالنهار ، وسئل رضي الله عنه عن لبس الصوف فقال رضي الله عنه : أما أنا فلا أصلح له لأنه يطلب صفاء ، وكان يقول : لم يبق من روح الدنيا إلا ثلاثة لقاء الإخوان والتهجد بالقرآن وبيت خال يذكر الله فيه ، وكان إذا سأله سائل والسحابة مارة يقول اصبر حتى تمر هذه السحابة ، فإني أخشى أن يكون فيها حجارة ترمينا بها ، وكان رضي الله عنه يقول ما بقي لأحد رفيق يساعده على عمل الآخرة إنما هم يفسدن على المرء قلبه ، وكان يقول إني أكره أن يأتيني أحد من إخواني إلى منزلي خوفا أن لا أقوم بواجب حقه ، وكان يقول في قوله تعالى : ' وكان في المدنية تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون ' فكم اليوم في كل مدينة ممن يفسد ولا يصلح ، يعني أن ما عدا التسعة كانوا كلهم يصلحون ولا يفسدون ، وكان رضي الله عنه يقول : الناس يستبطئون المطر وأنا أستبطئ الحجر . وربى معه كلبا فقيل له في ذلك فقال : هو خير من قرين السوء وكان رضي الله عنه يقول : أدركنا الصحابة وهم لا يعيب بعضهم على بعض في الملابس من أعلى وأدنى فكان صاحب الخز لا يعيب على صاحب الصوف ، ولا صاحب الصوف يعيب على صاحب الخز ، وكان يقول من الإخوان من يكون محبا لك وهو بعيد ويمنعه من لقائك الشغل الذي هو فيه ، وكان يقول : قد اصطلحنا كلنا على حب الدنيا فلا صالح ولا عالم يعيب على آخر فيها ، وكان إدامه في جميع سنته أن يشتري له بفلسين ملحا ، وكان لا يأكل اللحم إلا في أضحية لما ورد في الأكل منها ، وكان يقول لأهله : من وافقني على التقلل فهو معي وإلا فالفراق ، وكان يتقوت من عمل الخوص ، وفي بعض الأوقات يكتب المصاحف ، وكان بيته خاليا ليس فيه غير مصحف وإبريق وحصير ويقول : هلك أصحاب الأثقال ، وكان يقول في دعائه : اللهم لا تدخل بيت مالك بن دينار من الدنيا شيئا وكان رضي الله عنه يقول : لولا أن يقول الناس جن مالك للبست المسوح ، ووضعت الرماد على رأسي بين الناس ، وكان رضي الله عنه يقول : إذا تعلم العبد العلم ليعمل له كثر علمه وإذا تعلمه لغير العمل زاده فجورا وتكبرا واحتقارا للعامة ، وقال له بعض الولاة : ادع لنا فقال كيف أدعو لكم وألف واحد يدعون عليكم ، وكان رضي الله عنه يقول : منذ عرفت أن ذم الناس إفراط ، ومدحهم إفراط كرهت مذمتهم . مات رضي الله عنه سنة إحدى وثلاثين ومائة ، والله أعلم . ومنهم محمد بن المنكدر رضي الله تعالى عنه كان يقول : كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت على آثار السلف ، وكان يحج بالأطفال ويقول : تعرضهم على الله تعالى لعله ينظر إليهم ، وكان يقول : إن الفقيه يدخل بين الله وبين عباده فلينظر كيف يدخل ، وكان رضي الله عنه يقول : إني أستحيي من الله عز وجل أن أعتقد أن رحمته ، تعجز عن أحد من المسلمين ولو فعل ما فعل . توفي بالمدينة سنة ثلاثين ومائة . ومنهم صفوان بن سليم رضي الله تعالى عنه كان يصلي بالليل حتى تورمت قدماه ، وكان يتهجد بالشتاء فوق السطح ، لئلا ينام ودخل سليمان بن عبد الملك المسجد ، فرأى صفوان فأعجبه سمته فأرسل إليه ألف دينار فقال للغلام أنت غلطت ما هو أنا أذهب فاستثبت ، فذهب الغلام فهرب صفوان فلم يرجع حتى خرج سليمان من المدينة . توفي رضي الله عنه بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين ومائة ، والله أعلم . ومنهم موسى الكاظم رضي الله تعالى عنه أحد الأئمة الاثني عشر وهو ابن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين . كان رضي الله عنه يقول : إذا صحبت رجلا وكان موافقا لك ، ثم غاب عنك فلقيته فاضطرب تجلبك عليه ، فارجع إلى نفسك فانظر فإن كنت اعوججت فتب ، وإن كنت مستقيما فاعلم أنه ترك الطريق وقف عند ذلك ولا تقطع منه حتى يستبين لك إن شاء الله تعالى وكان يكنى بالعبد الصالح لكثرة عبادته واجتهاده وقيامه بالليل ، وكان إذا بلغه عن أحد أنه يؤذيه يبعث إليه بمال . ولد موسى بن جعفر رضي الله عنه سنة ثمان وعشرين ومائة ، وأقدمه المهدي إلى العراق ، ثم رده إلى المدينة ، فأقام بها إلى أيام الرشيد ، فلما قدم الرشيد المدينة حمله معه وحبسه ببغداد إلى أن توفي بها مسموما رضي الله عنه ، سنة ثلاث وستين ومائة وقبره بها مشهور رضي الله تعالى عنه . ومنهم محمد بن كعب القرظي رضي الله عنه كان رضي الله عنه يقول : إذا أراد الله بعبده خيرا جعل فيه ثلاث خصال ، فقها في الدين وزهادة في الدنيا وتبصرة بعيوبه ، وكان رضي الله عنه يقول : لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا عليه الصلاة والسلام ، قال تعالى : ' آتيك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا ' وسأله رجل فقال : أرأيت إن أعطيت الله عز وجل عهدا أو ميثاقا أن لا أعصيه أبدا فقال له محمد : فمن حينئذ أعظم منك جرما ، وأنت تأتلي على الله أن لا ينفذ فيك أمره . توفي رضي الله عنه سنة سبع عشرة ومائة ، وكان يعظ الناس ، فسقط عليهم المسجد فمات وماتوا كلهم رضي الله عنه ، وكان رضي الله عنه يقول : يسير الدنيا يشغل عن كثير الآخرة ، وكان رضي الله عنه يقول لا تنزل الحكمة في قلب فيه عزم على المعصية ، وكان رضي الله عنه يقول : إياك وكثرة الأصحاب فإنك لا تقوم بواجب حقهم ، والله إني لأعجز عن القيام بواجب حق صاحب واحد ، وكان يقول : كان بين قول فرعون إما علمت لكم من إله غيري وبين قول : أنا ربكم الأعلى أربعون سنة وكان يقول إذا صحت الضمائر ، غفرت الكبائر ، وكان رضي الله عنه أعرج . فكان يعاقب نفسه فيقول ينادي يوم القيامة يا أهل خطيئة كذا وكذا قوموا فتقوم معهم ثم يقول يا أهل خطيئة كذا وكذا قوموا فتقوم معهم فأراك يا أعيرج تقوم مع أهل كل خطيئة . توفي رضي الله عنه سنة أربعين ومائة رضي الله عنه . ومنهم عبيدة بن عمير رضي الله تعالى عنه كان رضي الله عنه يقول : من صدق الإيمان إسباغ الوضوء في المكاره بالليل ، وأن تخلو بالمرأة الحسناء لا تلتفت إليها ، وكان رضي الله عنه يقول : ما بقي في الدنيا شيء للمؤمن ، يتلذذ به إلا سرب يدخل فيه إلى أن يموت ، وكان يقول : طوبى لمن يرى الشهوات بعينه ، ولم يشته الخطايا يقلبه ، وكان يقول : علامة الإخلاص أن لا تطمع في الناس ولا تحب محمدتهم ، وكان رضي الله عنه يقول : حق الضيف عليك ثلاث أن لا تتكلف له ولا تطعمه إلا من حلال وتحفظ عليه أوقات الصلاة ، وكان يقول : علامة المتقلل من الدنيا أن يصل إلى حد لم يأخذه لائم ، وكان يقول : لا يكون الرجل متعلما حتى يترك الهوى ، ولا يكون عالما حتى يعلم الناس ، ما يرجو لهم فيه النجاة ، وكان رضي الله عنه يقول : والله ما المجتهد فيكم إلا كاللاعب فيما مضى رضي الله تعالى عنه . ومنهم مجاهد بن حنين رضي الله تعالى عنه كان رضي الله عنه يقول : إني لأرى الرجل يصنع شيئا مما يكره فأستحي أن أنهاه عن ذلك أي مع نهي له ، وكان رضي الله عنه يقول كل موجبة كبيرة ، وكان يقول : لا يكون الرجل من الذاكرين الله كثيرا ، حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا ، وكان يقول : إن النملة التي كلمت سليمان كانت مثل الذئب العظيم ، وكان يقول ليس أحد إلا ويؤخذ من قوله ، ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان رضي الله عنه يقول : يؤمر بالعبد إلى النار فيقول : يا رب ما كان هذا ظني بك وأنت أعلم . فيقول الله عز وجل وهو أعلم ' ما كان ظنك بي ' فيقول : أن تغفر لي فيقول تعالى : ' خلوا سبيله ' وكان يقول : ليكن آخر كلام أحدكم عند منامه لا إله إلا الله فإنها وفاة لا يدري لعلها تكون منية . توفي رضي الله عنه ، وهو ساجد سنة اثنتين ومائة وله ثلاث وثمانون سنة رضي الله عنه . ومنهم عطاء بن أبي رباح رضي الله تعالى عنه آمين كان رضي الله عنه إذا حدثه أحد بحديث وهو يعلمه يصغي إليه كأنه ما سمعه قط لئلا يخجل الرجل ، وكان يقرأ في قيامه في صلاة الليل المائتي آية أو أكثر وكان إذا استأذن عليه أحد لا يفتح له ، حتى يقول له : بأي نية جئت إلي فإذا قال لزيارتك يقول ما مثلي من يزار ثم يقول : قد خبث زمان يزار فيه مثلي ، وكان يقول : من جلس مجلس ذكر كفر الله تعالى عنه بذلك المجلس عشرة مجالس من مجالس الباطل ، وكان رضي الله عنه مولى لأبي ميسرة الفهري ، نشأ بمكة . وكان أحمد بن حنبل رضي الله عنه يقول : خزائن العلم لا يقسمها الله تعالى إلا لمن أحب ولو كان يخص بالعلم أحدا لكان أهل النسب أولى ، وكان عطاء عبدا حبشيا ، وكان يزيد بن أبي حبيب نوبيا ، وكان الحسن البصري مولى ، وكان ابن سيرين رضي الله عنه مولى للأنصار انتهى . قلت : ومن الموالي أيضا مكحول وطاوس والنخعي وميمون بن مهران والضحاك بن مزاحم قاله الزهري . وكان عطاء يعلم الأكابر العلم وجاءه سليمان بن عبد الملك فجلس بين يديه فعلمه مناسك الحج ، ثم التفت إلى أولاده وقال : تعلموا العلم فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود . وحج عطاء رضي الله عنه سبعين حجة ، وعاش مائة سنة . وتوفي بمكة سنة خمس عشرة ومائة رضي الله تعالى عنه . ومنهم عكرمة مولى ابن عباس رضي الله تعالى عنهم آمين وكان يقول : في قوله تعالى : ' للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ' ' النساء : 17 ' الدنيا كلها قريب وكلها جهالة ، وكان رضي الله عنه يقول : من قرأ سورة يس في يوم لم يزل في سرور ذلك اليوم حتى يمسي ، وكان رضي الله عنه يقول : سعة الشمس سعة الأرض وزيادة ثلاث مرات وسعة القمر سعة الأرض مرة . وكان قد جزأ الليل ثلاثة أجزاء ثلثا ينام ، وثلثا يحدث ، وثلثا يصلي ، والله أعلم . ومنهم طاوس بن كيسان اليماني رضي الله تعالى عنه كان رضي الله عنه يقول : قم للقرد في دولته ، وكان يقول : يا ليتك تعلم العلم لنفسك فإن الناس قد ذهبت منهم الأمانة والعمل بالعلم ، وكان يقول أفضل العبادة أخفاها ، وكان رضي الله عنه يقول : لو وزن رجاء المؤمن وخوفه لاعتدلا . مات سنة خمس ومائة ، وحج رضي الله عنه أربعين حجة ، وكان إذا رأى النار يكاد يطيش عقله ، ورأى مرة رأسا يخرج رأسا من التنور فغشي عليه ، وكان لا يسقي دابته من بئر حفرها سلطان ، وصلى الصبح بوضوء العتمة أربعين سنة ، وكان قوالا بالحق للولاة وغيرهم لا تأخذه في الله لومة لائم رضي الله عنه . ومنهم أبو عبد الله وهب بن منبه رضي الله تعالى عنه كان رضي الله عنه يقول في التوراة علامة الرجل الصالح أن يخاصمه قومه الأقرب فالأقرب ، وكان رضي الله عنه يقول : كان الناس ورقا بلا شوك وأنتم اليوم شوك لا ورق فيه ، إن تركهم العبد وهرب تبعوه ، وكان يكره النطق بالشعر ويقول : إني أكره أن يوجد في صحيفتي يوم القيامة شعر ، وكان يكره القياس في الدين ويقول أخاف على العالم أن تزل قدمه بعد ثبوتها ، وكان يقول : إذا قرأ الشريف تواضع وإذا قرأ الوضيع تكبر . وكان يقول : من لم يسمح لعدوه بالمال لم يجد إلى غير قتاله سبيلا ، وكان يقول : ما افتقر أحد إلا رق دينه وضعف عمله وذهبت مروءته واستخف به الناس ، وكان رضي الله عنه يقول : اليد للمؤمن كالشكال للدابة ، وكان يقول : إن للعلم طغيانا كطغيان المال ، وكان يقول : اتخذوا عند الفقراء يدا ، فإن لهم دولة يوم القيامة ، وكان رضي الله عنه يقول : خلق ابن آدم أحمق ولولا حمقه ما هنأه العيش ، وأتاه رجل فقال إني مررت على فلان ، وهو يشتمك فغضب وذهب وقال ما وجد الشيطان غيرك رسولا ، ثم إن ذلك الشاتم جاءه فأجلسه إلى جنبه ، وكان رضى الله عنه يقول : قرأت نيفا وتسعين كتابا من كتب الله عز وجل فوجدت فيها كلها أن كل من وكل إلى نفسه شيئا من المشيئة فقد كفر ، وكان يقول : إن الله عز وجل يقول : في بعض الكتب المنزلة : ' يا بن آدم كم لي عليك نعم ما قمت لي بما يجب عليك أذكرك وتنساني وأدعوك فتفر مني خيري إليك نازل وشرك إلي صاعد ' وكان يقول : قد أصبح علماؤنا يبذلون علمهم لأهل الدنيا لينالوها منهم فهانوا في أعينهم وزهدوا في علمهم ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وكان يقول : من كانت بطنه واديا من الأودية كيف يصلح له الزهد في الدنيا ، وكان يقول : قال موسى عليه السلام لربه : يا رب احبس عني كلام الناس فقال الله عز وجل : ' لو فعلت هذا بأحد لجعلت ذلك لي ' وكان رضي الله عنه يقول : أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام أن أسرع الناس مرورا على الصراط الذين يرضون بحكمي وألسنتهم رطبة من ذكري ، وكان يقول : إن أعظم الذنوب بعد الشرك بالله السخرياء بالناس ، وكان يقول إذا صام الإنسان زاغ بصره فإذا أفطر على حلاوة عاد بصره ، وكان يقول : من تعبد ازداد قوة ومن كسل ازداد فترة ، وكان رضى الله عنه يقول : قال عيسى للحواريين ' بحق أقول لكم إن أكل خبز الشعير وشرب الماء القراح والنوم على مزابل الكلاب لكثير على من يموت ' ، وكان يقول الإيمان عريان ولباسه التقوى وزينته الحياء ، وصلى رضي الله عنه الصبح بوضوء العشاء عشرين سنة . توفي بصنعاء سنة أربع عشرة ومائة رضي الله عنه . ومنهم ميمون بن مهران رضي الله تعالى عنه ورحمه كان يقول كراهة الرجل لأن يعصي الله عز وجل خير له من كثرة الطاعات مع الميل إلى المعاصي ، وزار الحسن البصري فدق الباب فخرجت إليه جارية سداسية فقالت من تكون قال ميمون بن مهران فقالت كاتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فقال : نعم فقالت له : فما بقاؤك يا شقي إلى هذا الزمان الخبيث ، فبكى ، وصار يفحص كالطير المذبوح فسمع الحسن بكاءه وصار يقول له لا بأس عليك يا أخي رضي الله عنهما ، وقيل له إن هاهنا أقواما يقولون نجلس في بيوتنا فترد عليناء أبوابنا حتى تأتينا أرزاقنا فقال رضي الله عنه : هؤلاء قوم حمق إن كان لهم يقين مثل يقين إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام فليفعلوا ، وكان رضي الله عنه يقول : أولو العزم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام . وكان يقول : يا أصحاب القرآن لا تتخذوا القرآن بضاعة تلتمسون الربح في الدنيا ، اطلبوا الدنيا بالدنيا والآخرة بالآخرة ، وكان يقول لأصحابه قولوا لي ما أكره في وجهي لأن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره ، وكان رضي الله عنه يقول : كان السلف رضي الله عنهم إذا رأوا رجلا ركبا وشخصا يجري خلفه ، قالوا قاتلك الله من جبار ، وكان يقول إذا ثبتت المودة بين الأخوين فلا بأس ببعد الزمان في زيارتهما ، وصبت جاريته على رأسه مرقا فأحرقت رأسه فانذعرت فقال رضي الله عنه لا بأس عليك أنت حرة لوجه الله عز وجل . رضي الله تعالى عنه . ومنهم أبو وائل شقيق بن سلمة رضي الله تعالى عنه كان رضي الله عنه يقول لأصحابه : إني لأستحي أن أطوف حول الكعبة بقدمي ، وقد مشتا إلى ما لا يحل ، فكيف أمشي بهما في جوف الكعبة ، أو الحجر ، وسمع رجلا يقول فلان متق فقال ويحك وهل رأيت متقيا قط إن علامة المتقي أن تذهب روحه إذا سمع بذكر النار . وكان رضي الله عنه إذا صلى بالليل يسمع الجيران تسبيحه في صلاته ، وكان إذا سمع ذكر الله تعالى انتفض انتفاض الطير المذبوح ، وكان يقول : إني أستحي من الله تعالى أن أخاف شيئا دونه ، وكان رضي الله عنه يقول : إن أهل بيت يضعون اليوم على مائدتهم رغيفا من حلال لغرباء في هذا الزمان رضي الله عنه ، وكان رضي الله عنه يقول : ما دام قلب الرجل يذكر الله تعالى ، فهو في الصلاة ، وإن كان في السوق وإن تحركت به شفتاه فهو أعظم ، وكان يقول : كم بينكم وبين القوم أقبلت عليهم الدنيا ، فهربوا منها ، وأدبرت عنكم ، فاتبعموها ، وكان يقول لا يكن أحدكم وليا لله تعالى في العلانية وعدوا له في السر رضي الله تعالى عنه . ومنهم إبراهيم التيمي رضي الله تعالى عنه توفي في حبس الحجاج سنة اثنتين وتسعين ، وكان سبب حبسه أن الحجاج طلب إبراهيم النخعي ، فجاء الذي طلبه ، فقال : أريد إبراهيم ، فقال : أنا إبراهيم ، فأخذه ، وهو لا يعلم أنه إبراهيم التيمي ، فأمر الحجاج بحبسه في الديماس ، ولم يكن له ظل من الشمس ، ولا كن من البرد وكان كل اثنين في سلسلة ، فتغير إبراهيم حتى مات ، فرأى الحجاج في منامه قائلا يقول : مات الليلة في حبسك رجال من أهل الجنة ، فقال : انظروا من مات فوجدوه إبراهيم ، فقال : حلم من نزعات الشيطان فمر به ، فألقى على المزبلة . وكان يقول : كفى من العلم الخشية ، وكفى من الجهل أن يعجب الرجل بعمله ، وكان يقول : حملتنا المطامع على أسوأ الصنائع . وقيل له : لو تكلمت على الناس عسى أن تؤجر ، فقال رضي الله عنه : أما يرضى المتكلم أن ينجو كفافا . وقال الأعمش رضي الله عنه : قلت لإبراهيم التيمي رضي الله عنه : بلغني أنك تمكث شهرا لا تأكل شيئا ، فقال : نعم وشهرين ، وما أكلت منذ أربعين ليلة إلا حبة عنب ناولنيها أهلي فأكلتها ، ثم لفظتها في الحال ، وكان يقول : إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى ، فاغسل يديك منه ، رضي الله عنه . ومنهم إبراهيم بن يزيد النخعي رضي الله عنه كان رضي الله عنه يقول : أدركنا الناس وهم يكرهون إذا اجتمعوا أن يحدث الرجل بأحسن ما عنده ، وكان يقول لا بأس أن يقول المريض إذا سئل كيف تجدك : بخير ، ثم يشكو ما به ، وكان يقول ما أوتي عبد بعد الإيمان أفضل من الصبر على الأذى ، وكان رضي الله عنه يخفي أعماله ويتوقى الشهرة حتى إنه كان لا يجلس قط إلى أسطوانة ، وكان يقول : أدركنا الناس وهم يهابون أن يفسروا القرآن والآن قد صار كل من أراد أن يفسره جلس إليه ، وكان رضي الله عنه يقول : وددت أني لم كن تكلمت بعلم وإن زمانا صرت فيه فقيها لزمان سوء ، وكان رضي الله عنه يقول : لا بأس أن تسلم على النصراني إذا كانت لك إليه حاجة أو بينكما معروف . قلت : والمراد بالسلام والله أعلم أن يقول للنصراني كيف حالك مثلا لا قوله السلام عليك لأنه لا يسلم إلا على من اتبع الهدى ، ويحتمل أن يكون ذلك من باب إذا تعارض مفسدتان ارتكبنا الأخف منهما أو مصلحتان فعلنا أدونهما عند تعفر أعلاهما والله أعلم ، وكان يقول : إن الرجل يتكلم بالكلمة من العلم ليصرف بها وجوه الناس إليه ، يهوي بها في جهنم فكيف بمن كان ذلك نيته منا أول جلوسه إلى أن فرغ ، وكان إذا استأجر دابة ليركبها إلى موضع فوقع سوطه يمينا أو شمالا ينزل عنها ويأخذها ولا يعرج بها ويقول إنما استأجرتها لأذهب بها هكذا لا هكذا ، وكان رضي الله عنه يقول كفى بالمرء إثما أن يشار عليه بالأصابع في دين أو دنيا إلا من حفظه الله تعالى ، وكان يلبس الثوب المصبوغ بالزعفران أو العصفر ، حتى لا يدري من رآه أهو من القراء أو الفتيان . توفي سنة خمس وتسعين رضي الله تعالى عنه . ومنهم عون بن عبد الله بن عتبة رضي الله تعالى عنه كان يقول إن لكل رجل سيدا من عمله وإن سيد عملي ذكر الله تعالى ، وكان يقول كفى بك كبرا أن ترى لك فضلا على من دونك ، وكان يقول الكبر أول ذنب عصى الله تعالى به وخرج أصحابه يوما إلى البرية ، فرأوه نائما في الحر والغمامة تظله فلما انتبه أخذ عليهم أن لا يخبروا بذلك أحدا حتى يموت ، وكان يقول طريق الخلاص لمن يرى من الناس منكرا فلا يقدر على تغييره أن يعتزل عنهم ، وهو أهون من الفرار من أرضهم ، وكان رضي الله عنه يقول مجالس الذكر صقال للقلوب وشفاء لها . وكان يلبس أحيانا الخز وأحيانا الصوف فقيل له في ذلك فقال : أليس الخز لئلا يستحي ذو الهيئة أن يجلس إلي وألبس الصوف لئلا تهابني المساكين أن يجلسوا إلي ، وكان يقول من كان يتهم نفسه بالنفاق فليس عنده نفاق ، وكان إذا خالفه عبده أو غلامه يقول ما أشبهك بمولاك مع مولاه ، وكان رضي الله عنه يقول : من تمام التقوى أن لا يشبع العبد من زيادة العلم ، وإنما ترك قوم طلب الزيادة من العلم لقلة انتفاعهم بما قد علموا ، وكان يقول : لو رأيت الأجل ومسيره لأبغضت الأمل وغروره ، وكان يقول : من ضبط بطنه فقد ضبط : الأعمال الصالحة كلها ، رضي الله تعالى عنه . ومنهم سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه كان رضي الله عنه يبكي حتى عمشت عيناه وكان يختم القرآن فيما بين المغرب والعشاء في رمضان وكان يختم القرآن في كل ركعة في جوف الكعبة وكان يقول : كل موجبة كبيرة وكان يقول : إني لأرى الرجل على المعصية فأستحي أن أنهاه لحقارة نفسي . وكان له ديك يقوم على صياحه فلم يصح ليلة فنام سعيد عن ورده فدعا على الديك فمات لوقته فعزم ألا يدعو على شيء بعدها ، وكان يقول : علامة الإجابة حلاوة الدعاء ، ولما أخذه الحجاج قال : ما أراني إلا مقتولا ودخلت عليه ابنته فرأت القيد في رجليه فبكت فلما دعي ليقتل صاحت وقالت : ويلاه يا أبي فقال يا بنيتي ما بقاء أبيك بعد سبع وخمسين سنة وكان يقول : من أطاع الله تعالى فهو ذاكر ومن عصاه فليس بذاكر وإن أكثر التسبيح وتلاوة القرآن . وقيل له : من أعبد الناس فقال : رجل اجترح من الذنوب ثم تاب فكلما ذكر ذنوبه احتقر عمله ، وكان إذا طلع الفجر لا يتكلم إلا بذكر الله تعالى حتى يصلي الصبح ، ولما قطع الحجاج رأسه قال : لا إله إلا الله مرتين ثم قال : الثالثة فلم يتمها ، ولما وعدوه بالقتل غدا قال للحراس : دعوني أتأهب للموت وآتيكم غدا فتنازعوا في ذلك خوف الهرب ثم إنه غلب عليهم صدقة ، فأطلقوه ، ثم جاءهم من الغد فقدموه للقتل وبسط النطع وجاء السياف فذبحه على النطع ، وكان قد قال : الفهم لا تسلط الحجاج على أحد بعدي فعاش الحجاج بعده خمس عشرة ليلة ووقعت الأكلة في بطنه ، وكان ينادي بقية حياته مالي ولسعيد بن جبير كلما أردت النوم أخذ برجلي . قتل سنة خمس وتسعين رضي الله تعالى عنه ورحمه . ومنهم عامر بن شراحيل الشعبي رضي الله تعالى عنه ورحمه مر رضي الله عنه برجل يغتابه فأنشد : هنيئا مريئا غير داء مخامر . . . لعزة من أعراضنا ما استحلت وكان يقول : إياكم والقياس في الدين فإن من قاس فقد زاد في الدين ، وكان يقول : لأن أقيم في حمام أحب إلي من أن أقيم بمكة قال سفيان رضي الله عنه : إعظاما لها وخوفا من وقوع ذنب فيها ، وكان يقول : اتقوا الفاجر من العلماء ، والجاهل من المتعبدين ، فإنهما فتنة لكل مفتون ، وكان رضي الله عنه يقول : لم يحضر وقعة الجمل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أربعة علي وعمار وطلحة والزبير فإن جاءوا بخامس فأنا كاذب وقيل له مرة يا فقيه فقال : لست بفقيه ، ولا عالم إنما نحن قوم سمعنا حديثا فنحن نحدثكم بما سمعنا ، وإنما الفقيه من تورع عن محارم الله عز وجل ، والعالم من خشي الله تعالى بالغيب ، وكان رضي الله تعالى عنه يقول : تعايش الناس بالدين زمنا طويلا حتى ذهب الدين ، ثم تعايشوا بالمروءة زمنا طويلا حتى ذهبت المروءة ، ثم تعايشوا بالحياء زمنا طويلا حتى ذهب الحياء ، ثم تعايشوا بالرغبة والرهبة ، وسيأتي بعد ذلك ما هو أشد منه . وكان يقول : ليتني لم أتعلم علما وددت أن أخرج من الدنيا كفافا لا علي ولا لي وكان رضي الله عنه يقول : ما بكينا من زمان إلا وبكينا عليه وكان رضي الله عنه يقول : أدركنا الناس وهم لا يعلمون العلم إلا لعاقل ناسك وصاروا اليوم يعلمونه لمن لا عقل له ولا نسك . مات رضي الله عنه بالكوفة سنة أربع ومائة وهو ابن سبع وتسعين سنة رضي الله تعالى عنه . ومنهم ماهان بن قيس رضي الله تعالى عنه كان يقول : أما يستحي أحدكم أن تكون ذابته أكثر ذكرا لله منه وكان لا يفتر عن التكبير والتسبيح والنهليل . ولما صلبه الحجاج على بابه كان يسبح ويهلل ويكبر على الخشبة ويعقد بيده حتى بلغ تسعا وعشرين ، ثم طعنوه على تلك الحالة فمكث شهرا مصلوبا ، وسئل عن أعمال القوم فقال : كانت أعمالهم قليلة وقلوبهم سليمة رضي الله عنه . ومنهم ربيع بن خراش رضي الله تعالى عنه كان رضي الله عنه يقول : لا تعودوا أنفسكم الراحة فتشقى غدا وكان يقول إن استطعت أن لا تعرف فافعل فقد فسدت الدنيا وليس فيها لغير العزلة متسع ، وكان رضي الله عنه يقول : الجوع يصفي الفؤاد ويميت الهوى ويورث العلم وكان من أكثر الناس صياما في الهواجر وكان قد آلى على نفسه أن لا يضحك قط حتى يعلم أيصير إلى جنة أم إلى نار ، فأخبر غاسله أنه لم يزل متبسما على سريره ، ويقول : قدمت على رب كريم . توفي رضي الله عنه سنة أربع ومائة ، وكان له مال كثير فأنفقه كله على أصحابه قال بعضهم دخلت يوما عليه وهو يعجن في جفنة ودموعه تسيل ويقول : لما قل مالي جفاني أحبابي والله أعلم . ومنهم طلحة بن مصرف رضي الله تعالى عنه كان يقول : إن الشيطان ليجلب على المؤمن بكثر من ربيعة ومضر ، وكان رضي الله عنه ورعا زاهدا . ودخلت في داره جارية تأخذ نارا فقالت لها امرأته : مكانك حتى أشوي لطلحة قديده الذي يفطر عليه على سيخك الحديد ، فلم يذقه ، وقال حتى ترسلي إلى سيدتها تستأذنيها في حبسك إياها وشواء القديد على حديدها وكان إذا رفعوه على أحد من أقرانه يذهب ويقرأ عليه ، ويجلس بين يديه ليدفع بذاك ما توهمه الناس فيه من أنه أعلم منه ، وكانوا إذا ذكروا عنده الاختلاف يقول لا تقولوا الاختلاف ولكن قولوا السعة ، وكان رضي الله عنه يقول : لقد أدركنا أقواما لو رأيتموهم لاحترقت أكبادكم ، وكنا نرى نفوسنا في جهنم لصوصا ، وكان يقول العقاب مفتاح التقالي ، والعتاب خير من الحقد ، وكان رضي الله عنه يقول : أكرموا سفهاءكم ، فإنهم يكفونكم العار والنار ، وكان يقول : إذا اعتذر إليك أحد فتلقه بوجه طلق إلا أن تكون قطيعته قربة إلى الله تعالى . توفي رضي الله عنه سنة اثنتي عشرة ومائة رضي الله تعالى عنه . ومنهم زيد القائي رضي الله تعالى عنه كان ورعا زاهدا ذا هيبة يراه الرجل فيرجف فؤاده من هيبته ، وكان قد قسم الليل أثلاثا ثلثا عليه ، والثلثين على أخويه ، فكان يقوم ثلثه ثم يجيء إلى أخيه فيركضه برجله فيجده كسلان لا يقوم ، فيقول : له نم أنا أقوم عنك فيقوم ثم يأتي إلى أخيه الآخر فيقول له قم فيجده كسلان ، فيقول له نم أنت الآخر أنا أقوم عنك ، فكان يقوم الليل كله . توفي رضي الله عنه سنة اثنتين وعشرين ومائة . ومنهم منصور بن المعتمر رضي الله تعالى عنه كان الثوري رضي الله عنه يقول : لو رأيت منصورا وهو واقف يصلي لقلت إنه يموت الساعة ، فكانت لحيته تلصق بصدره ، وكان يقوم الليل على سطح داره ، فلما مات قالت ابنة جاره لأبيها يا أبت أين ذلك العمود الذي كان فوق سطح جارنا وذلك لأنها كانت لا تصعد إلا ليلا ، وصام ستين سنة ، وقام ليلها ، وكان يبكي حتى يرحمه أهله طول ليله ، فإذا أصبح كحل عينيه وادهن ، وخرج إلى الناس حتى كأنه بات نائما يخفي عمله عن الناس وكان رضي الله عنه قد عمش من البكاء . وحبسوه شهرا ليتولى القضاء فلم يرض فقالوا لعامل الكوفة لو نشرت لحمه لم يل لك قضاء فخلى عنه وحل قيده ، وكان منصور رضي الله عنه لا يراه أحد إلا ظن أنه قريب عهد بمصيبة منكسر الطرف منخفض الصوت رطب العينين إذا حركته جاءت عيناه بالدموع . توفي سنة اثنتين وثلاثين ومائة رضي الله تعالى عنه ، وكان رضي الله عنه يقول : أولم يكن لنا ذنب إلا محبتنا للدنيا لاستحقينا دخول النار ، وكان يقول للعلماء إنما أنتم متلذذون يسمع أحدكم العلم ويحكيه وإنما يراد من العلم العمل ولو عملتم بعلمكم لهربتم من الدنيا ، لأن العلم ليس فيه شيء يدل على حبها وكان يقول من أعظم الزهد في الدنيا الزهد في لقاء الناس وكان رضي الله عنه يقول اللهم لا ترزقني مالا ولا ولدا ولا دارا ولا خادما وما أعطيت لي مما تكره فخذه مني . ومنهم سليمان بن مهران الأعمش رضي الله تعالى عنه كان الأغنياء والسلاطين يكونون في مجلسه أحقر الحاضرين وهو مع ذلك محتاج إلى رغيف وكان يقول : نقض العهد وفاء بالعهد لمن ليس له عهد ، وكان إذا قام من النوم فلم يصب ماء وضع يده على الجدار فتيمم حتى يجد الماء محافظة على الطهارة ، وكان يقول أخاف أن أموت على غير وضوء فإن الموت يأتي على غير ميعاد . ومكث قريبا من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى ، وكان يقول أما يخشى أحدكم إذا عصى الله تعالى أن يثور من تلك المعصية دخان يسود وجهه بين الناس ، وكان رضي الله عنه يقول : إذا فسد الناس أمر عليهم سرارهم وكان يقول : إذا أنا مت فلا تعلموا بي أحدا واذهبوا بي إلى ربي فاطرحوني في اللحد فإني أحقر من أن يمشي أحد في جنازني ، وكان رضي الله عنه يقول : والله لو كانت نفسي في يدي لطرحتها في الحش ، رضي الله تعالى عنه . ومنهم أويس الخولاني رضي الله تعالى عنه كان رضي الله عنه يقول : ليس بفقيه من يحدث بالحديث من غير عمل وكان رضي لله عنه يقول : لا يهتك الله ستر عبده وفي قلبه مثقال ذرة من خير وكان يقول إعراب اللسان يقيم جاهك عند الناس وإعراب القلب يقيم جاهك عند الله تعالى . وكان يقول لي كذا وكذا سنة ما عملت عملا يستحي منه إلا الجماع ودخول الخلاء وكان يعلق سوطه في مسجده ، ويقول : أنا أحق بالسوط من الدواب ، وكان إذا أخذته فترة مشق ساقه بالسوط ، وكان رضي الله عنه يمشي على الماء في دجلة بغداد رضي الله عنه . ومنهم مكحول الدمشقي رضى الله عنه كان يقول : من أحيا ليلة في ذكر الله عز وجل أصبح كيوم ولدته أمه ، وكان يقول : إذا كان الفضل في الجماعة فإن السلامة في الغزلة ، وكان رضي الله عنه يقول : إذا كان في أمة خمسة عشر رجلا يستغفرون الله عز وجل كل يوم خمسا وعشرين مرة لم يؤاخذ الله تعالى تلك الأمة بعذاب العامة ، وكان يقول : من طاب ريحه زاد عقله ، ومن نظف ثوبه قل همه والله أعلم . ومنهم يزيد بن ميسرة رضي الله تعالى عنه كان رضي الله عنه يقول : إذا بلغك عن الرجل القول فأنكره فخذ بقوله ، ودع ما بلغك ، وكان يقول : كنا نضحك ، ونلعب ونمزح فلما بلغنا المحل الذي يقتدي بنا فما بقي إلا الإمساك عن ذلك ، وكان يقول : إذا تكلم الفقيه بالإعراب ذهب الخشوع من قلبه ، وكان يقول : لا تكمل محبة الأخ في الله تعالى حتى يكون أحب من الأب والأم والأخ الشقيق ، وكان يقول طول الكمد أحب إلي من إسبال الدمعة للخائفين ، وكان يقول : إن العقل إذا طاش فقدت الحرفة ، فإذا فقدت الحرفة قلصت الدمعة ، وإذا ثبت العقل فهم صاحبه الموعظة فأحرقته ، فحزن وبكى وكان رضي الله عنه يقول : ما أراك تعذبنا وتوحيدك في قلوبنا ولو فعلت ذلك لجمعت بيننا وبين قوم طالما عاديناهم فيك ، وكان يقول : كانت العلماء إذا علموا عملوا ، وإذا عملوا اشتغلوا بأنفسهم ، فإذا اشتغلوا فقدوا فإذا فقدوا طلبوا فإذا طلبوا هربوا ، وكان رضي الله عنه يقول : لا تبذل قط علمك لمن لا يسأله ، وكان يقول كان أشياخنا رضي الله عنهم يسمون الدنيا الدنية ولو وجدوا لها اسما شرا منه لسموها به ، وكان رضي الله عنه يقول : كانت أخبار بني إسرائيل الصغير منهم والكبير لا يمشون إلا بالعصا مخافة أن يختال أحدهم في مشيه إذا مشى . ومنهم كعب الأحبار رضي الله تعالى عنه كان رضي الله عنه يقول ما استقر لعبد ثناء في الأرض حتى يستقر له في السماء وكان يقول : أنيروا بيوتكم بذكر الله كما تنيرون قلوبكم به وكان رضي الله عنه يقول : يأتي على الناس زمان تكثر فيه المسألة فمن سأل في تلك الزمان لم يبارك له فيه وكان يقول : ما من أحد يساق إلى النار إلا وهو مسود الوجه ، وقد وضعت الأنكال في قدميه ، والأغلال في عنقه ، إلا من كان من هذه الأمة فإنهم يساقون إلى النار بألوانهم من غير تسويد وجوههم لأنهم كانوا يسجدون عليها في دار الدنيا ، وكان رضي الله عنه يقول : إنما سمى الخليل أواها لأنه كان إذا سمع بذكر النار قال : أواه من النار وكان يقول : يوشك أن تروا جهال الناس يتباهون بالعلم ويتغايرون على التقدم به عند الأمراء كما يتغابر النساء على الرجال فذلك حظهم من علمهم . وكان يقول صلاة بعد صلاة ليس بينهما لغو كتاب في عليين ، وكان رضي الله عنه يقول : لا يذهب ألم الموت عن الميت ما دام في قبره . توفي رضي الله عنه في خلافة عثمان رضي الله عنهما . ومنهم عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي رضي الله تعالى عنه كان رضي الله عنه يكره صيد البر أيام فراخه رحمة بأمه وبه وكان يقول : تبارك من خلقك وجعلك تنظر بشحم وتسمع بعظم وتتكلم بلحم ، وكان رضي الله عنه يقول : ليس ساعة من ساعات الدنيا إلا وهي معروضة على العبد يوم القيامة يوما يوما ، وساعة ساعة ، فالساعة التي لا يذكر الله تعالى فيها تتقطع نفسه عليها حسرات ، فكيف إذا مرت عليه ساعة مع ساعة ويوم مع يوم ، وكان رضي الله عنه يقول : أدركنا الناس وهم أول ما يستيقظون ويصلون الصبح يتفكرون في أمر معادهم وما هم صائرون إليه ، ثم يفيضون بعد ذلك في الفقه والقرآن . ولد رحمه الله سنة ثمان وثمانين ، ومات سنة سبع وخمسين ومائة ، وكان مولده ببعلبك ، ومات في حمام بيروت دخل الحمام فذهب الحمامي في جماعة وأغلق عليه الباب ثم جاء فوجده ميتا متوسدا بيمينه مستقبل القبلة . ودخل عليه المنصور فقال . عظني فقال : ما أحد من الرعية إلا وهو يشكو بلية أدخلتها عليه أو ظلامة سقتها إليه ، وكان يقول لقاء الإخوان خير من لقاء الأهل والمال ، وكان يقول الفاز من عياله كالآبق لا يقبل الله منه صوما ، ولا صلاة حتى يرجع إليهم ، وكان رضي الله عنه ، يقول : لو قبلنا من الناس كل ما يعرضون علينا لهنا في أعينهم رضي الله عنه . ومنهم حسان بن عطية رضي الله تعالى عنه كان رضي الله تعالى عنه إذا صلى العصر تنحى في ناحية المسجد فيذكر الله تعالى حتى تغيب الشمس ، وكان يقول : من أطال قيام الليل هون الله عليه طول القيام يوم القيامة ، وكان يقول ما ازداد العبد في علمه وعمله إخلاصا إلا ازداد الناس منه قربا وكان يقول : بكى آدم عليه السلام على خروجه من الجنة سبعين عاما ، وبكى على خطيئته سبعين عاما ، وبكى على ابنه حين قتل أربعين عاما ، وأقام بمكة مائة عام والله أعلم . ومنهم عبد الواحد بن زيد رضي الله تعالى عنه أدرك الحسن البصري وغيره وكان يقول : مثل المؤمن مثل الولد في الرحم لا يحب الخروج ، فإذا خرج لم يحب أن يرجع ، فكذلك المؤمن إذا خرج من الدنيا . وكان رضي الله عنه يقول عليكم بالخبز والملح ، فإنه يذهب شحم الكلى ويزيد في اليقين ، وكان رضي الله عنه يقول : أحسن أحوال العبد مع الله موافقته ، فإن أبقاه في الدنيا لطاعته كان أحب إليه وإن أخذه كان أحب إليه ، وكان يقول ما من عبد أعطي من الدنيا شيئا فابتغى إليه شيئا ثانيا إلا سلبه الله تعالى حب الخلوة معه وبدله بعد القرب بعدا وبعد الأنس وحشة . وصلى الغداة بوضوء العشاء أربعين سنة رحمه الله والله أعلم . ومنهم أبو بشر صالح المري رضي الله تعالى عنه كان رضي الله عنه يبكي كبكاء الثكلى ، ويجأر جؤار الرهبان حتى كأن مفاصله تتقطع ، وكان يمكث مبهوتا إذا رأى المقبرة اليومين والثلاثة لا يعقل ولا يتكلم ولا يأكل ولا يشرب ، وكان يسمع كلام الموتى ويكلمهم ويكلمونه بالمواعظ رضي الله عنه . ومنهم أبو المهاجر بن عمرو القيسي رضي الله تعالى عنه واسمه رباح وكان يقول لي : نيف وأربعون ذنبا قد استغفرت الله عز وجل عن كل ذنب مائة ألف مرة وما ثم إلا عفوه ومغفرته وكان يقول : لا تجعل لبطنك على عقلك سبيلا إنما الدنيا أيام قلائل ، وكان لا يأكل دائما إلا سد الرمق ، وكان يقول مثقال ذرة من لحم يقسي القلب أربعين صباحا ، وكان يقول : إزالة الجبال من مواضعها أهون من إزالة محبة الرياسة إذا استحكمت في النفس ، وكان يقول رحم الله أقواما زاروا إخوانهم في قبورهم وهم في محاريبهم ، وكان يقول : إياك أن تقف على حوانيت الصيارفة فإنها مواضع الربا ، وكان يقول : إذا قال الرفيق قصعتي فليس برفيق حتى يقول قصعتنا ، وكان يقول لما التقى موسى بالخضر عليهما السلام قال لموسى : تعلم العلم لتعمل به لا لتعلمه لغيرك ، فيكون عليك بوره ولغيرك نوره وكان يقول : كما لا تنظر الأبصار الضعيفة إلى شعاع الشمس ، كذلك لا تنظر قلوب محبي الدنيا إلى نور الحكمة ، وكان يقول لا يبلغ الرجل إلى منازل الصديقين ، حتى يترك زوجته كأنها أرملة أولاده كأنهم أيتام ويأوى إلى منازل الكلاب . وكان رضي الله عنه لا يزيد في أكله وإدامه على الخبز والملح ويقول لنفسه أمامك الشواء والفرش في الدار الآخرة رضي الله عنه ، وكان يقول : عليك بمجالس الذكر وحسن الظن بمولاك وكفى بهما خيرا رضي الله تعالى عنه . ومنهم عطاء السلمي رضي الله تعالى عنه غلب عليه الحزن والخوف حتى مكث أربعين سنة على فراشه لا يقدر أن يقوم ولا يخرج من البيت ، وكان يومئ بالصلاة على فراشه ، ورأى مرة التنور وهو يسجر فغشي عليه ، وكان رضي الله عنه يبكي الثلاثة أيام بلياليهن لا يرقأ له دمع ، وكان إذا بكى رؤي حوله بلل يظن أنه من أثر الوضوء وإنما هي دموعه ، وكان إذا خرج إلى جنازة يغشى عليه في الطريق مرات ، ويخر من على الدابه لم يرجع . وكانت كل بلية نزلت بالناس يقول هذا كله من أجل عطاء لو مات استراح الناس منه رضي الله تعالى عنه . ومنهم عتبة بن أبان الغلام رضي الله تعالى عنه وسمي بالغلام لأنه كان في العبادة كأنه غلام رهبان لا لصغر سنه وقال عتبة الغلام رضي الله عنه جاءني عبد الواحد بن زيد رضي الله عنه فقال : ما زال فلان يصف من قلبه منزلة لا أعرفها من قلبي فقلت لأنك تأكل مع خبزك تمرا فقال : فإذا تركت التمر وصلت إليها فقلت له نعم فجعل عبد الواحد يبكي ، وكان عتبة يأوي إلى المقابر والصحارى ويخرج إلى السواحل فيقيم فيها ، فإذا كان يوم الجمعة دخل البصرة فيشهد الجمعة ثم يأتي إخوانه فيسلم عليهم ، وكان قد غلب عليه الحزن ، وكانوا يشبهونه في الحزن بالحسن البصري رضي الله عنه . مات رضي الله عنه شهيدا في قتال الروم وكان يهجع بعد العشاء شيئا يسيرا ، ثم يقوم إلى الصباح وكان يلبس الشعر تحت ثيابه إلا يوم الجمعة ، وكان يلبس كساءين أغبرين يتزر بواحدة منهما ويرتدي بالآخرى ، وكان له بيت مغلق لا يفتحه إلا ليلا فلما مات فتحوه فوجدوا فيه قبرا محفورا وغلا من حديد رضي الله عنه . ومنهم سفيان بن سعيد الثوري رضي الله تعالى عنه وكانوا يسمونه أمير المؤمنين في الحديث . ولد رضي الله عنه سنة سبع وتسعين وخرج من الكوفة إلى البصرة سنة خمس وخمسين ومائة وتوفي رضي الله عنه بالبصرة سنة إحدى وستين ومائة وكان رضي الله عنه عالم الأمة وعابدها وزاهدها وكان رضي الله عنه يقول : لا ينبغي للرجل أن يطلب العلم والحديث حتى يعمل في الأدب عشرين سنة ، وكان يقول إذا فسد العلماء فمن يصلحهم ، وفسادهم بميلهم إلى الدنيا ، وإذا جر الطبيب الداء إلى نفسه ، فكيف يداوي غيره ، وكان رضي الله عنه يقول : إذا لم يكن تحت الحنك من العمامة شيء فهي عمامة إبليس ، وكان يقول من تصدر للعلم قبل أن يحتاج إليه أورثه ذلك الذل ، كان يمكث اليومين والثلاثة لا يأكل حتى يضر به الجوع شغلا عنه بما هو فيه من العبادة . وكتب إلى عابد من العباد اعلم يا أخي أنك في زمان كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذون أن يدركوه ، ومعهم من العلم ما ليس معنا ، ولهم من القدم ما ليس لنا ، فكيف بنا حين أدركناه على قلة العلم وقلة الصبر وقلة الأعوان على الخير ، وفساد من الزمان ، فعليك بالأمر الأول والتمسك به ، عليك بالخمور فإن هذا زمان خمول ، وعليك بالعزلة وقلة مخالطة الناس ، فقد كان الناس إذا التقوا ينتفع بعضهم ببعض ، فأما اليوم فقد ذهب ذلك ، فالنجاة الآن في تركهم فيما ترى وإياك يا أخي والأمراء أن تدنو منهم أو تخالطهم في شيء من الأشياء ، ويقال لك تشفع أو تدرأ عن مظلوم أو ترد مظلمة ، فإن ذلك من خديعة إبليس ، إنما اتخذ ذلك القراء سلما للقرب منهم ، واصطيادا للدنيا بذلك وكان رضي الله عنه يقول : لو علمت من الناس أنهم يريدون بالعلم وجه الله تعالى لأتيت إلى بيوتهم ، فعلمتهم ولكن إنما يريدون به مجاراة الناس وأن يقولوا حدثنا سفيان ، وكانوا إذا قالوا له حدثنا ما أراكم أهلا للحديث ، ولا أرى نفسي أهلا لأن أحدث ، وما مثلي ومثلكم إلا كما قال القائل افتضحوا فاصطلحوا وكان رضي الله عنه يقول ما كفيت من المسألة والفتيا فلا تزاحم فيه ، وكان يقول قد ظهر من الناس الآن أمور يشتهي الرجل أن يموت قبلها ، وما كنا نظن أننا نعيش لها وكان يقول : ما كنت أظن أن أعيش إلى زمان إذا ذكرت الأحياء ماتت القلوب ، وإذا ذكرت الأموات حييت القلوب ، وكان رضي الله عنه يقول : إلهي البهائم يزجرها الراعي فتنزجر عن هواها وأراني لا يزجرني كتابك عما أهواه فيا سوأتاه . وكان يقول : قال رجل لعيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام أوصني قال انظر خبزك من أين هو وقيل له إن فلانا يدخل على المهدي ويقول أنا في خلاص من تبعاته فقال كذب ، والله أما أرى إسرافه في ملبسه ومأكله وملبس خدمه وخيله ورجله هل قال له قط يوما إن هذا لا يليق بك هذا من بيت مال المسلمين وكان يقول رضا الملحين غاية لا تدرك . وكان يقول : المال في زماننا هذا سلاح للمؤمن وكان يقول أحب لطالب العلم أن يكون في كفاية فإن الآفات وألسن الناس تسرع إليه إذا احتاج وذل وكان رضي الله عنه يقول : لا طاعة للوالدين في الشبهات وكان يقول : إنما يطلب العلم ليتقي به الله تعالى فمن ثم فضل على غيره ، ولولا ذلك كان كسائر الأشياء ، وكان يقول : شكوى المريض إلى أحد من إخوانه ليس من شكوى الله عز وجل ، وكان يقول للمهدي في وجهه : احذر من هؤلاء الأعوان ، والمترددين إليك من الفقراء ، فإن هلاكك على أيديهم يأكلون طعامك ، ويأخذون دراهمك ، ويغشونك ويمدحونك بما ليس فيك ، وكان رضي الله عنه يقول : أئمة العدل خمسة أبو بكر ، وعمر ، وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز ، من قال غير هذا فقد اعتدى وقوموا ثياب الثوري التي عليه حتى النعل فبلغ درهما وأربعة دوانق ، وكان رضي الله عنه لا يجلس في صدر مجلس قط إنما كان يقعد في جنب حائط يجمع بين ركبتيه ، وكان يقول : لا يأمر السلطان بالمعروف إلا رجل عالم بما يأمر وينهي رفيق بما يأمر ، وينهى عدل في ذلك وقال له رجل : ذهب الناس يا أبا عبد الله وبقينا على حمر دبرة . فقال الثوري : ما أحسن حالها لو كانت على الطريق ، وكان رضي الله عنه يقول : إذا بلغك عن قرية أن بها رخصا ، فارحل إليها فإنه أسلم لقلبك ودينك وأقل لهمك ، وكان رضي الله عنه يقول : لا تجب أخاك إلى طعام إلا إن كنت ترى أن قلبك يصلح على طعامه . ونصح يوما إنسانا رآه في خدمة الولاة ، فقال : فما أصنع بعيالي ؟ فقال : ألا تسمعون لهذا يقول : إنه إذا عصى الله رزق عياله ، وإذا أطاعه ضيعهم ، ثم قال رضي الله عنه : لا تقتدوا قط بصاحب عيال ، فإنه قل صاحب عيال أن يسلم من التخليط ، وعذره دائما في أكل الشبهات والحرام قوله : عيالي ، وكان يقول : لو أن عبدا عبد الله تعالى بجميع المأمورات إلا أنه يحب الدنيا إلا نودي عليه يوم القيامة على رؤوس أهل الجمع ألا إن هذا فلان بن فلان قد أحب ما أبغض الله تعالى ، فيكاد لحم وجهه يسقط من الخجل وكان رضي الله عنه يقول : لأن أخلف عشرة آلاف دينار أحاسب عليها أحب من أن أحتاج إلى الناس ، فإن المال كان فيما مضى يكره أما اليوم ، فهو ترس للمؤمن يصونه عن سؤال الملوك والأغنياء وكان يقول لا بد لمن يحتاج إلى الناس أن يبذل لهم دينه فيما يحتاج فيمسك على ما بيده من المال ، وكان يقول : لا تصحب في السفر من يتكرم عليك فإنك إن ساويته في النفقة أضربك ، وإن تفضل عليك استعبدك . وكان يقول : الحلال في زماننا هذا لا يحتمل السرف ، وكان يقول : خرجت مرة في الليل فنظرت إلى السماء ، ففدت فلبي فذكرت ذلك لأمي فقالت : إنك لم تنظر إليها نظر اعتبار وإنما نظرت إليها نظر قلة . وكان يرد ما يعطاه ويقول : لو أني أعلم منهم أنهم لا يفتخرون علي بعطائهم لأخذته منهم ولذلك كان يجوع ، ولا يقترض ويقول : إنهم لا يكتمون ذلك بل يروح أحدهم ، ويقول : جاءني سفيان الثوري البارحة ، واقترض مني ، وكان يقول : الأذان بخراسان أفضل من المجاورة بمكة ، وكان يقول : الزهد في الدنيا هو قصر الأمل ليس بكل الخشن ولا بلبس الغليظ والعباء ، وكان يقول : ازهد في الدنيا ونم لا لك ، ولا عليك وكان يقول : إذا رأيتم العالم يلوذ بباب السلطان ، فاعلموا أنه لص ، وإذا رأيتموه يلوذ بباب الأغنياء ، فاعلموا أنه مراء ، وكان يقول : إن الرجل ليكون عنده المال وهو زاهد في الدنيا وإن الرجل ليكون فقيرا ، وهو راغب فيها ، وكان يقول : إني أحب أن أكون في مكان لا أعرف فيه . وكانوا إذا ذكروا عنده الموت يمكث أياما لا ينتفع به أحد ، وكان يقول : إذا عرفت نفسك لا يضرك ما قيل فيك ، وكان يقول أصل كل عداوة اصطناع المعروف إلى اللئام ، وكان يقول : إذا رأيت أخاك حريصا على أن يؤم فأخره ، وكان يقول : لأن أشتري من فتى يتغنى أحب إلي من أن أشتري من قارئ لأن القارئ يتأول عليك في دراهمك ، والمغني يعطيك دراهمك كاملة مروءة ، أو ديانة وكان يقول : ما خالفت قارئا إلا خفت منه أن يشيط بدمي ، وإذا كان لك إلى قارئ حاجة فلا تضرب له بقارئ مثله ، يقف عن قضاء حاجتك . وسئل عن الغوغاء فقال : الذين يطلبون بعلمهم الدنيا ، وكان يقول : أول العلم طلبه ، ثم العمل به ، ثم الصمت ثم نظره ، ولو أن أهل العلم أخلصوا فيه ما كان من عمل أفضل منه ، وكان يأخذ بيده دنانير ويقول : لولا هذه لتمندلوا بنا ، وكان يقول كثرة الأخلاء من رقه الدين ، وكان يقول : ما أدري لو أصابني بلاء لعلي كنت أكفر ، وكان يقول : عجبت لكون النساء أكثر أهل النار مع أن الرجال أعمالها أقبح من أعمالهن . وكان قد جعل على نفسه ثلاثة أشياء أن لا يخدمه أحد ، ولا يطوى له ثوب ولا يضع لبنة على لبنة ، وكان رضي الله عنه يقول : هذا زمان عليك فيه بخويصة نفسك ودع العامة وكان يقول : من رأى نفسه على أخيه بالعلم والعمل حبط أجر عمله وعلمه ، ولعل أخاه يكون أورع منه على حرم الله عز وجل ، وكان إذا أخذ في الفكر صار كأنه مجنون لا يعي كلام أحد . وبعث أبو جعفر أمير المؤمنين الخشابين قدامه حين خرج إلى مكة وقال : إذا رأيتم سفيان الثوري فاصلبوه . فوصلوا مكة ونصبوا الخشب وجاءوا إليه فوجدوه نائما رأسه في حجر الفضيل بن عياض ورجلاه في حجر سفيان بن عيينة ، فقالوا : يا أبا عبد الله اتق الله ولا تشمت بنا الأعداء فتقدم إلى أستار الكعبة فأخذها ، وقال برئت منه إن دخلها أبو جعفر فمات قبل أن يدخل مكة ، وكان رضي الله عنه يقول : لميت أبا حبيب البدوي فقال يا سفيان منع الله تعالى عطاء لك وذلك لأنه لا يمنعك من بخل ولا عدم ، وإنما هو نظر إليك واختبار ، وكان رضي الله عنه يقول إن الملكين ليجدان ريح الحسنات والسيئات إذا عقد القلب على ذلك فكما لا يؤذونك لا تؤذهم . وسئل عن رجل يكتسب لعياله ولو صلى في الجماعة لفاته القيام عليهم ماذا يصنع ؟ قال : يكتسب لهم قوتهم ويصلي وحده وكان يقول : كثرة النساء ليست من الدنيا لأن عليا رضي الله عنه كان من أزهد الصحابة ، وكان له أربع نسوة وتسع عشرة سرية . وكان رضي الله عنه يقول : هذا زمان لا يأمن فيه الخامل على نفسه فكيف المشهور فيه ، وكان يقول إذا سمعتم ببدعة فلا تحكوها لأصحابكم ، ولا تلقوها في قلوبكم وكان يقول : قد قل أهل السنة والجماعة في زماننا هذا وكان رضي الله عنه يقول : إني لأعرف محبة الرجل للدنيا بميله لأهل الدنيا وإرساله السلام لهم وكان يقول : إذا رأيتم شرطيا نائما عن صلاة فلا توقظوه لها فإنه يقوم يؤذي الناس ونومه أحسن . وقيل له ألا تدخل على الولاة فتتحفظ وتعظهم وتنهاهم فقال : أتأمروني أن أسبح في بحر ولا تبتل قدماي إني أخاف أن يترحبوا بي فأميل إليهم فيحبط عملي . وشكا له رجل مصيبة فقال قم عني ما وجدت أحدا أهون في عينيك مني تشكو الله تعالى عنده ، وكان رضي الله عنه يقول : العلماء ثلاثة عالم بالله وبأمر الله فعلامته أن يخشى الله ويقف عند حدود الله ، وعالم بالله دون أوامر الله فعلامته أن يخشى الله ولا يقف عند حدوده ، وعالم بأوامر الله دون الله فعلامته أن لا يقف عند حدود الله ولا يخشى الله وهو ممن تسعر بهم النار يوم القيامة ، وكان يقول إذا أرضيت ربك أسخطت الناس ، وإذا أسخطتهم فتهيأ للسهام والتهيؤ للسهام أحب من أن يذهب دين الرجل ، وكان يقول : إذا رأيتم قارئ القرآن يحبه جيرانه فأعلموا أنه مداهن ومناقبه رضي الله عنه كثيرة والله أعلم . ومنهم إمامنا أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتقي معه في عبد مناف . ولد رضي الله عنه بغزة ثم حمل إلى مكة وهو ابن سنتين وعاش أربعا وخمسين سنة وأقام بمصر أربع سنين ونيفا ثم توفي بمصر ليلة الجمعة بعد المغرب سنة أربع ومائتين . نشأ رضي الله عنه في حجر أمه في قلة عيش وضيق حال ، وكان رضي الله عنه في صباه يجالس العلماء ، ويكتب ما يستفيده في العظام ونحوها ، لعجزه عن الورق حتى ملأ منها خبايا . وتفقه في مكة على مسلم بن خالد الزنجي ونزل في شعب الخيف منها ثم قدم المدينة فلزم الإمام مالكا رضي الله عنه ، وقرأ عليه الموطأ حفظا فأعجبه قراءته وقال له اتق الله فإنه سيكون لك شأن وكان سن الشافعي رضي الله عنه حين أتى مالكا ثلاث عشرة سنة ، ثم رحل إلى اليمن حين تولى عمه القضاء بها ، واشتهر بها ثم رحل إلى العراق ، وجد في الاشتغال بالعلم وناظر محمد بن الحسن وغيره ، ونشر علم الحديث وأقام مذهب أهله ، ونصر السنة واستخرج الأحكام منها ورجع كثير من العلماء عن مذاهب كانوا عليها إلى مذهبه ، ثم خرج إلى مصر آخر سنة تسع وتسعين ومائة وصنف كتبه الجديدة بها ورحل الناس إليه من سائر الأقطار . قال الربيع بن سليمان رأيت على باب دار الإمام الشافعي رضي الله عنه سبعمائة راحلة تطلب سماع كتبه رضي الله عنه ، وكان يقول مع ذلك إذا صح الحديث فهو مذهبي ، وكان رضي الله عنه يقول : وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم على أن لا ينسب إلي منه خوف قال شيخنا شيخ الإسلام ، أبو يحيى زكريا الأنصاري وقد أجابه الحق إلى ذلك فلا يكاد يسمع في مذهبه إلا مقالات أصحابه قال الرافعي قال النووي قال الزركشي ونحو ذلك وكان يقول وددت أني إذا ناظرت أحدا أن يظهر الله تعالى الحق على يديه وكان يقول : طلب العلم أفضل من صلاة النافلة ، وكان يقول من أراد الآخرة فعليه بالإخلاص في العلم وكان يقول : أظلم الظالمين لنفسه من تواضع لمن لا يكرمه ورغب في مودة من لا ينفعه ، وقبل مدح من لا يعرفه وكان يقول : لا شيء أزين بالعلماء من الفقر والقناعة والرضا بهما وكان يقول صحبت الصوفية عشر سنين ما استفدت منهم إلا هذين الحرفين الوقت سيف ، وأفضل العصمة ألا تجد . وكان يقول من أحب أن يقضي له بالحسنى فليحسن بالناس الظن وكان يقول : أبين ما في الإنسان ضعفه فمن شهد الضعف من نفسه نال الاستقامة مع الله تعالى وكان يقول من طلب العلم بعز النفس لم يفلح ومن طلبه بذل النفس وخدمة العلماء أفلح ، وكان رضي الله عنه يقول : تفقه قبل أن ترأس فإذا ترأست فلا سبيل إلى التفقه ، وكان يقول : دققوا مسائل العلم لئلا تضيع دقائقه ، وكان يقول : جمال العلماء كرم النفس ، وزينة العلم الورع ، والحلم ، وكان رضي الله عنه يقول : لا عيب بالعلماء أقبح من رغبتهم فيما زهدهم الله فيه وكان يقول : ليس العلم ما حفظ إنما العلم ما نفع ، وكان يقول : فقر العلماء اختيار ، وفقر الجهلاء اضطرار ، وكان يقول : المراء في العلم يقسي القلب ويورث الضغائن وكان رضي الله عنه يقول : الناس في غفلة عن هذه السورة ' والعصر إن الإنسان لفي خسر ' ' العصر : ا - 2 ' وكان قد جزأ الليل ثلاثة أجزاء الثلث الأول يكتب والثاني يصلي والثالث ينام وفي رواية ما كان ينام من الليل إلا يسيرا ، وكان يختم في كل يوم ختمة ، وكان يقول : ما كذبت قد ولا حلفت بالله لا صادقا ، ولا كاذبا ، وما تركت غسل الجمعة قط لا في برد ولا في سفر ولا حضر وما شبعت منذ ست عشرة سنة إلا شبعة طرحتها من ساعتي ، وكان رضي الله عنه يقول : من لم تعزه التقوى فلا عز له . وكان يقول : ما فزعت من الفقر قط وكان يقول : طلب فضول الدنيا عقوبة عاقب الله بها أهل التوحيد . وكان يمشي على العصا فقيل له في ذلك فقال لأذكر أني مسافر من الدنيا ، وكان يقول من شهد الضعف من نفسه نال الاستقامة ، وكان يقول من غلبته شدة الشهوة للدنيا لزمته العبودية لأهلها ، ومن رضي بالقنوع زال عنه الخضوع وكان يقول من أحب أن يفتح الله تعالى عليه بنور القلب فعليه بالخلوة وقلة الأكل وترك مخالطة السفهاء وبغض أهل العلم الذين لا يريدون بعلمهم إلا الدنيا ، وكان يقول لا بد للعالم من ورد من أعماله يكون بينه وبين الله تعالى وكان يقول لو اجتهد أحدكم كل الجهد على أن يرضي الناس كلهم عنه فلا سبيل له فليخلص العبد عمله بينه وبين الله تعالى ، وكان يقول لا يعرف الرياء إلا المخلصون ، وكان يقول لو أوصى رجل لأعقل للناس صرف إلى الزهاد ، وكان يقول : سياسة الناس أشد من سياسة الدواب ، وكان يقول العاقل من عقله عقله عن كل مذموم ، وكان يقول : لو علمت أن الماء البارد ينقص مروءتي ما شربته ، وكان يقول أصحاب المروءات في جهد ، وكان يقول : من أحب أن يختم الله له بخير فليحسن الظن بالناس ، وكان يقول : مكثت أربعين سنة أسأل إخواني الذين تزوجوا عن أحوالهم في تزوجهم ، فما منهم أحد قال رأيت خيرا قط ، وكان يقول ليس بأخيك من احتججت إلى مداراته ، وكان يقول من علامة الصادق في أخوة أخيه أن يقبل علله ويسد خلله ويغفر زلله ، وكان يقول : من علامة الصديق أن يكون لصديق صديقه صديقا ، وكان يقول : ليس سرور يعدل صحبة الإخوان ولا غم يعدل فراقهم ، وكان يقول لا تشاور من ليس في بيته دقيق ، وكان يقول : لا تقصر في حق أخيك اعتمادا على مروءته ولا تبذل وجهك إلى من يهون عليه ردك . وكان يقول : من برك فقد أوثقك ومن جفاك فقد أطلقك وكان يقول : من نم لك نم عليك ومن إذا أرضيه قال فيك ما ليس فيك ، كذلك إذا أغضبته قال فيك ما ليس فيك وكان يقول : من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه وكان يقول من سامى بنفسه فوق ما يساوي رده الله تعالى إلى قيمته ، وكان يقول : من تزين بباطل هتك ستره وكان يقول : التكبر من أخلاق اللئام ، وكان يقول : القناعة تورث الراحة ، وكان يقول أرفع الناس قدرا من لا يرى قدره ، وأكثرهم فضلا من لا يرى فضله ، وكان يقول من كتم سره ملك أمره وكان يقول ما ضحك من خطأ رجل إلا ثبت صوابه ، في قلبه وكان يقول : الإكثار في الدنيا إعسار والإعسار فيها إيسار ، وكان يقول الانبساط إلى الناس مجلبة لقرناء السوء والانقباض عنهم مكسبة للعداوة ، فكن بين المنقبض والمنبسط ، وكان يقول ما أكرمت أحدا فوق قدره إلا نقص من مقداري بقدر ما زدت في إكرامه ، وكان يقول : لا وفاء لعبد ، ولا شكر للئيم ، وكان يقول : صحبة من لا يخاف العار عار يوم القيامة ، ومن عاشر اللئام نسب إلى اللؤم ، وكان : يقول من يسمع بأذنه صار حاكيا ومن أصغى بقلبه صار واعيا ، ومن وعظ بفعله كان هاديا وكان يقول : من الذل حضور مجلس العلم بلا نسخة . وعبور الماء بلا فوطة وعبور الحمام بلا قصعة ، وتذلل الرجل للمرأة لينال من مالها شيئا ، وكان يقول : مداراة الأحمق غاية لا تدرك ، وكان يقول : من ولي القضاء ولم يفتقر فهو لص ، وكان يقول ينبغي للفقيه أن يكون معه سفيه لسافه عنه وكان رضي الله عنه يقول من خدم خدم . وكان رضي الله عنه من أكرم الناس . قدم من اليمن بعشرة آلاف دينار فضرب خباءه خارج مكة ، فكان الناس يأتونه فما برح حتى فرقها كلها وما سأله أحد شيئا إلا احمر وجهه حياء من السائل ، وكان رضي الله عنه يخضب لحيته بالحناء حمراء قانية وتارة يصفرها اتباعا للسنة ، وكان كثير الأسقام منها البواسير وكانت دائما تنضح الدم ، ولا يجلس للحديث إلا والطشت تحته يقطر الدم فيه ، قال يونس بن عبد الأعلى ما رأيت أحدا لقي من السقم ما لقي الشافعي رضي الله عنه ، وكان مقتصدا في لباسه وكان نقش خاتمه كفى بالله ثقة لمحمد بن إدريس وكان ذا هيبة وكان أصحابه لا يتجرؤن أن يشربوا الماء وهو ينظر إليهم هيبة له ، وكان يتشح بالرداء ويتكئ على الوسادة وتحته مضربتان ، وكان يقول أحب لكل مسلم أن يكثر من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان يقول في قوله صلى الله عليه وسلم : ' ليس منا من لم يتغن بالقرآن ' قال يترنم به يترنم به ، وكان يقول كلما رأيت رجلا من أصحاب الحديث كأني رأيت رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يقول لو رأيت صاحب بدعة يمشي على الهواء ما قبلته ، وكان يقول من لم يصبر نفسه لم ينفعه علمه ، وكان إذا اشترى جارية يشترط عليها أن لا يقربها ، لأنه كان عليلا على الدوام وكان يقول : الكلام والسخاء يغطيان عيوب الدنيا والآخرة بعد أن لا يلحقهما بدعة وكان يقول : من استغضب فلم يغضب فهو حمار ومن استرضى فلم يرض فهو شيطان ، وكان يقول : احذروا الأعور والأحول والأعرج والأحدب والأشقر والكوسج وكل من به عاهة في بدنه فإن فيه التواء ومعاشرته عسرة ، وكان يقول من طلب الرياسة فرت منه وكان يقول : ليس من المروة أن يخبر الرجل بسنه لأنه إن كان صغيرا استحقروه ، وإن كان كبيرا استهرموه ، وكان يقول : لينوا لمن يجفو فقل من يصفو ، وكان يقول من نظف ثوبه قل همه ، ومن طاب ريحه زاد عقله ، وكان يقول ما نصحت أحدا فقبل مني إلا هبته ، واعتقدت مودته ولا رد أحد علي النصح إلا سقط من عيني ورفضته ، وقال الربيع دخلت على الشافعي ليلة مات فقلت له : كيف أصبحت قال أصبحت من الدنيا راحلا ولإخواني مفارقا ولكأس المنية شاربا ، ولسوء أعمالي ملاقيا ، وعلى الكريم واردا ثم بكى . ومناقبه رضي الله عنه كثيرة مشهورة رضي الله تعالى عنه والله تعالى أعلم . ومنهم الإمام مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه كان رضي الله عنه رجلا طويلا عظيم الهامة أصلع أبيض الرأس واللحية شديد البياض ، وكان لباسه الثياب العدنية الجياد ، وكان إذا أراد أن يجلس لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل وتبخر وتطيب ومنع الناس أن يرفعوا أصواتهم ، وكان إذا دخل بيته يكون شغله المصحف وتلاوة القرآن ، وكان السلاطين تهابه ، وكان يكره حلق الشارب ويعيبه ويراه أنه من المثلة وكان يقول : بلغني أن العلماء يسألون يؤم القيامة عما يسئل عنه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكان يقول : مثل المنافقين في المسجد كمثل العصافير في القفص إذا فتح باب القفص طارت العصافير . ومكث رضي الله عنه خمسا وعشرين سنة لم يشهد الجامعة فقيل له : ما يمنعك من الخروج ؟ فقال : مخافة أن أرى منكرا أحتاج أن أغيره . قلت : وإنما سومح في ذلك أنه اجتهد ولو فعل ذلك غيره لا يقر على ذلك والله تعالى أعلم وكان يقول إذا مدح الرجل نفسه ذهب بهاؤه ، وكان رضي الله عنه إذا قال في المسألة لا أو نعم لا يقال له من أين قلت هذا . وأخذ رضي الله عنه العلم عن تسعمائة شيخ منهم ثلاثمائة من التابعين وكان يقول ليس العلم بكثرة الرواية إنما هو نور يضعه الله تعالى في القلب ، وقيل له ما تقول في طلب العلم ؟ فقال حسن جميل ولكن انظر ما يلزمك من حين تصبح إلى أن تمسي فالزمه . ولما ضربه جعفر بن سليمان في طلاق المكره وحمله على بعير قال : له ناد على نفسك فقال رضي الله عنه ألا من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا مالك بن أنس ، أقول طلاق المكره ليس بشيء فبلغ ذلك جعفرا فقال : أدركوه وأنزلوه وكان يقول بحق علي من طلب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية ، وكان رضي الله عنه يقول : لا ينبغي للعالم أن يتكلم بالعلم عند من لا يطيعه فإنه ذل وإهانة للعلم ، وكان يمشي في أزقة المدينة حافيا ماشيا ويقول : أنا أستحي من الله تعالى أن أطأ تربة فيها قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحافر دابة . وقال مالك رضي الله عنه : لمطرف ماذا يقول الناس في فقال : أما الصديق فيثني وأما العدو فيقع ، فقال : ما زال الناس هكذا لهم عدو وصديق ولكن نعوذ بالله من تتابع الألسنة كلها . وسئل رضي الله عنه عن معنى قوله تعالى : ' الرحمن على العرش استوى ' ' طه : 5 ' فعرق وأطرق وصار ينكت بعود في يده ثم رفع رأسه وقال : الكيف منه غير معقول والاستواء منه غير مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ، وأظنك صاحب بدعة وأمر به فأخرج . ولد سنة ثلاث وتسعين وتوفي سنة تسع وتسعين ومائة ودفن بالبقيع رضي الله تعالى عنه . ومنهم أبو حنيفة النعمان بن ثابت رضي الله تعالى عنه ولد سنة ثمانين من الهجرة وتوفي ببغداد سنة خمسين ومائة وهو ابن سبعين سنة ، وكان في زمنه أربعة من الصحابة أنس بن مالك وعبد الله بن أبي أوفى وسهل بن سعد وأبو الطفيل وهو آخرهم موتا ولم يأخذ عن واحد منهم . وأكره رضي الله عنه على تولية القضاء وضرب على رأسه ضربا شديدا أيام مروان فلم يل ولما أطلق قال : كان غم والدتي أشد من الضرب علي ، وكان أحمد بن حنبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر ذلك بكى ، وترحم عليه ، ثم أكرهه أبو جعفر بعد ذلك وأشخصه من الكوفة إلى بغداد فأبى وقال : لا أكون قاضيا ، فحبسه وتوفي في السجن رضي الله تعالى عنه وأخرجه المنصور مرات من الحبس يتوعده ، وهو يقول : يا منصور ، اتق الله ولا تول إلا من يخاف الله تعالى ، والله ما أنا مأمون في الرضا فكيف أكون مأمونا في الغضب ويقال إنه تولى القضاء يومين أو ثلاثة ثم مرض ستة أيام ثم مات . وقال ابن الجوزي دعا المنصور أبا حنيفة والثوري ومسعرا وشريكا ليوليهم القضاء فقال أبو حنيفة أخمن فيكم تخمينا أما أنا فأحتال وأتخلص ، وأما مسعر فيتحامق ويتخلص ، وأما سفيان فيهرب ، وأما شريك فيقع وكان الأمر كما قال ، وكان من تحامق مسعر أن قال للمنصور لما دخل عليه كيف حالك وكيف عيالك وكيف حميرك وكيف دوابك فقال : أخرجوه فإنه مجنون ولما بلغ سفيان عن شريك أنه تولى هجره وقال له قد أمكنك الهرب فلم تهرب ، وكان أبو حنيفة رضي الله عنه حسن الثياب طيب الريح كثير الكرم حسن المواساة لإخوانه كان يعرف بريح الطيب إذا أقبل وإذا خرج من داره ، وكان رضي الله عنه يقول : ما صليت قط إلا ودعوت لشيخي حماد ولكل من تعلمت منه علما أو علمته وكان الشافعي رضي الله عنه يقول : الناس عيال على أبي حنيفة رضي الله عنه في الفقه وكان لا ينام الليل وسموه الوتد لكثرة صلاته وصلى الصبح بوضوء العشاء أربعين سنة ، وكان رضي الله عنه لا يجلس في ظل جدار غريمه ويقول : كل قرض جر نفعا فهو ربا ، وكان عامة الليل يقرأ القرآن كله في كل ركعة وكان يسمع بكاؤه حتى يرحمه جيرانه ، وختم القرآن في الموضع الذي مات فيه سبعة آلاف مرة وقال عبد الله بن المبارك عن أبي حنيفة رضي الله عنه إنه صلى صلوات الخمس أربعين سنة بوضوء واحد وكان نومه عائما ساعة بين الظهر والعصر وفي الشتاء ساعة أول الليل وكان يقول إذا ارتشى القاضي فهو معزول وإن لم يعزله الإمام . وسئل رضي الله عنه أيما أفضل علقمة أو الأسود . فقال والله ما نحن بأهل أن نذكرهم فكيف نفاضل بينهم ، وكان يقول : سمعت عطاء يقول : ما من ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا ولله الحجة عليه إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ، وكان يقول : إنما سمي المرجئة بذلك لأنهم سئلوا عن حالة العصاة أين منزلتهم في الآخرة فقالوا أمرهم إلى الله تعالى فسموا مرجئة لإرجائهم أمر العصاة إلى الله تعالى ، فإن الكفار في النار والمؤمنين في الجنة ، وكان له جار يهودي وكانت قصبة بيت خلائه تنضح على بيت أبي حنيفة فمكث عشر سنين ، وهو يكنس كل يوم ما نزل في داره منها ، ويذهب به إلى الكوم ، ولم يعلم اليهودي قط فبلغ ذلك اليهودي فبكى ثم جاء وأسلم وكان رضي الله عنه يقول لو أن عبدا عبد الله تعالى حتى صار مثل هذه السارية ثم إنه لا يدري ما يدخل بطنه حلال أو حرام ما تقبل منه ، وكان يقول : جالست الناس منذ خمسين سنة فما وجدت رجلا غفر لي ذنبا ولا وصلني حين قطعته ولا ستر على عورة ولا ائتمنته على نفسي إذا غضب فالاشتغال بهؤلاء حمق كبير ، وكان يقول : لو لم تبغض الدنيا إلا لأن الله تعالى يعصى فيها لكانت تبغض وكان يقول الملح مع الخبز شهوة رضي الله عنه ورؤي رضي الله عنه بعد موته فقيل له ما فعل الله بك فقال غفر لي فقيل له بالعلم فقال هيهات إن للعلم شروطا وآدابا قل من يفعلها فقيل فبماذا غفر لك الله قال يقول الناس في ما ليس في ، وكان يقول : من هان عليه فرجه هان عليه دينه ، وكان يقول : إذا لم يتكلم العبد بما ظنه فلا إثم عليه ، وكان يقول : بلغني أنه ليس في الدنيا أعز من فقيه ورع ، وقال له رجل إني أحبك فقال وما يمنعك من محبتي ، ولست بابن عم لي ولا جاري وكان يقول الغوغاء هم القصاص الذين يستكلون أموال الناس ، وكان يقول : لا ينبغني للقاضي أن يترك على القضاء أكثر من سنة ، لأنه إذا مكث فيه أكثر من سنة ذهب فقهه . ومناقبه كثيرة مشهورة رضي الله عنه . ومنهم الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه كان رضي الله عنه يقول : طوبى لمن أحمل الله تعالى ذكره وكان يقول : رأيت رب العزة في المنام فقلت يا رب ما أفضل ما تقرب به المتقربون إليك فقال بكلامي يا أحمد ، فقلت بفهم أو بغير فهم قال بفهم وبغير فهم وكان رضي الله عنه إذا جاءه حديث وحده لم يحدثه حتى يكون معه غيره قلت وكذلك كان يحيى بن معين وعبد الله بن داود والله أعلم ، وكان رضي الله عنه يقول : تزوج يحيى بن زكريا عليهما السلام مخافة النظر ، وكان رضي الله عنه يضرب به المثل في اتباع السنة واجتناب البدعة ، وكان لا يدع قيام الليل قط ، وله في كل يوم وليلة ختمة وكان يسر ذلك عن الناس وقال أبو عصمة رضي الله عنه بت ليلة عند أحمد رضي الله عنه فجاءني بماء فوضعه ، فلما أصبح نظر إلى الماء كما هو فقال يا سبحان الله رجل يطلب العلم ولا يكون له ورد من الليل ، وكان يلبس الثياب النقية البياض ويتعهد شاربه وشعر رأسه وبدنه ، وكان مجلسه خاصا بالآخرة لا يذكر فيه شيء من أمر الدنيا وكان يأتي العرس والإملاك والختان ، ويأكل ، وتعرت أمه من الثياب ، فجاءته زكاة فردها ، وقال : العري لهن خير من أوساخ الناس ، وأنها أيام قلائل ثم نرحل من هذه الدار ، وكان إذا جاع أخذ الكسرة اليابسة فنفضها من الغبار ثم صب عليها الماء في قصعة حتى تبتل ثم يأكلها بالملح ، وكانوا في بعض الأوقات يطبخون له في فخارة عدسا وشحما ، وكان أكثر إدامه الخل ، وكان إذا مشى في الطريق لا يمكن أحدا يمشي معه ، ولما مرض عرضوا بوله على الطبيب فنظر إليه وقال هذا بول رجل قد فتت الغم والحزن كبده ، وكان يحيي الليل كله من منذ كان غلاما وكان من أصبر الناس على الوحدة لا يراه أحد إلا في المسجد أو جنازة أو عيادة ، وكان يكره المشي في الأسواق ، وكان ورده كل يوم وليلة ثلاثمائة ركعة فلما ضرب بالسياط ضعف بدنه فكان يصلي مائة وخمسين ركعة كل يوم وليلة ، وحج رضي الله عنه خمس حجات ثلاثا منها ماشيا وكان ينفق في كل حجة نحو عشرين درهما ولما قدم للسياط أيام المحنة أغاثه الله تعالى برجل يقال له أبو الهيثم العيار فوقف عنده وقال يا أحمد أنا فلان اللص ضربت ثمانية عشر ألف سوط لأقر فما أقررت ، وأنا أعرف أني على الباطل فاحذر أن تتقلق وأنت على الحق من حرارة السوط ، فكان أحمد كلما أوجعه الضرب تذكر كلام اللص ، وكان بعد ذلك لم يزل يترحم عليه ولما دخل أحمد على المتوكل قال المتوكل لأمه يا أماه قد نارت الدار بهذا الرجل ثم أتوا بثياب نفيسة فألبسوها له فبكى وقال : سلمت منهم عمري كله حتى إذا دنا أجلي بليت بهم وبدنياهم ثم نزعها لما خرج ، وكان رضي الله عنه يواصل الصوم فيفطر كل ثلاثة أيام على تمر وسويق ، وقال الفضيل بن عياض رضي الله عنه : حبس الإمام أحمد رضي الله عنه ثمانية وعشرين شهرا ، وكان فيها يضرب كل قليل بالسياط إلى أن يغمى عليه وينخس بالسيف ثم يرمى على الأرض ويداس عليه ولم يزل كذلك إلى أن مات المعتصم ، وتولى بصلى الله عليه وسلم الواثق فاشتد الأمر على أحمد وقال لا أسكن في بلد ألحد فيه فأقام مختفيا لا يخرج إلى صلاة ولا غيرها حتى مات الواثق وولي المتوصل فرفع المحنة عن أحمد وأمر بإحضاره وإكرامه وإعزازه وكتب إلى الآفاق برفع المحنة وإظهار السنة وأن القرآن غير مخلوق وخمدت المعتزلة وكانوا أشر الطوائف المبتدعة . قال أحمد بن عسال : ولما حملت مع أحمد إلى المأمون تلقانا الخادم وهو يبكي ويمسح دموعه وهو يقول : عز علي يا أبا عبد الله ما نزل بك قد جرد أمير المؤمنين سيفا لم يجرده قط وبسط نطعا لم يبسطه قط ثم قال وقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا رفعت السيف عن أحمد وصاحبه حتى يقولا القرآن مخلوق ، فجثا أحمد على ركبتيه ولحظ السماء بعينيه ودعا فما مضى الثلث الأول من الليل إلا ونحن بصيحة وضجة فأقبل علينا خادمه وهو يقول صدقت يا أحمد القرآن كلام الله غير مخلوق قد مات والله أمير المؤمنين ، وكان قد لقيه قبل أن يدخل المدينة رجل من العباد فقال : احذر يا أحمد أن يكون قدومك مشئوما على المسلمين فإن الله تعالى قد رضي بك لهم وافدا والناس إنما ينظرون إلى ما تقول فيقولون به فقال أحمد حسبنا الله ونعم الوكيل ، ولما سجنوه رضي الله عنه وضعوا في رجليه أربعة قيود وكان ابن أبي داود هو الذي تولى جدال أحمد عن الخليفة وقال للخليفة إن أحمد ضال مبتدع ثم يلتفت إلى أحمد ويقول قد حلف الخليفة ألا يقتلك بالسيف ، وإنما هو ضرب بعد ضرب إلى أن تموت ، فما زالوا بأحمد رضي الله عنه يناظرونه بالليل والنهار إلى أن ضجر فالخليفة من ذلك ، فلما طال بهم الحال قال ابن أبي دؤاد يا أمير المؤمنين اقتله ودمه في أعناقنا فرفع الخليفة يده ولطم بها وجه أحمد ، فخر مغشيا عليه ، فخاف الخليفة على نفسه وممن كان من الشيعة مع أحمد فدعا بماء فرش منه على وجه أحمد قال أحمد ولما قدمت إلى الضرب والناس بين يدي الخليفة قيام قال : لي إنسان أمسك رأس الخشبتين بيديك وشد عليهما فلم أفهم مقالته ، فتخلعت يداي قالوا ولم يزل أحمد رضي الله عنه يتوجع منهما إلى أن مات رضي الله عنه ولم يزالوا بعد الضرب يقطعون اللحم والجلد من مقاعد أحمد سنين عديدة إلى أن مات رضي الله عنه . وكان بشر بن الحارث رضي الله عنه يقول : امتحن أحمد بعدما أدخل الكير فخرج ذهبا أحمر . وقال الهيثم رضي الله عنه كان أحمد رضي الله عنه حجة الله على أهل زمانه والفضل حجة الله على أهل زمانه ، وهكذا الأمر في كل زمان ، وكان يقول إذا كان في الرجل مائة خصلة من الخير وكان يشرب الخمر محتها كلها ، وكان يقول : لا تكتبوا العلم عمن يأخذ عليه عرضا من الدنيا . ومرض جاره فلم يعده فقال له ابنه هلا تعود جارنا فقال يا بني إنه لم يعمنا حتى نعوده وكان رضي الله عنه يقول : لم يجئ لأحد من الصحابة في الفضائل ما جاء لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وأرسل له الخضر فقيرا فقال يا أحمد إن ساكني السماء ومن حول العرش راضون عنك بمن صبرت نفسك لله عز وجل ، ومناقبه كثيرة مشهورة . توفي رضي الله عنه سنة إحدى وأربعين ومائتين وقد استكمل سبعا وسبعين سنة . ولما مرض رضي الله عنه اجتمع الناس والدواب على بابه لعيادته حتى امتلأت الشوارع والدروب ، ولما قبض صاح الناس وعلت الأصوات بالبكاء وارتجت الدنيا لموته ، وخرج أهل بغداد إلى الصحراء يصلون عليه فحزروا من حضر جنازته من الرجال ثمانمائة ألف ومن النساء ستون ألف امرأة سوى من كان في الأطراف والسفن والأسطحة فإنهم بذلك يكونون أكثر من ألف ألف وفي رواية بلغوا الذي ألف وخمسمائة ألف ، وأسلم يومئذ عشرون ألفا من اليهود والنصارى والمجوس رضي الله تعالى عنه . ومنهم أبو محمد سفيان بن عيينة رضي الله عنه حفظ القرآن وهو ابن أربع سنين وكتب الحديث وهو ابن سبع سنين وكان يقول : من لا تنتفع به فلا عليك أن لا تعرفه وكتب مرة إلى أخ له أما آن لك يا أخي أن تستوحش من الناس ولقد أدركنا الناس وهم إذا بلغ أحدهم الأربعين سنة جن عن معارفه وصار كأنه مختلط العقل من شدة تأهبه للموت وكان إذا أعطاه الناس شيئا يقول أعطوه لفلان فإنه أحوج مني وكان يقول : من صبر على البلاء ورضي بالقضاء فقد كمل أمره وكان يقول : بحسب امرئ من الشر أن يرى من نفسه فسادا لا يصلحه ، وكان يقول : خصلتان يعسر علاجهما ترك الطمع فيما بأيدي الناس ، وإخلاص العمل لله ، وكان يقول : إذا كان نهاري نهار سفيه وليلي ليل جاهل فماذا أصنع بالعلم الذي كتبت ، وكان يقول بمن زيد في عقله نقص من رزقه ، وكان يقول : لا إله إلا الله بمنزلة الماء في الدنيا فمن لم يكن معه لا إله إلا الله فهو ميت ومن كانت معه فهو حي ، وكان يقول : ما أنعم الله عز وجل على العباد نعمة أفضل من أن عرفهم لا إله إلا الله وإن لا إله إلا الله في الآخرة كالماء في الدنيا ، وكان يقول : فسر حديث : ' من كشنا فليس منا ' ونحوه على أن المراد ليس هو على هدينا وحسن طريقتنا فقد أساء الأدب فإن السكوت عن تفسيره أبلغ في الزجر وكان رضي الله عنه يقول : الزهد في الدنيا هو الصبر وارتقاب الموت ، وقال : حرملة أخرج لي سفيان بن عيينة رغيف شعير من كمه ، وقال لي : دع ما يقوله الناس فإنه طعامي منذ ستين سنة ، وكان رضي الله عنه يقول : ليس من حب الدنيا طلبك ما لا بد منه ، وكان يقول : ماء زمزم بمنزلة الطيب لا يرد ، وكان يقول : إذا كانت نفس المؤمن متعلقة بدينه حتى يقضي فكيف بصاحب الغيبة فإن اللين يقضي والغيبة لا تقضي ولو أن رجلا أصاب من مال رجل شيئا ثم تورع عنه بعد موته فجاء به إلى ورثته لكنا نرى أن ذلك كفارات له ولو أنه اغتابه ثم تورع وجاء بعد موته إلى ورثته وإلى جميع أهل الأرض فجعلوه في حل ما كان في حل فعرض المؤمن أشد من ماله ، وكان يقول : وصى الخضر موسى عليهما السلام أن لا يعير أحدا بذنب ، وكان رضي الله عنه يقول : إن للأنبياء عليهم الصلاة والسلام سرا وللعلماء رضي الله عنهم سرا ، وإن للملوك سرا فلو أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أظهروا سرهم للعامة لفسدت النبوة ، ولو أن العلماء رضي الله عنهم أظهروا سرهم للعامة لفسدت عليهم ، ولو أن الملوك أظهروا سرهم للعامة لفسد ملكهم ، وكان رضي الله عنه يقول العلم إن لم ينفعك ضرك وكان إذا فرغ من صلاته يقول : اللهم اغفر لي ما كان فيها وكان يقول : لا يكون طالب العلم عاقلا حتى يرى نفسه دون كل المسلمين وكان يقول : إذا لم تصل حقك إلا بالخصومة والسلطان فدعه لما ترجو من سلامة دينك وكان يقول : كم من شخص يظهر الزهد في الدنيا والله مطلع على قلبه أنه محب لها ، وكان رضي الله عنه يقول كتمان الفقر مطلوب لأنه من الأعمال الصالحة وذلك من أشد ما يكون على النفس وكان رضي الله عنه بقول : الجهاد عشرة فجهاد العدو واحد وجهاد النفس تسعة وكان رضي الله عنه يقول : إنما عرفوا لأنهم أحبوا أن لا يعرفوا ، وكان يقول : ائتوا الصلاة قبل النداء ولا تكونوا كالعبد السوء لا يأتي للصلاة حتى يدعى إليها ، وكان رضي الله عنه يقول : ما عليك أضر من علم لا تعملي به وكان يقول : شرار من مضي عام أول خير من خياركم اليوم ، وكان رضي الله عنه يقول : أن الزمان الذي يحتاج الناس فيه إلى مثلنا لزمان سوء . ولد رضي الله عنه في الكوفة سنة سبع ومائة وسكن مكة وتوفي فيها سنة ثمان وتسعين ومائة ودفن بالحجون وهو ابن إحدى وتسعين سنة رضي الله عنه . ومنهم شعبة بن الحجاج رضي الله تعالى عنه ورحمه كانوا يسمونه أمير المؤمنين في الرواية والحديث : وكان رضي الله عنه يقول : والله أن الشيطان صار يلعب بالقراء كما يلعب الصبي بالجوز فكيف بغير القراء ، وكان قد عبد الله تعالى حتى جف جلده على عظمه فليس بينهما لحم ، وكان يصوم الدهر كله ، وكان يعيب على من يلبس ثوبا بثمانية دراهم ويقول هلا اشتريت قميصا بأربعة وتصدقت بأربعة فقيل له إنا مع قوم نتجمل لهم ، فقال : أيش نتجمل لهم ، وكان إذا مر بسائل يذهب إلى البيت فيخرج له كل ما وجده ، وكان يقول : لأصحابه : لولا سؤالي للمحاويج والفقراء ما جلست مع أحد وكانت ثيابه شعبة لونها لون التراب ، وكان إذا حك جلده انتثر منه التراب ، وكان رضي الله عنه إذا لم يجد شيئا عيه للسائل أعطاه حماره ومشى ، وكان إذا قعد في زورق أعطى الأجرة عن جميع من فيه ، وقوموا حمار شعبة وسرجه ولجامه بسبعة عشر درهما ، وقوموا ثيابه فلم تساو عشرة دراهم ، وهي قميص وإزار ورداء وأرسل له المهدي ثلاثين ألف درهم ففرقها في المجلس ولم يأخذ منها درهما ، وإن أهله لمحتاجون إلى رغيف . توفي رضي الله عنه بالبصرة وهو ابن سبع وتسعين سنة ، سنة ستين ومائة ، والله أعلم . ومنهم مسعر بن كدام بكسر الكاف رضي الله عنه وكان يقول : إن لله تعالى عبادا لو يعلمون بما ينزل القدر لاستقبلوه استقبالا حبا لربهم ولقدره ، فكيف يكرهونه بعد ما وقع ، وكان إذا فتح المصحف ورأى فيه قصة قوم عذبهم الله يقول : إلهي قد دخلت رحمتهم قلبي فإن شئت فاغفر لي وإن شئت عذبني وكان يقول لا تقعدوا فراغا فإن الموت يطلبكم وكان ينشد الشعر عقب الصلاة ، ويقول : إن النفس تكون هكذا وهكذا وسئل رضي الله عنه من أفقه أهل المدينة فقال : أفقههم أتقاهم لله عز وجل ، وكان لا ينام كل ليلة حتى يقرأ نصف القرآن فإذا فرغ من ورده لف رداءه ثم هجع هجعة خفيفة ، ثم يثب مرعوبا كالرجل الذي ضل منه شيء عزيز فهو يطلبه فيستاك ثم يتطهر ويستقبل القبلة إلى الفجر ، وكان رضي الله عنه يجتهد في إخفاء عمله وكان يقول : أشتهي أن أسمع صوت باكية حزينة وقيل له أتحب أن يخبرك الرجل بعيوبك فقال : إن كان ناصحا فنعم وإن كان يريد أن ينقصني فلا وكان رضي الله عنه إذا خطر على باله يوم القيامة يبكي حتى يرثي له الحاضرون ، وكان رضي الله عنه يخدم أمه ويقول : لولا أمي ما فارقت المسجد إلا لما لا بد منه ، وكان رضي الله عنه : إذا دخل بكى وإذا خرج بكى وإذا صلى بكى وإذا جلس بكى . ودخل عليه سفيان الثوري رضي الله عنه في مرض موته فقال له : ما هذا الجزع يا مسعر والله لوددت أني مت الساعة فقال له مسعر رضي الله عنه إنك إذن لواثق بعملك يا سفيان لكني والله كأني على شاهق جبل لا أدري أين أهبط فبكى سفيان رضي الله عنه وقال : أنت أخوف لله عز وجل مني يا أخي ، وكان سفيان إذا حدث عنه يقول : أخبرني أبو سلمة بقول يستحي أن يقول مسعر وكان في جبهته مثل ركبة العنز من السجود ، وكان يقول : لا ينبغي أن يثني علي عالم وهو يقبض جوائز السلطان ويبني بيته بالآجر . وطلبت أمه بعد العشاء شربة ماء فخرج فجاء بالكوز فوجدها نامت فبقي الكوز على يده إلى الصباح ينتظر استيقاظها . ولما طلبه أبو جعفر المنصور ليوليه القضاء قال له : مهلا يا أمير المؤمنين إن أهلي يطلبون حاجة بدرهم فأقول لهم أنا أشتري لكم فيقولون لا نرضى بشرائك فإذا كان أهلي لا يرضون بشرائي لهم حاجة بدرهم يوليني أمير المؤمنين القضاء فأعفاه وقال له : لو كان في المسلمين مثلك يا مسعر لخرجت إليه ماشيا ، وكان يقول : من يرضى بالخل والبقل لم يستعبده الناس ، وكان يقول : مضاحكة الوالدين على الأسرة أفضل من مجاهدة السيوف في سبيل الله تعالى وكان إذا جاءه أحد يسأله الدعاء يقول له : ادع أنت حتى أؤمن أنا فإن الدعاء من صاحب الحاجة . قلت : وهكذا بلغنا عن معروف الكرخي وكان مشهورا بإجابة الدعوة والله تعالى أعلم وكان يقول شكوى العارف للطبيب ليست شكوى في ربه لأنه إنما يذكر للطبيب قدرة الله فيه وكان رضي الله عنه يقول : اللهم من ظن بنا خيرا أو ظننا به خيرا فصدق ظننا وظنه ويبكي ، وكان يقول : قيام الليل نور للمؤمن يوم القيامة يسعى بين يديه ومن خلفه وصيام النهار يبعد العبد من جر السعير ، وكان كثير البكاء فقيل له : في ذلك فقال وهل خلقت النار إلا لمثلي وكان يدعو على من آذاه أن يجعله الله محدثا أو مفتيا ، وكان رضي الله عنه يقول : ينادي مناد يوم القيامة يا مادح الله قم فلا يقوم إلا من كان يكثر قراءة قل هو الله أحد ، وكان يقول أعرف الناس بعور الناس الأعور . توفي رضي الله عنه بالكوفة سنة خمس وخمسين ومائة رضي الله عنه . ومنهم علي والحسين ابنا صالح بن حي رضي الله تعالى عنهما كانا من العباد والزهاد وقسما الليل ثلاثة أجزاء فكان علي يقوم الثلث ثم ينام ، ويقوم بعده الحسين ثم ينام وتقوم أمهما الثلث الآخر ، فلما ماتت قسما ثلثها عليهما . فكانا يقومان الليل كله ، ثم مات علي فقام الحسين الليل كله وكان كل واحد يقرأ في قيامه بثلث القرآن ، كذلك فلما ماتت أمه وعلي كان الحسين يختم كل ليلة القرآن ، وكان الحسين رضي الله عنه إذا لم يجد شيئا يعطيه للسائل في داره يعطيه شعلة نار ويقول : امض بها إلى منزل قوم عسى أن يعطوك شيئا فتتبلغ به ، وكان إذا أراد أن يغط أحدا لا يشافهه بالوعظ ، وإنما يكتب ذلك إليه في ورقة ويدفعها ، وكان رضي الله عنه يقول : صاحب التخليط لا يفلح أبدا ، وسأله رجل عن الدليل على قولهم الكريم لا يستقصي فقال : دليله قوله تعالى : ' عرف بعضه وأعرض عن بعض ' ' التحريم : 3 ' وكان يقول : إذا لم يخش العالم ربه فليس بعالم ، وكان يقول : لا ينبغي لمؤمن أن لا يأكل ولا يشرب ولا يتكلم ولا يمشي إلا بنية صالحة . وكان رضي الله عنه يقول : أنا أستحي من الله تعالى أن أتكلف النوم حتى يكون النوم هو الذي يصرعني ، وكان لا يقبل من أحد شيئا ، وكان يقول : قال سعيد بن المسيب من لزم المسجد وقبل كل ما يعطاه فقد ألح في المسألة ، وكان رضي الله عنه يقول : أول من نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل فارس جني في صورة كلب ، وذلك أنه أتى إلى كلب من كلاب فارس ، فقال : أطعمني وأنا أخبرك خبرا فأطعمه ، فقال محمد صلى الله عليه وسلم مات ، قال رضي الله عنه : وسئل سعيد بن المسيب رضي الله عنه ما يستر المصلي ، قال : التقوى قيل فما يقطع الصلاة قال بالفجور وكان ولده يجيء إليه في المسجد فيقول : أنا جيعان فيعلله حتى يروح ، وكانت له جارية يأكل من غزلها الخبز الشعير ، وكان رضي الله عنه يتخم الدم من شدة الخوف ، وكان يقول فتشنا الورع فلم نجده في شيء أقل منه في اللسان ، وكان إذا أشرف على المقابر يخر مغشيا عليه ، وكان إذا ذهب إلى جنازة ورأى الميت وهم يدخلونه القبر يغشى عليه فلا يرجع إلا محمولا في سرير الميت ، وكان إذا بكى سمع الناس صراخه كبكاء أهل المصائب ، وكان يقول : العمل بالحسنة قوة في البدن ونور في القلب وضوء في البصر ، والعمل بالسيئة وهن في البدن ، وظلمة في القلب ، وعمى في البصر ، وكان يقول : لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يفرح إذا زوى الله عنه الدنيا وأعطاها لأقرانه . توفي علي رضي الله عنه بالكوفة سنة أربع وخمسين ومائة ، وتوفي بعده الحسين بثلاث عشرة سنة رضي الله عنهما . ومنهم عبد الله بن المبارك رضي الله تعالى عنه ورحمه آمين ولد رضي الله عنه سنة ثمان عشرة ومائة ، وكانوا يقدمونه في الأدب على سفيان الثوري رضي الله عنه ، وكان سفيان الثوري رضي الله عنه يقول : جهدت جهدي على أن أدوم ثلاثة أيام في السنة على ما عليه ابن المبارك فلم أقدر ، وكان يقدم النظر في سير الصحابة والتابعين على مجالسة علماء عصره ، وكان يقول : إذا كانت سنة مائتين ففروا من الناس إلا لحضور واجب ، وكان يقول : إذا تعلم أحدكم من القرآن ما يقيم به صلاته فليشتغل بالعلم فإن به تعرف معاني القرآن ، وكان رضي الله عنه يقول : ما بقي في زماننا أحد أعرف أنه يأخذ النصيحة بانشراح قلب ، وكان يقول : من شرط العالم أن لا تخطر محبة الدنيا على باله . وقيل له من سفلة الناس ، قال : الذين يتعيشون بدينهم ، وكان يقول : كيف يدعي رجل أنه أكثر علما وهو أقل خوفا وزهدا ، وكان رضي الله عنه يقول : من علامة من عرف نفسه أن يكون أذل من الكلب ، وكان يقول : من ختم نهاره بذكر ، كتب نهاره ذاكرا ، وكان يتحرى هذا العمل ، وكان يقول : رب عمل صغير تعظمه النية ورب عمل كبير تصغره النية ، وكان رضي الله عنه يتمثل بهذين البيتين من كلامه : وهل بدل الدين إلا الملوك . . . وأحبار سوء ورهبانها لقد رتع القوم في جيفة . . . يبين لذي العلم إنتانها وكان رضي الله عنه يقول : مسكين ابن آدم ، قد وكل به خمسة أملاك ملكان بالليل وملكان بالنهار يجيئان ويذهبان والخامس لا يفارقه ليلا ولا نهارا ، وكان إذا اشتهى شيئا لا يأكله إلا مع ضيف ويقول : بلغنا أن طعام الضيف لا حساب عليه قالوا : وكانت سفرة المبارك تحمل على عجلة أو عجلتين وقال : أبو إسحاق الطالقاني رأيت بعيرين مملوءين دجاجا مشويا لسفرة ابن المبارك وكان رضي الله عنه يطعم أصحابه الفالوذج والخبيص ويظل هو نهاره صائما ، وما دخل رضي الله عنه الحمام قط ، وقيل له مرة قد قل المال فقلل من صلة الناس . فقال : إن كان المال قد قل فإن العمر قد نفد ، وكان رضي الله عنه يقول : أربع كلمات انتخبن من أربعة آلاف حديث لا تثقن بامرأة ولا تغترن بمال ولا تحمل معدتك ما لا تطيق وتعلم من العلم ما ينفعك فقط ، وكان إذا بلغه عن أصحابه أنهم أضافوا إليه مسألة يرسل إليهم بكشطها بالسكين ، ويقول : من أنا حتى يكتب قولي ، وكان يقول : كن محبا للخمول كارها للشهرة ، ولا تحب من نفسك أنك تحب الخمول فترفع نفسك ، وكان يقول دعواك الزهد من نفسك يخرجك عن الزهد ، وكان يقول سلطان الزهد ، أعظم من سلطان الرعية لأن سلطان الرعية لا يجمع الناس إلا بالعصا ، والزاهد ينفر من الناس فيتبعوه ، ولما قدم هارون الرشيد الرقة ورد عبد الله بن المبارك فانجفل الناس إليه وتقطعت النعال وارتفعت الغبرة فأشرفت أم ولد أمير المؤمنين من برج قصر الخشب ، فلما رأت الناس وكثرتهم قالت : ما هذا قالوا عالم خراسان فقالت : والله هذا هو الملك لا ملك هارون الرشيد الذي يجمع الناس إليه بالسوط والعصا والشرط والأعوان ، وكان إذا قرأ شيئا من كتب الوعظ كأنه بقرة منحورة من البكاء لا يجترئ أحد يدنو منه ولا يسأله عن شيء ، وقيل له إن جماعة من أهل العلم يأخذون من الناس الزكوات فقال : فما نصنع إن منعناهم ، وقفوا عن طلب العلم وهان رخصنا لهم حصلوا العلم وتحصيل العلم أفضل ، وكان يقول : لأن أرد درهما من شبهة أحب إلي من أن أتصدق بستمائة ألف ألف ، وقيل له ما التواضع قال التكبر على الأغنياء ، وبلغ ابن المبارك عن إسماعيل بن علية أنه قد ولي الصدقات فكتب إليه ابن المبارك : يا جاعل العلم له بازيا . . . يصطاد أموال السلاطين احتلت للدنيا ولذاتها . . . بحيلة تذهب بالدين فصرت مجنونا بها بعدما . . . كنت دواء للمجانين أين رواياتك والقول في . . . لزوم أبواب السلاطين إن قلت كرهت فما هكذا . . . زل حمار الشيخ في الطين وذكر لعبد الله ما كان عليه يوسف بن أسباط من العبادة فقال : لقد ذكرتم قوما يستشفي بذكرهم ولكن إن فعل الناس جميعهم ذلك فمن لسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن لعيادة المرضى وشهود الجنائز ، وعد أنواعا من القرب وقيل له : كيف تعلم الملائكة أن الإنسان قد هم بحسبه ؟ فقال رضي الله عنه يجدون ريحها ، وكان يقول : عجبت طالب العلم كيف تدعوه نفسه إلى محبة الدنيا مع إيمانه بما حمل من العلم ، وكان يقول : إن الرحمة تنزل عند ذكر الصالحين . ورجع رضي الله عنه من مرو إلى الشام في رد قلم كان أستعاره ونسيه في رحله ، وكان يقول : كاد الأدب أن يكون ثلثي الدين وكان قليل الخلاف على أصحابه وينشد : وإذا تصحب فاصحب ماجدا . . . ذا عفاف وحياء وكرم قوله للشيء لا إن قلت لا . . . وإذا قلت نعم قال نعم وكان يقول على العاقل أن لا يستخف بثلاثة : العلماء والسلطان والإخوان فإن من استخف بالعلماء ذهبت آخرته ومن استخف بالسلطان ذهبت دنياه ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته . وكان يقول : لا يقول أحدكم ما أجرأ فلانا على الله تعالى فإن الله تعالى أكرم من أن يجترأ عليه ، ولكن ليقل ما أغر فلانا بالله ، وكان يقول : محارم الرجال في اللحى والأكمام ومحارم النساء تحت القميص ، وكان يقول ليس من الدنيا إلا قوت اليوم فقط . وكان يقول ما أودعت قلبي شيئا قط فخانني . وكان ينشد إذا ودع شخصا . وهون وجدي أن فرقة بيننا . . . فراق حياة لا فراق ممات وكان رضي الله عنه يقول : لا يخرج العبد عن الزهد إمساك الدنيا ليصون بها وجهه عن سؤال الناس وقيل له : إن شيبان يزعم أنك مرجئ ، فقال : كذب شيبان أنا خالفت المرجئة في ثلاثة أشياء فإنهم يزعمون أن الإيمان قول بلا عمل ، وأنا أقول هو قول وعمل ، ويزعمون أن تارك الصلاة لا يكفر وأنا أقول : إنه يكفر ، ويزعمون أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وأنا أقول إنه يزيد وينقص . توفي رضي الله عنه سنة إحدى وثمانين ومائة ودفن بهيت مدينة معروفة على الفرات لما رجع من الغزو وكانت إقامته بخراسان رضي الله عنه ومولده سنة ثمان عشرة ومائة رضي الله عنه . ومنهم عبد العزيز بن أبي رواد رضي الله تعالى عنه ذهب بصره عشرين سنة فلم يعلم به أهله ولا ولده وقال شعيب بن حرب جلست إلى عبد العزيز خمسمائة مجلس ما أحسب أن صاحب الشمال كتب عليه شيئا ، وقال : يوسف بن أسباط مكث عبد العزيز أربعين سنة لم يرفع طرفه إلى السماء ، وقيل له : كيف أصبحت فبكى ، فقيل له : في ذلك فقال : كيف حال من هو في غفلة عظيمة عن الموت مع ذنوب كثيرة قد أحاطت به وأجل يسرع كل ساعة في عمره ولا يدري أيصير إلى جنة أم إلى نار . توفي رضي الله عنه بمكة سنة تسع وخمسين ومائة . ومنهم أبو العباس بن السماك رضي الله تعالى عنه كان يقول من شرط الزاهد أن يفرح بتحويل الدنيا عنه وكان يقول : قد صمت الآذان في زماننا هذا عن المواعظ وذهلت القلوب عن المنافع فلا الموعظة تنفع ولا الواعظ ينتفع ، وكان يقول : يا أخي هب أن الدنيا كلها في يديك فانظر ما في يديك منها عند الموت ، وكان يقول : كم من مذكر لله تعالى وهو له ناس وكم من داع إلى الله تعالى وهو فار من الله تعالى وكم من تال لكتاب الله تعالى وهو منسلخ من آيات الله تعالى . وتوفي رضي الله عنه بالكوفة سنة ثلاث وثمانين ومائة . ومنهم أبو عبد الرحمن محمد بن النضر الحارثي رضي الله عنه كان كثير العبادة راقبه شخص أربعين يوما وليلة فما رآه نائما لا ليلا ولا نهارا ، وقال يوسف بن أسباط شهدت غسل أبي عبد الرحمن حين مات فلو أخرج كل لحم عليه ما بلغ رطلا ، وشغلته العبادة عن الرواية فكان إذا ذكر الآخرة اضطربت مفاصله ويقول : يا سلام سلم رضي الله عنه . ومنهم محمد بن يوسف الأصفهاني رضي الله تعالى عنه كان ابن المبارك رضي الله عنه يسميه عروس العباد والزهاد ، وكان يقول : لنفسه هب أنك قاض فكان يكون ماذا ؟ هب أنك عالم فكان يكون ماذا ؟ هب أنك محدث فكان يكون ماذا ؟ الأمر من وراء ذلك ، وكان إذا رأى نصرانيا كرمه وأضافه وأتحفه يبتغي بذلك ميله إلى الإسلام وكان رضي الله عنه يقول : ذهب أصحابنا إلى رحمة الله تعالى ودفنا نحن إلى حشوش هذه الدنيا ، وبعثوا إليه بمال ليفرقه فأبى وقال : السلامة مقدمة وكان رضي الله عنه لا ينام الليل لا شتاء ولا صيفا لكن يتمدد بعد طلوع الفجر ساعة ثم يقوم ويتوضأ وكان إذا أصبح كأن وجهه وجه عروس . توفي رضي الله عنه وهو ابن نيف وثلاثين سنة في سنة أربع وثمانين ومائة رضي الله عنه . ومنهم يوسف بن أسباط رضي الله تعالى عنه كان يقول غاية التواضع أن تخرج من بيتك فلا ترى أحدا إلا رأيت أنه خير منك ، وكان رضي الله عنه يقول : لو أن شخصا ترك الدنيا كما تركها أبو ذر وأبو الدرداء ما قلت له زاهدا ، وذلك أن الزهد لا يكون لا في الحلال المحض والحلال المحض لا يعرف اليوم وأقام أربعين سنة ليس له إلا قميصان إذا غسل أحدهما لبس الآخر ، وكان يعمل الخوص بيده ويتقوت حتى مات رضي الله عنه . ومرض مرة فأتوه بطبيب من أطباء الخليفة وهو لا يعلم فلما أراد الانصراف أعلموه فقال له : ما عادته فقالوا دينار فقال : أعطوه هذه الصرة ففتحوها فإذا فيها خمسة عشر دينار ، فقال : أعطوها له ، وقال : إنما فعلت ذلك لئلا يعتقد أن الخليفة كبر مروءة من الفقراء ، وكان يقول : ما أحسب أن أحدا يفر من الشر إلا وقع في أشر منه فاصبروا حتى يحوله الله تعالى عنكم بفضله ، وكان يقول : من قرأ القرآن ثم مال إلى محبة الدنيا فقد اتخذ آيات الله هزوا ، وكان يقول العالم يخشى أن يكون خير أعماله أضر عليه من ذنوبه ، وكان رضي الله عنه يقول : دخلت المصيصة فأقبل أهلها علي فما وجدت قلبي إلا بعد سنتين . توفي سنة نيف وتسعين ومائة وليس على جسمه أوقية لحم رضي الله تعالى عنه . ومنهم حذيفة المرعشي رضي الله تعالى عنه ورحمه كان رضي الله عنه يقول : والله لو قال لي إنسان والله ما عملك عمل من يؤمن بيوم الحساب ، لقلت له صدقت فلا تكفر عن يمينك ، وكان يقول إن لم تخف أن يعذبك الله على خير أعمالك فأنت هالك ، وكان يقول : لولا أخشى أن أتصنع لأخي فلان لاجتمعت به ولكن بلغوه عني السلام وكان يقول لا أعلم شيئا من أعمال البر أفضل من لزوم المرء بيته ولو كانت لي حيلة في عدم الخروج إلى هذه الفرائض تخلصني لفعلت . توفي رضي الله عنه سبع ومائتين . ومنهم اليمان بن معاوية الأسود رضي الله تعالى عنه كان يقول : كل إخواني خير مني لأنهم كلهم يرون لي الفضل عليهم ، وكان يقول : يقبح علي حامل القرآن أن يسعى في تحصيل أقل من جناح بعوضة أو يزاحم عليها ، وكان قد ذهب بصره فكان إذا أراد أن يقرأ في المصحف رد الله عليه بصره فإذا رد المصحف ذهب بصره واستطال شخص في عرضه فمنعه الناس ، فقال دعوه يشتفي ثم قال : اللهم اغفر لي الذنب الذي سلطت به على هذا وكان يلتقط الخرق من المزابل ويغسلها ثم يطبقها على بعضها ويستر بها عورته ، ويقول : أمامنا اللبس إن شاء الله في دار البقاء ، رضي الله تعالى عنه . ومنهم مسلم بن ميمون الخواص رضي الله تعالى عنه مات بطبرية رضي الله عنه وكان رضي الله عنه يقول : كنت أقرأ القرآن فلا أجد له حلاوة فقلت لنفسي اقرئيه كأنك تسمعينه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءت حلاوته ، ثم أردت زيادة فقلت اقرئيه كأنك تسمعينه من جبريل عليه السلام ينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم فزادت حلاوته ، ثم قلت اقرئيه كأنك تسمعينه من رب العالمين فجاءت الحلاوة كلها ، وكان يقول : عن طلب الحلال لم يجد رغيفا كاملا يخرجه لضيف رضي الله عنه . ومنهم أبو عبيدة الخواص رضي الله تعالى عنه كتب مرة إلى إخوانه إنكم في زمان قل فيه الورع وحمل العلم فيه مفسدة ، وأحبوا أن يعرفوا بحمله وكرهوا أن يعرفوا بإضاعة العمل به فنطقوا فيه بالرأي ليزينوا ما دخلوا فيه من الخطايا فذنوبهم ذنوب لا يستغفر منها ، ومكث رضي الله تعالى عنه سبعين سنة لم يرفع بصره إلى السماء حياء من الله عز وجل ، وكان لا يستطيع أن يقرأ سورة القارعة ولا أن تقرأ عليه رضي الله تعالى عنه . ومنهم أبو بكر بن عياش رضي الله تعالى عنه ورحمه كان رضي الله تعالى عنه يقول : مسكين محب الدنيا يسقط منه درهم فيظل نهاره يقول : إنا لله وإنا إليه راجعوا وينقص عمر ، ودينه ولا يحزن عليه ، وكان يقول : أدنى ضرر المنطق الشهرة وكفى بها بلية وكان زاهدا ورعا وكان رضي الله عنه يقول : رأيت عجوزا مشوهة حدباء تصفق بيديها وحواليها خلق يتبعونها ويصفقون فلما جاوزتني أقبلت علي وقالت آه لو ظفرت بك صنعت بك ما صنعت بهؤلاء ثم بكى ، وكان يقول ختمت ثمانية وعشرين ألف ختمة وأود لو كانت سببا للصفح عن زلة واحدة وقعت فيها . توفي رضي الله عنه سنة ثلاث وتسعين ومائة وله ثلاث وتسعون سنة رضي الله تعالى عنه . ومنهم أبو علي الحسين بن يحيى النخشبي رضي الله تعالى عنه ورحمه كان رضي الله عنه يقول : ما في جهنم من دار ولا مغار ولا قيد ولا غل ولا سلسلة إلا واسم صاحبها مكتوب عليها فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وكان رضي الله عنه يقول من حكمة لقمان : لا يطأ بساطك إلا راغب أو راهب فأما الراهب منك فأدن مجلسه وتهلل في وجهه وإياك والغمز من ورائه وأما الراغب فيك فأظهر له البشاشة مع صفاء الباطن وأبذل له النوافل قبل السؤال فإنك متى ألجأته إلى السؤال أخذت من حر وجهه ضعفي ما أعطت رضي الله تعالى عنه . ومنهم وكيع بن الجراح رضي الله تعالى عنه ورحمه وكان رضي الله تعالى عنه يقول : الزهد لا يكون إلا في الحلال والحلال قد فقد فأنزل الدنيا بمنزلة الميتة وخذ منهاه يقيمك فإن كانت حلالا كنت قد زهدت فيها وإن كانت حراما كنت أخذت منها ما يقيمك لأنه هو الذي يحل لك منها وإن كانت شبهات كان عتابها يسيرا . قلت : وقوله فقد أي بالنظر لحاله ومقامه فإنهم كانوا يعمون التفتيش لعاشر يد قبله واجبا ومن لم يفتش لعاشر يد لا يأكلون له طعاما والله تعالى أعلم ، وكان رضي الله عنه يقول : طريق الله بضاعة لا يرتفع فيها إلا صادق وكان يصوم الدهر ويختم القرآن كل ليلة ، وكان إذا آذاه شخص يرفع التراب علي رأس نفسه ، ويقول : لولا ذنبي ما سلطت هذا علي ثم يكثر من الاستغفار حتى يسكن ذلك المؤذي عنه . ولد رضي الله عنه سنة تسع وعشرين ومائة وتوفي سنة سبع وتسعين ومائة ودفن بطريق العراق حين رجع من الحج وله ست وستون سنة رضي الله تعالى عنه . ومنهم عبد الرحمن بن مهدي رضي الله تعالى عنه كان رضي الله تعالى عنه يختم القرآن كل ليلة ويتهجد بنصف القرآن ، وكان إخوانه إذا جلسوا عنده كأنما على رؤوسهم الطير ، وضحك واحد منهم في حلقته يوما فقال : يطلب أحلى كم العلم وهو يضحك ، لا يجلس هذا معي شهرين ، فمنعه حضور شهرين ، ثم استغفر فقال له : إنما ينبغي طلب العلم والعبد يبكي لأنه يريد به إقامة الحجة على نفسه وقل أن يريد به العمل وقام ليلة إلى الصباح ثم رمى بنفسه على الفراش فنام من لينه عن صلاة الصبح فمنع الفراش شهرين وكان يقول لا أغبط اليوم إلا مؤمنا في قبره . ولد سنة خمس وثلاثين ومائة وتوفي سنة ثمان وتسعين ومائة رضي الله تعالى عنه . ومنهم محمد بن أسلم الطوسي رضي الله تعالى عنه كان يقول عليكم باتباع السواد الأعظم قالوا له من السواد الأعظم ، قال : هو الرجل العالم أو الرجلان المتمسكان بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وطريقته ، وليس المراد به مطلق المسلمين ، فمن كان مع هذين الرجلين أو الرجل وتبعه فهو الجماعة ، ومن خالفه فقد خالف أهل الجماعة ، وكان يخفي عمله التطوع ويقول لو أمكنني أن أخفيه عن الملكين لفعلت ، وكان إذا دخل داره يبكي حتى يرحمه جيرانه فإذا خرج غسل وجهه واكتحل ، وكان يخرج بصدقته بالليل وهو متلثم لا يعرفه أحد ، وكان يأكل الشعير الأسود ويقول : أنه يصير إلى الكنيف يعني البطن ، وكان يقول : لو أن أحدكم اشترى طعاما وبالغ في طيب طعمه ورائحته ، ثم ألقاه في الحش لقلتم هذا مجنون وأحدكم ليلا ونهارا يطرح ذلك في الحش يعني بطنه فلا يضحك على نفسه . توفي رضي الله تعالى عنه سنة ست وعشرين ومائتين رضي الله تعالى عنه . ومنهم محمد بن إسماعيل البخاري رضي الله تعالى عنه كان رضي الله تعالى عنه من العلماء العاملين تستنزل الرحمة عند ذكره كان صائم الدهر وجاع حتى انتهى أكله كل يوم إلى تمرة أو لوزة ورعا وحياء من الله تعالى في تردده إلى الخلاء . ولد رضي الله عنه ببخاري سنة أربع وتسعين ومائة . وتوفي رضي الله عنه ليلة الفطر سنة ست وخمسين ومائتين ودفن بخرتنك قرية على فرسخين من سمرقند ، وكان رضي الله عنه يقول : المادح والذام من الناس عندي سواء ، وكان يقول : أرجو أن ألقى الله تعالى ولا يطالبني أني اغتبت أحدا وما اشترى شيئا ولا باعه قط وكان ورعا زاهد كان ينام في الظلام وربما قام في الليل نحو العشرين مرة يقدم الزناد ويسرج ويكتب أحاديث ، ثم يضع رأسه ، وكان يصلي كل ليلة آخر الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر بواحدة منها ، وكان يصلي بأصحابه في ليالي رمضان كل ليلة بثلث القرآن ويختم كل ثلاث ، ويقول : عند كل ختم دعوة مجابة وما وضع حديثا في الصحيح إلا وصلى عقبه ركعتين شكرا لله عز وجل ، وكان رضي الله عنه يأكل من مال أبيه لكونه حلالا ، وكان أبوه يقول ما أعلم من مالي درهما حراما ولا شبهة ومناقبه كثيرة مشهورة رضي الله تعالى عنه . ومنهم يزيد بن هارون الواسطي رضي الله تعالى عنه قال أحمد بن سنان ما رأيت عالما قط أحسن صلاة منه كان يقوم كأنه أسطوانة ، وكان رضي الله عنه يقول : من طلب الرياسة في غير أوانها حرمها وقت أوانها ، وكان إذا صلى العشاء لا يزال قائما يصلي حتى الغداة نيفا وأربعين سنة ، وكانت عيناه جميلتين ، فلم يزل يبكي حتى ذهبت إحداهما وعمشت الأخرى ، وقال له مرة إنسان أين تلك العينان الجميلتان ، فقال ذهب بهما بكاء الأحزان في الأسحار . توفي رضي الله عنه سنة ست وثمانين ومائتين رضي الله عنه . ومنهم يونس بن عبيد رضي الله تعالى عنه كان رضي الله عنه يقول : يعرف ورع الرجل في كلامه إذا تكلم ، وكان رضي الله عنه يقول : البر كله قد يشوبه شيء إلا ما كان من حفظ اللسان ، فإنه من البر ولا يشوبه شيء ، وذلك لأن الرجل قد يكثر الصلاة والصيام ويفطر على الحرام ولقوم الليل ويرائي بذلك ويقع في اللغو وشهادة الزور ، وإذا حفظ لسانه أرجو أن يبر عمله كله ، وكان يقول : لو أني وجدت درهما من حلال لاشتريت به برا ثم جعلته سويقا ثم سقيته للمرضى ، فكل مريض شرب شيئا شفاه الله عز وجل ، وكان رضي الله عنه يقول : خصلتان إذا صلحتا من العبد صلح ما سراهما أمر صلاته ولسانه ، وكان يقول : ما صلح لسان أحد إلا وصلح سائر عمله ، وكان يقول : إني لأعرف مائة خصلة من البر ما في واحدة منها . توفي رضي الله عنه سنة تسع وثلاثين ومائة . ومنهم عبد الله بن عون رضي الله تعالى عنه قال بكار رحمه الله تعالى كان ابن عون يقول : لا ينبغي للعاقل أن يعاتب أحدا في زماننا هذا فإنه أن عاتبه أعقبه بأشد مما عاتبه عليه ، وكان ابن بكار يقول : ما رأيت ابن عون يمازح أحدا قط لشغله بنفسه وبما هو صائر إليه ، وكان رضي الله عنه إذا صلى الغداة جلس في مجلسه مستقبل القبلة يذكر الله عز وجل إلى طلوع الشمس ، ثم يقبل على أصحابه ، وكان مالكا للسانه يصوم يوما ويفطر يوما ، وكان طيب الريح حسن الملبس وكان يخلو في بيته صامتا متفكرا وما دخل حماما قط وكان يكره أن يطلع أحد على شيء من أعماله وأخلاقه الحسنة ، وكان ابن مهدي رضي الله عنه يقول : صحبت عبد الله بن عون أربعا وعشرين سنة فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة واحدة ، وكان بارا بوالديه لم يأكل معهما قط في وعاء فقيل له في ذلك فقال أخاف أن يسبق بصرهما إلى لقمة فآخذها ودعته أمه يوما في حاجة فأجابها برفع الصوت ، فأعتق ذلك اليوم رقبتين كفارة لرفع صوته على صوتها ، وكان له ثور كثيرة يبيحها للسكان ولا يكريها لأحد من المسلمين خشية أن يروعهم عند طلب الأجرة . توفي رضي الله عنه سنة إحدى وخمسين ومائة رضي الله عنه . ومنهم عبد الله الصوري رضي الله عنه كان رضي الله عنه يقول : أعمال الصادقين بالقلوب وأعمال المرائين بالجوارح وكان رضي الله عنه يقول : في القلب وجع لا يبرئه إلا حب الله تعالى وكان رضي الله عنه يقول من ألزم نفسه شيئا لا يحتاج إليه ضيع من أحواله ما يحتاج إليه ، وكان يقول : إذا لم تنتفع بكلامك كيف ينتفع به غيرك ، وكان يقول : من تهاون بالسنن ابتلى بالبدع ، وكان يقول : من ادعى أنه من أهل الطريق ضعف عن فعل آدابها ولم يمت حتى يفتضح ، ومن محي اسمه من أهلها لم يمت حتى تشد إليه الرحال ، وكان يقول : كم من يضمر دعوى العبودية ولا تظهر عليه إلا أوصاف الربوبية ، وكان يقول من أعظم أخلاق الرجال أن يسلم الناس من سوء ظنك رضي الله عنه . ومنهم عبد الله بن عبد العزيز العمري رضي الله تعالى عنه كان رضي الله عنه متعبدا يسكن المقابر ، وكان تاركا لمجالسة الناس ويقول : ما رأيت أوعظ من قبر ولا أسلم للدين من الوحدة ، وكان يقول : من غفلتك عن الله تعالى أن تمر على ما يسخط الله عز وجل فلا تنهى عنه خوفا من الناس ، ومن ترك الأمر بالمعروف خوفا من المخلوقين نزعت منه هيبة الله عز وجل ، وكان رضي الله عنه يقول : إن الرجل ليسرف في ماله فيستحق الحجر عليه فكيف بمن يسرف في أموال المسلمين . توفي رضي الله عنه بالمدينة سنة أربع وثمانين ومائة وهو ابن ست وستين سنة رضي الله عنه . ومنهم أبو إسحاق إبراهيم الهروي رضي الله تعالى عنه صحب إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه ، وكان من أهل التوكل والتجريد . توفي رضي الله عنه بقزوين ، وكان أهل هراة يعظمونه فحج متجردا فكان من دعائه في تلك الحجة اللهم اقطع رزقي في أموال أهل هراة وزهدهم في وكان بعد رجوعه من الحج يأتي عليه الأيام الكثيرة لا يطعم فيها شيئا فإذا مر بسوق هراة سبوه وقالوا إن هذا ينفق في كل يوم وليلة كذا وكذا درهما ، وكان يقول أقمت في البادية لا آكل ولا أشرب ولا أشتهي شيئا فعارضتني نفسي أن لي مع الله عز وجل حالا فلم أشعر أن كلمني رجل عن يميني فقال : يا إبراهيم ترائي الله عز وجل في سرك ، ثم قال أتدري كم لي هاهنا لم آكل ولم أشرب ولم أشته شيئا وأنا زمن مطروح . قلت الله أعلم قال ثمانين يوما وأنا أستحي من الله عز وجل أن يقع لي خاطرك ولو أقسمت على الله تعالى أن يجعل لي هذا الشجر ذهبا لفعل فكان ذلك تنبيها لي رضي الله تعالى عنه . ومنهم أبو نعيم الأصفهاني رضي الله تعالى عنه صاحب الحلية والطبقات وغيرهما . ولد رضي الله عنه سنة ست وثلاثين وثلاثمائة وتوفي بأصفهان سنة ثلاثين وأربعمائة عن أربع وتسعين سنة أخرجه أهل أصفهان ومنعوه من الجلوس في الجامع فتولى على أصفهان السلطان محمود بن سكبتين وولى عليهم واليا من قبله ورحل عنها فوثب أهل أصفهان وقتلوه فرجع محمود إليها وأمنهم حتى اطمأنوا ثم قتلهم حتى أتى على أكثر من نصفهم وكانوا يعدون ذلك من كرامات أبي نعيم رضي الله عنه وأملى كتابه الحلية من صدره بعد أن نيف على الثمانين سنة . فصل في ذكر جماعة من عباد النساء رضي الله عنهن منهن معاذة العدوية رضي الله عنها ورحمها كانت إذا جاء النهار قالت هذا يومي الذي أموت فيه فما تنام حتى تمسي وإذا جاء الليل قالت هذه ليلتي التي أموت فيها فلا تنام حتى تصبح وكانت إذا غلبها النوم قامت فجالت في الدار وهي تقول يا نفس ، النوم أمامك ثم لا تزاد تدور في الدار إلى الصباح تخاف الموت على غفلة ونوم وكانت تصلي في اليوم والليلة ستمائة ركعة ولم ترفع بصرها إلى السماء أربعين عاما ولما مات زوجها لم تتوسد فراشا حتى ماتت ، أدركت معاذة رضي الله عنها عائشة رضي الله عنها وروت عنها . ومنهن رابعة العدوية رضي الله تعالى عنه كانت رضي الله عنها كثيرة البكاء والحزن وكانت إذا سمعت ذكر النار غشي عليها زمانا . وكانت تقول : استغفارنا يحتاج إلى استغفار وكانت ترد ما أعطاه الناس لها وتقول : مالي حاجة بالدنيا ، وكانت بعد أن بلغت ثمانين سنة كأنها شن بال تكاد تسقط إذا مشت ، وكان كفنها لم يزل موضوعا أمامها ، وكان بموضع سجودها وكان موضع سجودها كهيئة الماء المستنقع من دموعها . وسمعت رضي الله عنها سفيان يقول : واحزناه فقالت له : واقلة حزناه ولو كنت حزينا ما هناك العيش ، ومناقبها كثيرة رضي الله تعالى عنها ومشهورة . ومنهن ماجدة القرشية رضي الله تعالى عنها كانت رضي الله عنها تقول : ما حركة تسمع ولا قدم يوضع إلا ظننت أني أموت في أثرها وكانت رضي الله عنها تقول : يا لها من عقول ما أنقصها سكان دار أوذنوا بالنقلة وهم حيارى يركضون في المهلة كأن المراد غيرهم والتأذين ليس لهم ولا عني بالأمر سواهم وكانت رضي الله عنها تقول لم ينل المطيعون ما نالوا من حلول الجنان ورضا الرحمن إلا بتعب الأبدان . ومنهن السيدة عائشة بنت جعفر الصادق رحمها الله المدفونة بباب قرافة مصر رضي الله عنها : كانت رضي الله عنها تقول : وعزتك وجلالك لئن أدخلتني النار لآخذن توحيدي بيدي وأدور به على أهل النار وأقول لهم وحدته فعذبني . توفيت سنة خمس وأربعين ومائة رضي الله عنها . ومنهن امرأة رباح القيسي رضي الله عنها كانت رضي الله عنها تقوم الليل كله وكانت إذا مضى الربع تقول له قم يا رباح للصلاة فلا يقوم فتقوم ، ثم تأتيه وتقول له قم يا رباح فلم يقم فتقوم الربع الآخر ، ثم تأتيه وتقول : قم يا رباح فلا يقوم فتقوم الربع الآخر إلى تمام الليل ثم تأتيه وتقول قم يا رباح قد مضى عسكر الليل وأنت نائم ، فليت شعري من غرني بك يا رباح ما أنت إلا جبار عنيد . وكانت رضي الله عنها تأخذ تبنة من الأرض وتقول والله للدنيا أهون علي من هذه وكانت إذا صلت العشاء تطيبت ولبست ثيابها ثم تقول لزوجها : ألك حاجة فإن قال لا نزعت ثياب زينتها وصلت إلى الفجر رضي الله عنها . ومنهن فاطمة النيسابورية رضي الله تعالى عنها كان ذو النون المصري رضي الله عنه يقول : فاطمة أستاذتي وكانت رضي الله عنها تقول من لم يراقب الله تعالى في كل حال فإنه ينحدر في كل ميدان ويتكلم بكل لسان ومن راقب الله تعالى في كل حال أخرسه إلا عن الصدق وألزمه الحياء منه ، والإخلاص له وكانت تقول : من عمل لله على مشاهدة الله إياه فهو مخلص وكان أبو يزيد يقول : عنها ما رأيت امرأة مثل فاطمة ما أخبرتها عن مقام من المقامات إلا الخبر كان لها عيانا . ماتت في طريق العمرة بمكة سنة ثلاث وعشرين ومائتين . ومنهن رابعة بنت إسماعيل رضي الله عنها كانت تقوم من أول الليل إلى آخره وكانت رضي الله عنها تقول : إذا عمل العبد بطاعة الله تعالى أطلعه الجبار على مساوئ عمله فتشاغل بها دون خلقه وكانت تصوم الدهر وتقول ما مثلي يفطر في الدنيا ، وكانت تقول لزوجها لست أحبك حب الأزواج وإنما أحبك حب الإخوان ، وكانت تقول ما سمعت الأذان قط إلا ذكرت منادي يوم القيامة ولا رأيت الثلج قط إلا ذكرت تطاير الصحف ، ولا رأيت حرا إلا ذكرت الحشر ، وكانت رضي الله عنها تقول : ربما رأيت الجن يذهبون ويجيئون وربما رأيت الحور العين يستترن مني بأكمامهن . ومناقبها كثيرة رضي الله عنها . ومنهن أم هارون رضي الله تعالى عنها كانت من الخائفين العابدين وكانت تأكل الخبز وحده وكانت تقول : ما أنشرح إلا بدخول الليل فإذا طلع النهار اغتممت وكانت تقوم الليل كله وتقول إذا جاء السحر دخل قلبي الروح . وخرجت مرة فسمعت قائلا يقول خذوها فوقعت مغشيا عليها وما دهنت رأسها بدهن منذ عشرين سنة ، وكانت إذا كشفت رأسها وجد شعرها أحسن من شعور النساء ، وكانت إذا عرض لها الأسد في البرية قالت له : إن لك في رزقا فكل فيولي راجعا عنها رضي الله عنها . ومنهن عمرة امرأة حبيب رضي الله تعالى عنها كانت تقوم الليل ، كله فإذا جاء السحر قالت لزوجها قم يا رجل قد ذهب الليل وجاء النهار وانقض كوكب الملأ الأعلى وسارت قوافل الصالحين وأنت متأخر لا تدركهم . واشتكت من عينيها مرة فقيل لها ما حال وجع عينيك ، قالت وجع قلبي أشد رضي الله تعالى عنها . ومنهن أمة الجليل رضي الله تعالى عنها كانت من العابدات الزاهدات ، واختلف مرة العابدون في تعريف الولاية على أقوال فقالوا امضوا بنا إلى أمة الجليل فقالوا لها ما الذي عندك من تعريف الولاية ؟ فقالت ساعات الولي ساعات شغل عن الدنيا ، ساعة لا يتفرغ منها لشيء دون الله عز وجل ثم قال لواحد منهم من حدثكم أن وليا لله تعالى له شغل بغير الله تعالى فكذبوه رضي الله عنها . ومنهن عبيدة بنت أبي كلاب رضي الله تعالى عنها كانت تتردد إلى مالك بن دينار . وسمعت شخصا يقول لا يبلغ المتقي حقيقة التقوى حتى لا يكون شيء أحب إليه من القدوم على الله عز وجل فخرت مغشيا عليها ، وكانت تقول : لا أبالي على أي حال أصبحت أو أمسيت وكان الناس يقدمونها على رابعة رضي الله عنهما . ومنهن حفيرة العابدة رضي الله عنها دخل عليها العابدون رضي الله عنهم يوما يزورونها فقالت لهم : ما شأنكم قالوا نسألك الدعاء قالت لو أن الخاطئين خرسوا ما تكلمت عجوزكم من البكم ولكن الدعاء سنة ، ثم قالت جعل الله قراكم من نبق الجنة ، وجعل ذكر الموت مني ومنكم على بال ، وحفظ علينا الإيمان إلى الممات وهو أرحم الراحمين . ومنهن شعوانة رضي الله تعالى عنها كانت رضي الله تعالى عنها لا تفتر عن البكاء فقيل لها في ذلك قالت والله لوددت أن أبكي حتى تنقطع دموعي ثم أبكي دما حتى لا يبقى جارحة من جسدي فيها دم وكانت تقول من لم يستطع البكاء فليرحم الباكين ، فإن الباكي إنما يبكي لمعرفته بنفسه وما جنى عليها وما هو سائر إليه ، وكانت تبكي وتقول : إلهي إنك لتعلم أن العطشان من حبك لا يروى أبدا ، وكانت التي تخدمها تقول من منذ وقع بصري على شعوانة ما ملت قط إلى الدنيا ببركتها ولا استصغرت في عيني أحدا من المسلمين وكان الفضيل بن عياض رضي الله عنه يأتيها ويتردد إليها ويسألها الدعاء . ومنهن آمنة الرملية رضي الله عنها كان بشر بن الحارث رضي الله عنه يزورها ومرض بشر مرة فعادته آمنة من الرملة فبينما هي عنده إذ دخل الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه يعوده كذلك فنظر إلى آمنة رضي الله تعالى عنها فقال لبشر من هذه ؟ فقال له بشر هذه آمنة الرملية بلغها مرضي فجاءت من الرملة تعودني ، فقال أحمد لبشر رضي الله عنهما فاسألها تدعو لنا فقال لها بشر : ادعي الله لنا فقالت اللهم إن بشر بن الحارث وأحمد بن حنبل يستجيران بك من النار فأجرهما يا أرحم الراحمين ، قال الإمام أحمد رضي الله عنه فلما كان من الليل طرحت إلى رقعة من الهواء مكتوب فيها : بسم الله الرحمن الرحيم قد فعلنا ذلك ولدينا مزيد . رضي الله عنهم . ومنهن منفوسة بنت زيد بن أبي الفوارس رضي الله تعالى عنها كانت إذا مات ولدها تضع رأسه على حجرها وتقول والله لتقدمك أمامي خير عندي من تأخرك بعدي ولصبري عليك أولى من جزعي عليك ولئن كان فراقك حسرة فإن في توقع أجرك لخيرة ثم تنشد قول عمرو بن معد يكرب رضي الله تعالى عنه . وإنا لقوم لا تفيض دموعنا . . . على هالك منا وإن قصم الظهر ومنهن السيدة نفيسة ابنة الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ولدت رضي الله عنها بمكة وكان مولدها سنة خمس وأربعين ومائة ونشأت في العبادة وتزوجت بإسحاق المؤتمن ورزقت منه بولدين القاسم وأم كلثوم وأقامت رضي الله عنها بمصر سبع سنين وتوفيت إلى رحمة الله تعالى سنة ثمان ومائتين وخرج زوجها من مصر بولديها القاسم وأم كلثوم ودفنوا بالبقيع على خلاف في ذلك ، قاله ابن الملقن . ولما دخل الإمام الشافعي رضي الله عنه مصر كان يتردد إليها ، ويصلي بها التراويح في رمضان في مسجدها رضي الله تعالى عنهما .
Bogga 98