وبعد أن جلنا جولة خاشعة في الهيكل المقدس انتهينا إلى الضريح، وهو لا يزال مغطى بشبه تابوت من الرخام الأبيض يحيط إحاطة تامة بالصخر الأول الذي حفر فيه القبر، فشاهدنا مصابيح من الذهب والفضة تنير المعبد بدون انقطاع، ونشقنا فيه عطورا تحترق ليل نهار.
إن هذا القبر - في نظر المسيحي أو في نظر الفيلسوف، في نظر الحكيم أو في نظر المؤرخ - إنما هو الحد الفاصل بين عالمين، بين العالم القديم والعالم الجديد، وهو المركز الأساسي لفكرة جددت العالم، وحضارة بددت كل شيء، وكلمة دوت في الكرة الأرضية من أطرافها إلى أطرافها، وهو ضريح العالم القديم ومهد العالم الجديد. فما من حجر في هذا الملأ الأسفل استطاع أن يكون أساسا لهيكل كهذا الهيكل، وما من ضريح خصب خصبه، وما من مبدأ دفن ثلاثة أيام أو ثلاثة قرون استطاع أن يسحق بمثل هذا الانتصار الصخر الذي أغلقه الإنسان على هذا المبدأ ويكذب الموت بقيامة طلقة مستمرة.»
وكان ثمة حزن عميق ينتظر عودة لامرتين إلى بيروت؛ ففي السابع من شهر كانون الأول ماتت ابنته جوليا البالغة من العمر عشر سنوات على أثر داء في الصدر حملت جرثومته من فرنسا.
ولقد رأينا أن ننقل هنا رسالة ثمينة كتبها ده بارسيفال، صديق لامرتين ورفيقه في رحلته، وهي تتضمن عن مرض جوليا وموتها، تفاصيل لم تكتب في موضع آخر. أما الرسالة هذه فقد وجدت في حوزة الدكتور كابانيس الذي نشرها في جريدة «البحاثون والمتطفلون» في 30 حزيران سنة 1913، وهذا نصها:
سيدتي
كلفني السيد والسيدة ده لامرتين أن أطلعك على الفاجعة الأليمة التي حلت بهما، فالموت قد اختطف ابنتهما الوحيدة، على حين لم يكونا يتوقعان هذه الضربة. فبعد الحمى الخفيفة وتقيوءات الدم التي انتابت جوليا في ماكون، قبيل المجيء إلى سوريا، تحسنت حالة الفتاة وبعد الخطر عنها، وصارت فرحة ضاحكة مشرقة. ولقد عزونا هذا التحسن إلى عذوبة المناخ الذي تمتعنا به، وإلى العناية التي احتيطت بها؛ على أن الفصل الرديء لم يكد يحل حتى اعتادها السعال وتعب الحنجرة والحمى الخفيفة.
ولقد اعتنى بها طبيب كان السيد ده لامرتين قد صحبه معه في الرحلة، وطبيب إنكليزي آخر لا يقل عن الأول خبرة وعلما؛ على أن جميع المساعي ذهبت أدراج الرياح، فماتت جوليا وهي بين ذراعي والدها وأمها المسكينة، من غير أن تقاسي كثيرا من الآلام وبدون نزع ...
ده بارسيفال
بيروت، 15 كانون الأول 1832
كان حزن الشاعر على وحيدته عميقا جدا، حتى خيل إليه أن سعادته قد تحطمت إلى الأبد، وكأنه لم يشأ أن يغادر ذلك الهيكل الميت في أرض لم يولد بها آباؤه، فحنط جوليا ودفنها دفنا موقتا على قدم خروبة مزروعة بالقرب من داره.
Bog aan la aqoon