وقد استطعت بفضل مكتبة الكيلاني أن أنتقل إلى الأدب الكبير دون أن أشعر بأي جهد ، فحين بدأت قراءته سيطرت علي متعة القراءة، وانتقلت بعد ذلك إلى تيمور، ثم في غير ترتيب زمني رحت أقرأ للعمالقة مبهورا بهالة العوالم التي تفتحت آفاقها أمام عقلي ووجداني وكياني كله وأنا أقرأ لطه حسين وهيكل والعقاد والزيات وأحمد أمين والمازني الذي كثيرا ما جعلني أقهقه وأنا أقرؤه وحدي في غرفة مغلقة، وتعلو قهقهتي ويسمعها الذين بخارج الغرفة، والله وحده يعلم ماذا كان يظن بي الجالسون خارج الغرفة.
وأذكر في هذه الأيام أنني كنت في مدرسة المنيرة الابتدائية، وقد تضحك كثيرا إذا علمت أنني كنت في فريق الكشافة، ورقيت في هذا الفريق حتى أصبحت رئيسا للفريق، وقبل أن أحصل على الابتدائية اشترى أبي بيتا جديدا في العباسية، وظللت بضعة أسابيع أستقل ترام رقم 22 لأذهب من العباسية إلى المنيرة، ولكن هذا كان يكلفني أن أصحو مبكرا عن موعد المدرسة بساعة أو أكثر، وقد عشت عمري أكره شيء إلى نفسي أن أبكر في الاستيقاظ، وما هذا إلا لأنني كنت أسهر إلى ساعات متأخرة من الليل أقرأ، وكانت القراءة تستهويني، وتبتلعني حتى ما أفيق إلى الساعة التي أنا فيها، وقد ظللت عمري كله لا أنام إلا بعد أن أقرأ، وقد أقرأ أربع ساعات متصلة أو أقل أو أكثر، ولكن لا بد أن أقرأ على أي حال، حتى في رأس البر، ولم تكن الكهرباء متاحة لي فكنت أضع على صدري بطارية جيب وأقرأ عليها حتى يخفت نورها وتصبح الكلمات غير مقروءة فأنام مرغما.
وهكذا انتقلت إلى مدرسة العباسية الابتدائية في منتصف العام الذي كان مفروضا أن أتقدم فيه لنيل الشهادة الابتدائية.
والحقيقة أنني ليست لي ذكريات كثيرة في مدرسة العباسية إلا أنه كان لنا مدرس حبيب إلى نفوسنا نحن التلاميذ اسمه التاجي أفندي، ومنذ أسابيع قليلة التقيت بطبيب يحمل نفس الاسم، فإذا به ابنه الذي يبلغني أن أباه - أطال الله عمره - يتمتع بصحة جيدة والحمد لله، وكان الأستاذ التاجي هو المسئول عن فريق الكشافة وما إن علم أنني كنت رئيس الكشافة في مدرسة المنيرة حتى جعل مني رئيس الكشافة في مدرسة العباسية أيضا.
ومن بين تلاميذ فصلي زميل لي لن أذكر اسمه حفاظا مني على حق الزمالة، جاء في الحصة رسول إلى هذا الزميل فأبلغه بموت أبيه فرحنا جميعنا نعزيه وخرج التلميذ، وانقضى العام وتفرق فصلي.
ومرت أعوام ودخلت إلى كلية الحقوق وأصبح أبي وزيرا للأوقاف من بين الوزارات التي تولاها في هذه الفترة، وفوجئت بهذا الزميل يرسل إلي خطاب توصية لأعين حامله إماما بأحد المساجد، واهتممت بالشيخ وأخذته معي في السيارة لأذهب به إلى وزارة الأوقاف، وبعد المنزل ببضعة أمتار توقفت السيارة في حاجة إلى بنزين فنزلت وناديت خادما من بيتنا ليأتيني من والدتي بثمن البنزين، وكان كل ما أطلبه لا يزيد على عشرة قروش، فقد كانت سيارتي صغيرة وكان البنزين يباع في هذه الأيام بوحدة الجالون، وكان الجالون أربعة لترات، وقد كانت كافية أن أسير بالسيارة يومين أو أكثر، وفي انتظار القروش العشرة نزلت من السيارة أنا والشيخ، وإذا بالشيخ يخرج من جيبه ظرفا فيه بضعة نقود جديدة قدرت بالنظرة السريعة أنها خمسة جنيهات وقدم الشيخ النقود إلي، وفي لحظة وجدت الدماء تصعد إلى رأسي، وأتناول النقود وأمزقها وألقي بها إلى الأرض وما زلت ألوم نفسي على هذا الذي فعلته حتى اليوم، لا يخفف عني اللوم إلا أنني حين مزقت النقود لم أجعلها غير صالحة للاستعمال بعد ذلك.
وطردت الرجل الذي راح يلملم النقود وانصرف، ومرت السنوات وتزوجت وأقمت بشقة بالزمالك، وكنت مع زوجتي في سينما في الحفلة الأخيرة وعدت إلى منزلي الساعة الثانية عشرة مساء تقريبا، فوجدت هذا التلميذ الذي أبلغ بموت أبيه في فصلنا بالعباسية ودهشت لوجوده، فإذا به يبلغني أن أباه مات اليوم، وأنه لا يملك ما يدفنه به وطلب مني مبلغا من المال لم يكن من اليسير وجوده في هذه الأيام ورحنا أنا وزوجتي نجمع ما معنا حتى أكملنا المبلغ وأعطيته له وأنا أعلم كذبه، وأغلب الأمر أنه نسي أنني شهدت علمه بموت أبيه قبل اليوم الذي قصد إلي فيه بأكثر من أحد عشر عاما ولعله توهم أنني نسيت ذلك اليوم.
ولم أقل له إنني أذكر يوم وفاة أبيه، ولكنني لم أره بعد ذلك اليوم، ولعله رأى في عيني ما حاولت أن أخفيه عنه.
انتقلت بعد ذلك إلى مدرسة فاروق الثانوية وربما كانت أفخم مدرسة في مصر في ذلك الحين، فقد كانت حديثة الإنشاء والذي أنشأها رجل التعليم الشهير الأستاذ إسماعيل القباني على أساس أن تكون مدرسة نموذجية، وتولى هو نظارتها، ولكنني حين ذهبت إليها كان قد تركها، وكان الناظر فيها الأستاذ العظيم عبد الواحد بك خلاف، ثم تلاه الرجل العظيم الآخر نجيب هاشم الذي أصبح بعد ذلك وزيرا للتعليم، ثم سفيرا لمصر في الفاتيكان. ولعله من الطريف أن أروي أنه كان سفيرا في أول مرة أزور أنا فيها روما مقر سفارته، وقبل سفري عثرت على خطاب منه إلى أبي يشكو فيه من كثرة تغيبي عن المدرسة، وعلى ظهر الخطاب رد أبي الذي كتبه لينقله سكرتيره ويرسله إلى حضرة الناظر، وكان خطاب أبي يحث نجيب بك أن ينزل بي ما يشاء من عقاب، وأن أبي من جهته سيحرص على ألا أتغيب عن المدرسة، وقد استقبلني نجيب بك في روما أحسن استقبال وقدمت له هذا الخطاب الذي لا يشرفني، وضحكنا كثيرا مما يحويه، وقد تفضلت السيدة الكريمة باصطحابي أنا وزوجتي إلى كثير من معالم روما ونوافيرها، وكنت في ذلك الحين قد أصبحت أديبا معروفا وكنت حصلت قبل زيارتي لروما بعشر سنوات على جائزة الدولة التشجيعية، وهكذا كان نجيب بك سعيدا بي سعادة أب بابنه، وقد كان محقا في شكواه من تغيبي فقد كنت قارئا متهوسا، ولم أكن أترك المدرسة لأذهب إلى أي مكان، وإنما كنت أنزل من الطابق الأعلى في بيتنا وأتسرب إلى حجرة في الطابق الأدنى وأقفل الباب وأروح أقرأ في كتب الأدب.
وكان كبير الخدم عندنا اسمه عم أحمد، وكنا نناديه بلقب عم أحمد توقيرا له، وفوجئت يوما وأنا في خلوة قراءتي بباب الحجرة يكاد ينخلع من شدة الخبط عليه، وفزعت إلى الباب وفتحته، فإذا بوالدتي أمامي تتميز من الغيظ، ولولا أنني كنت قد تجاوزت الطفولة إلى مطالع الشباب لانهالت علي ضربا، وأمرتني أن أذهب إلى المدرسة فورا، فقد كانت أمي حريصة حرصا مبالغا فيه أن أنال الشهادة العالية لدرجة أنني كنت إذا ظهرت نتيجة العام وأنا لي ملحق في مادتين أو أكثر تمرض والدتي بضعة أيام وتمتنع عن الطعام. وكان حزن والدتي يتمثل في النوم، كانت إذا حزنت نامت، وهذا من لطف الله بها وكانت رحمها الله تستحق هذا اللطف من الله، فإني لم أعرف أما رءوما في مثل حنانها، وكانت تعين البائسين وذوي الحاجة، وتسعى لهم لدى أبي حتى يقضي حوائجهم، ولا أذكر أنها تأخرت عن قاصد لها مطلقا.
Bog aan la aqoon